أما اليوم فالشاب يتعلم في مدرسة بعد مدرسة حتى يبلغ الخامسة والعشرين أو يجاوزها أحيانا إلى الثلاثين. فهو يقضي فورة الشباب الأولى في دور التعليم. لا يزاول تجارب الحياة، ولا تثقله تكاليف المسئولية، ولا تتيسر له المعيشة الزوجية قبل إتمام تعليمه، واستعداده للعمل في المجتمع، أو في وظائف الحكومة، ومع خلوه من المسئوليات والتجارب التي تضطره إلى التأني والتردد، لا يزال في قلق الشباب مشتركا مع المئات من أقرانه في مثل هذا القلق، ومثل هذا الخلو من المسئولية، وهذه فرصة سانحة لمن ينشرون دعوات الهدم والفوضى ، فإذا استغلوا فرصتهم فهناك أسباب غير العقد النفسية تفسر هذا الاستغلال، أو تفسر موقف الشاب العصري من تلك الدعوات.
وهذا الشاب الذي يتعلم حتى يناهز الثلاثين، يفوق في المعرفة أنداده من أبناء العصور الماضية بلا مراء، ولكنه لا يفوقهم في الخبرة، ولا في المسئولية. لأن الشاب في العصور الماضية إذا بلغ الثلاثين كان صاحب أسرة ومسئولية، وكان قد مارس التجارب عدة سنين، فهو يعوض بالتجربة والمسئولية ما فاته من المعارف المدرسية التي يتعلمها الشبان العصريون في هذه الأيام.
على أن المعرفة القليلة كانت كافية للشاب في العصور الماضية؛ لأن المسائل العامة التي تشغله قلما تتخطى حدود قريته أو حدود وطنه، وهي لا تتطلب منه رأيا جديدا، أو حلا جديدا لمشكلات ذلك الوطن أو تلك القرية.
أما اليوم فأخبار العالم من جميع القارات تصل إلى البيوت في كل قطر وكل بلدة: تصل من طريق الإذاعة، أو من طريق الصحف، أو من طريق الصور المتحركة. فالمعارف الكثيرة التي يتلقاها الشاب العصري في المدرسة لا تكفي لإدراك مشكلات العالم بأسره، ولا تغني في الإحاطة بأسبابها ودواعيها ووجوه النظر فيها، ومنها ما يحتاج إلى دراسة التاريخ الإنساني من أوله، ومنها ما تشتبك فيه معضلات العلم والاقتصاد والسياسة والتشريع، فهو بالنسبة إلى أنداده في العصور الماضية أقل منهم قدرة على فهم مشكلاته وتدبير سلوكه، وإن كان أوفر نصيبا في الدرس والاطلاع.
وإذا أردنا أن نضرب مثلا للفرق بينهما، قلنا: إن الشاب في العصور الماضية كان يستضيء بشمعة واحدة ولكنها تنير له مسكنه كله، لأنه كان يسكن في حجرة صغيرة.
أما الشاب العصري فإنه يستضيء بعشرات الشموع، ولكنه لا يزال في الظلام، لأنه يريد أن يضيء منزلا متعدد الغرف والحجرات. •••
وهناك فارق آخر بين الشاب العصري والشاب في العصور الماضية، يرجع أيضا إلى اختلاف النظم الاجتماعية والسياسية، ولا يرجع إلى مرض من أمراض النفس المزعومة، ولكنه فارق يؤثر في اختلاف الموقف بينهما من ناحية المذاهب أو الآراء الاجتماعية.
هذا الفارق الكبير هو فارق الحرية في العصور الحديثة.
ففي العصور الماضية كانت سياسة الدول سرا من أسرار القصور لا يطلع عليها أحد غير حكام الدول والمقربين إليهم، وإذا اتصل خبر من أخبارها بعامة الناس تلقوه بين التصديق والتكذيب، واغتبطوا بالاطلاع عليه والتحدث فيه، كأنهم قد اطلعوا على نبأ من أنباء العالم الآخر، ولم يكن خبر من هذه الأخبار ينتشر بين الناس في صورة الوقائع العلنية التي يتناولها الكلام الصريح والتعليق المتواتر، سواء كان ذلك الخبر من الأسرار الشخصية الخاصة، أو من أسرار الدولة ومعلومات السياسة العليا كما يقولون في هذه الأيام.
وكان من نتيجة هذا الكتمان الذي يحيط بأعمال الحكام وأحوالهم أن عيوبهم ونقائصهم ظلت مجهولة مشكوكا فيها، ولم تكن على الأقل موضوع الأحاديث الشائعة في المحافل والبيوت، فاحتفظوا بالهيبة التي تعصمهم من الابتذال، وأحاطت بهم شعائر التوقير التي توجب الثقة والاطمئنان.
Page inconnue