تظهر هذه المجموعة من الأحاديث والفصول في وقت من الأوقات الحاسمة في تطور المذاهب الهدامة؛ لأنها تنتهي الآن إلى مصيرها الأخير من ناحيته الأدبية، ويبدو من بوادر كثيرة أنها منتهية لا محالة إلى مصير كهذا المصير الأخير من ناحيتها الاجتماعية.
وكل ما ثبت من حق المذاهب الهدامة في الظهور من الناحية الاجتماعية أنها ظهرت في بلاد تقوضت نظمها العتيقة وتعذر بقاؤها لعجزها عن مواجهة الزمن ومطالبه، فظهرت المذاهب الهدامة لأن النظم التي سبقتها لم يكن لها حق البقاء، ولم تظهر لأنها هي ذات حق في البقاء، ولم تبق بعد ذلك عاما واحدا إلا بجهد جهيد في الترقيع والتعديل، حتى أصبحت اليوم وليس فيها من قواعدها التي تدعي أنها قامت عليها غير العناوين.
فهم يعترفون اليوم في بلاد تلك المذاهب بالملكية الفردية ويفتحون الباب واسعا للتفاوت بين الأجور وأنماط المعيشة، ويسمحون بتثمين الحاجيات على حسب العرض والطلب، ويعرضون الكماليات التي تباع بالألوف ولا يطمع في اقتنائها أجير من عامة الصناع، ومن رأى رؤساءهم في المحافل الدولية رآهم أفخر وأعظم ترفا من أقرانهم الوزراء والرؤساء في بلاد رأس المال.
وقد اعترفوا بالوطنية التي كانوا يحسبونها خدعة من خدع الطبقات المستغلة وتغاضوا أخيرا جدا عن المعابد والشعائر الدينية وبالغوا في تحيتها حيث نزلوا من بلاد الشعوب المتدينة، ولا يستطيع من يرقب أحوالهم في بلادهم أن يزعم أنهم يتقدمون في تطبيق الماركسية سنة بعد سنة، بل يعتقد أنهم يرجعون بعد أربعين سنة عن مبدأ أو عن دعوى بعد دعوى. فلا تنقضي أربعون سنة أخرى إلا وقد أصبحوا مع سائر الأمم على شقة متساوية بينهم وبين تلك الماركسية.
أما مذاهب الهدم التي شاعت في عالم الأدب والثقافة فلا حياة لها في مواطنها.
ماتت الرمزية في الأدب الفرنسي، وماتت قبل ذلك في الأدب الأمريكي الذي تظهر فيه أحيانا طائفة من الآراء على سبيل المحاكاة للمذاهب الأوروبية، ولكنها محدودة قليلة الأتباع.
ونحن لا نحسب جورج أورويل
Orwell
زعيم الرمزيين الأمريكيين واحدا من أدباء هذه المدرسة. لأن الأسلوب الرمزي أسلوب تعبير وليس بأسلوب تشخيص أو خلق للشخوص والأبطال. وقد اختار أورويل في بعض قصصه أن يجعل شخوصها من الحيوانات العجماء، ولكنه ألقى الكلام على ألسنتها صريحا مستقيما كما يتكلم به الحيوان الناطق، وليس هذا من الرمزية «التعبيرية» في شيء.
ولحقت الوجودية المريضة بالرمزية المتداعية إلى هذا المصير، فهي اليوم «إباحية» سافرة لا فرق بين من يتعاطونها وبين سائر الإباحيين في كل زمن، وسقط عنها ذلك البرقع الذي كانت تتراءى من خلفه بوجه جديد.
Page inconnue