Idées et Hommes: L'histoire de la pensée occidentale
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Genres
مؤسسات الثقافة في العصور الوسطى
أول ما يجب أن يتضح في الأذهان فيما يتعلق بثقافة العصور الوسطى هو أنه كان من المحتم عليها أن تبني في بطء على ما ليس من باب المجاز أن نسميه بالخرائب. وقد شهدت العصور المظلمة - بالرغم من أنها لم تكن منقطعة الصلة تماما بمجموعة الخيوط المعقدة التي تربطنا بالماضي - انقطاع جميع هذه الخيوط تقريبا ونحولها. وليس بوسعنا هنا أن نحاول قياس مدى هذا الانقطاع. ولعله كان كاملا في المستويات العليا من السياسة والإدارة والحياة الاقتصادية، ولم يكن بمستطاع أحد أن يقوم بعمل على نطاق واسع - في التجارة، أو شئون الدولة، أو الاجتماع على أية صورة من الصور - سوى الكنيسة الكاثوليكية بطبيعة الحال. وبقيت الكنيسة خلال هذه العصور المؤسسة «الأوروبية» الوحيدة التي كانت تعمل فعلا، والتي كانت متماسكة فعلا؛ إذ إنا لا نستطيع أن نعد تقاليد الإمبراطورية الرومانية، أو حتى قوانينها، من المؤسسات المستقرة الفعالة ذات الأثر في هذه القرون. ويبدو أن بعض البلديات الرومانية على الأقل قد استمر، وحتى الكنيسة قد جمعت بحلول القرن العاشر عددا من المساوئ، مثل زواج القسس أو اقتنائهم المحظيات، وبيع وظائف الكنيسة، والعلمانية بجميع ضروبها، مما كان يتطلب الإصلاح العاجل.
وقد اختفت من أوروبا بهذه الصورة كل مظاهر الحضارة المدنية تقريبا. ولم تعد المدن في غرب أوروبا سوى أسواق محلية. وأما تلك المدن التي كانت تقترب من تصورنا للحياة المدنية فقد كانت عادة مراكز لإدارة الكنيسة، ومقرا للأساقفة وكبار الأساقفة، أو كانت تنمو حول مراكز الأديرة العظمى. وكان الناس في أغلب الأحيان يعيشون في قرى زراعية صغيرة تكتفي بذاتها من الناحية الاقتصادية. وندرت التجارة، وانحصر أكثرها في أدوات الترف، أو في المعادن اللازمة لتسليح السيد الإقطاعي وصنع سيوفه. وحتى الطرق الرومانية قد هجرت، وانحصر الارتحال في السير على الأقدام أو على ظهور الخيل. وانقسم المجتمع انقساما واضحا إلى الرؤساء المحاربين الإقطاعيين والفلاحين وأرباب الحرف. وكادت تنعدم الطبقة الوسطى. واقتتل الرؤساء المحاربون فيما بينهم، مما كان يؤثر عادة في ضعف محصول العامة وفيما يملكون. ولكن الفلاحين على الأقل لم يتحتم عليهم القتال.
أما في فترات الهبوط في القرن السابع أو القرن العاشر، فقد تم انقطاع خيوط ثقافية أخرى كثيرة، واحتفظت الكنيسة بالتفكير الرسمي، ولم تختف اللاتينية اختفاء تاما قط. غير أن لاتينية العصور المظلمة كانت - على أية حال - لاتينية مبسطة ولا تسير أحيانا وفقا لقواعد اللغة. وقد اهتمت الكتابة الجديدة كلها تقريبا بأمور الدين، وكانت في أغلب الأحيان مجرد جمع لأعمال قديمة وشرح لها. أما ما يسمى أحيانا بالنهضة الكارولنجية في القرنين الثامن والتاسع، التي ترتبط بالإمبراطور شرلمان، فلا تكاد تعدو مجرد إحياء مبدئي للاتينية تكون أشد التزاما لقواعد اللغة، وبداية للتربية الرسمية التي تتميز بها العصور الوسطى، والتي سوف نعود إليها بعد حين.
ولكنا يجب ألا نغالي؛ ففي القمة كانت الكنيسة الكاثوليكية متماسكة، وفي الأسفل، في الحياة المحلية، في الأمور التي تمس حياة الفرد، كانت هنالك خيوط كثيرة متماسكة. وربما كانت وسائل الحصول على العيش في جملتها أقل معاناة مما ظن مؤرخو القرن التاسع عشر. وبالرغم من أن المهارات الزراعية قد هبطت عن أعلى مستوى روماني، فإن هذا المستوى كان أبعد ما يكون عن الانتشار الكامل في الإمبراطورية، وربما عانت كذلك المهارات الفنية بالمعنى التقني، كما أن الخيوط التي تربط الأستاذ بالتلميذ قد وهنت، ولكن ما برح هناك - بالرغم من هذا - شيء من النحت في الحجر على مستوى ممتاز في كل قرن من القرون تقريبا. ولعل الرغبة في الإخلاص لنقل الطبيعة في الفن نقلا فوتوغرافيا قد اختفت. ولكن القدرة عليها ما زالت قائمة. ومع أن مهارات الصانع العادي في النسج، والأسلحة والأثاث، وما إلى ذلك، قد اخشوشنت، إلا أنها لم تختف على الإطلاق. وقد أدخل الرهبان الذين طهروا الغابات وجففوا المستنقعات وسائل جديدة، وحسنوا، واخترعوا.
وأخذ هيكل الحضارة برمته يعود تدريجا، ولم يعد ينكر وجود ثقافة كاملة التطور في ذروة العصور الوسطى؛ أي في القرن الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، إلا من يكره كل شيء وسط كراهية عمياء. وقد بلغت الثقافة في مراكز هذا العالم الجديد في فرنسا، وإنجلترا، والأراضي المنخفضة، وشمالي إيطاليا، والراين - من الناحية المادية - مثل ذلك المستوى الذي بلغه الإغريق والرومان. أما من الناحية العقلية والناحية العاطفية فإن هذه الثقافة الجديدة تمثل أسلوبا من الحياة، لا يزال يفتتن به الكثيرون حتى اليوم كما ذكرنا.
وبقيت الكنيسة في ذروة العصور الوسطى المركز العظيم للحياة العقلية. وظهرت في المجتمع الغربي لأول مرة تربية منظمة متدرجة تخضع للرقابة العامة. ولم تكن تربية عالمية، ولكنها كانت تربية متاحة للصبيان الأذكياء حقا - المنكبين على الكتب (ولم تتح للبنات بطبيعة الحال)، حتى من كان منهم من أدنى الطبقات. ولم يكن الإشراف العام من حق مراقبة بيروقراطية وحيدة، كمراقبة الولاية، على التعليم. وإنما كانت للكنيسة الكاثوليكية، بأعضائها العديدين للتربية والإدارة، وبأكليروسها المنظم تنظيما يدعو إلى الإعجاب، وبرأسها الأعلى ممثلا في البابا.
وقد نشأت المدارس الأولية حول مراكز الأديرة، أو كملحقات للكاتدرائيات وأحيانا كمدارس في المدن. وكانت تعلم مبادئ الأشياء، واللاتينية خاصة، التي لم تعد لغة للكلام العام اللهم إلا فيما بين العلماء، فقد كانت بالنسبة لهؤلاء لغة للكلام كما كانت لغة للكتابة، وكان الأذكياء من الصبية الصغار يبدءون تعلمها في سن جد مبكرة. أما تعليم الطبقات العليا، الذي أهمل في العصور المظلمة، فقد انتهى تدريجا إلى معرفة القراءة والكتابة أو شبه المعرفة بهما لعدد كبير من النبلاء، ولكن حتى في هذه الحالة، فإن أكثر تعليم الطبقة العليا كان في الصيد وفنون الحرب وفي التدريب على إدارة الضياع.
أما المؤسسة التربوية التي تتميز بها العصور الوسطى، والتي تعد من ميراثها العظيم، فهي الجامعة. ولا يلي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ذاتها سوى بعض الجامعات، في باريس ، وأكسفورد، وبولونيا على سبيل المثال، من حيث كونها أقدم المؤسسات البشرية المتصلة في العالم الغربي في يومنا هذا (وقد يقال إن فرنسا وإنجلترا أقدم كأمم، ولكنهما لم تكونا بالتأكيد مؤسستين متصلتين من الناحية السياسية). وقد نشأ أكثر هذه الجامعات في وقت مبكر جدا في العصور الوسطى، كمدارس كنسية أو ما يشبه ذلك. ولما حل القرن الثاني عشر، والقرن الثالث عشر، بلغت شكلها الذي تميزت به، وهو عبارة عن رابطة رسمية من المدرسين والدارسين في كل متحد يتمتع بتحرر كبير من السلطات السياسية، ويتمتع على الأقل بحرية الكيان في داخل النظام الكنسي. وكانت هذه الجامعات، بعد امتحان صحيح، تمنح الدرجات العلمية، وتمنح درجة الأستاذية في الآداب التي تؤهل الحاصل عليها لأكثر الوظائف الثقافية، غير أن درجة الدكتوراه سرعان ما أنشئت لتكون مؤهلا لأعلى الوظائف.
وكانت هذه الجامعات تعلم أقصى ما وصلت إليه الموضوعات التي كانت تتألف منها القاعدة الثابتة للتربية الرسمية في العصر الوسيط، وهي تتكون من مجموعتين: الأولى رباعية وتشمل الهندسة والفلك والموسيقى والحساب؛ والثانية ثلاثية وتشمل قواعد اللغة والمنطق والبلاغة، وأرجو ألا تضللنا هذه الأسماء الرسمية؛ فالواقع أن أكثر ما لا يزال يكون قاعدة التربية الحرة يقع متخفيا تحت هذه الأسماء الغريبة. ويلاحظ أن العلوم التجريبية غير موجودة، وكذلك لم توجد - بطبيعة الحال - الموضوعات العملية المتنوعة تنوعا مدهشا، من الآلة ذات الاحتراق الداخلي إلى النجاح في الزواج، التي دخلت بطريقة ما في مناهج التعليم الأمريكية الحديثة. وبعدما كان الطالب في العصور الوسطى يتم تأسيسه في اللاتينية كلغة حية للبحث وكأدب، ويتمه في العلوم الرياضية، وهي المجموعة الرباعية، يحق له أن يبدأ بدراسة إحدى المهنتين اللتين تطلبان المعرفة فعلا، وهما القانون والطب، أو يحق له أن يلتحق بما يعادل في أساسه دراستنا في الفلسفة والأدب التي يقوم بها الطالب بعد التخرج. والفلسفة والأدب «اللاتيني» كلاهما كان أمرا مقيدا بالنسبة إلى الدارس الحديث الذي ألف قائمة الاختيار المطولة التي تشمل عدة موضوعات للدراسة في المدارس العليا الحديثة. غير أن الفكر الرسمي في العصور الوسطى كان يتناول - كما سوف نرى - كل مشكلات المعرفة الكبرى.
Page inconnue