Idées et Hommes: L'histoire de la pensée occidentale
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Genres
وثمة إغريقي آخر - هرقليطس - كان يعتقد أن كل شيء يتدفق، وأن الصيرورة هي الحقيقة الوحيدة. يقول إن هذا النهر الذي تنظر إليه والذي تطلق عليه اسما واحدا ليس هو بعينه في أية لحظة من اللحظات. أما بارمنيدس فكان على نقيض مذهب هرقليطس تماما في التدفق؛ لأن التغير عنده وهم، والحقيقة كل واحد عظيم، كامل، لا يتجزأ.
أما ديموقريطس - وهو مادي متطرف - فكان يعتقد أن كل شيء، بما في ذلك الإنسان وعقله وروحه، يتكون من جزيئات صغيرة جدا لا ترى ولا تتجزأ، يسميها: الذرات. وأرجو أن تلحظوا هنا أن هذه نظرية فلسفية، وليست تفكيرا سابقا لعلم الطبيعة الحديث. أما فيثاغورس - الذي كان رياضيا أيضا - والذي ارتبط اسمه دائما بالنظرية التي تقول بأن المربع المنشأ على الوتر في مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، أما فيثاغورس كفيلسوف فكان دائما في الجانب غير المادي، أو الروحي. كان يعتقد في الأرواح غير المادية وفي صورة من صور الميتافيزيقيا، هي تناسخ الأرواح.
وقد افتتن الإغريق بهذه القدرة التي مارسوها آخرا ، القدرة على التعليل، فتابعوها في متاهة المنطق الصرف، بل في أركان هذا المنطق وزواياه. وقد اشتهرت في هذا الباب مشكلة السلحفاة والأرنب، التي ذكرها أول الأمر زينو الذي ينتمي إلى مدرسة إليا، وباتت - بالطبع - مجرد اختبار للذهن. وهذه هي المشكلة: إذا سلمنا بأن أخيل - أسرع الرجال عدوا - يجري بسرعة تساوي عشرة أمثال سرعة السلحفاة، وأنه قد وضع السلحفاة في موضع يسبقه بعشر أقدام، فإن أخيل لن يلحق بها. لماذا؟ ذلك أن أخيل إذا تقدم عشر أقدام تقدمت السلحفاة قدما، وإذا تقدم أخيل القدم التالية، تقدمت السلحفاة عشر القدم - وهكذا إلى الأبد، سوف يفصل بينهما دائما جزء من البوصة.
وهناك أيضا لغز الكذاب الذي يعزى إلى رجل اسمه يوبليديز من مجارا. يقول أبيمنديز الكريتي: «كل أهل كريت كذابون.» ولكن أبيمنديز نفسه الذي يقول بهذا كريتي، فهو إذن كذاب؛ ومن ثم فإن قوله ليس بصحيح. ومن ثم فإن أهل كريت ليسوا بالكذابين ومن ثم ... وهكذا.
ولكن حتى واضعو الألغاز كانوا يقومون بشيء أكثر من اللعب بأداة جديدة؛ كشفوا أن العادة والإدراك العام تضلل في بعض الأحيان، وأن الأشياء ليست دائما كما تبدو، وأن التفسير المعقول أو العلمي للظواهر يناقض أحيانا الانطباعات الحسية. ونعتقد أن زينو كان يعرف أن أخيل في هذا العالم الواقعي يسبق السلحفاة في لمح البصر، ولكنه كان أيضا يعرف أن الآراء التي يكونها المرء بالإدراك العام عن الزمان والمكان والحركة لم تكن هي الكلمة النهائية في هذه الأمور. إن عالم الطبيعة الحديث يقول إن بحوث زينو في العلاقات بين المكان والزمان تؤدي إلى طريق ضيق مغلق. بيد أنها - برغم ذلك - كانت مكتشفات في مجالات مجهولة، تشير إلى العقل الإغريقي القلق المتطلع.
وكذلك لم يقم هذا النشاط الذهني في عزلة منفصلة؛ فإن فلاسفة الإغريق في تلك القرون الأولى كانوا بالتأكيد هم من نسميهم اليوم بالمثقفين، غير أنه يبدو أنهم كانوا أسرع إلى الاختلاط مع مواطنيهم في الأماكن العامة من المثقفين في العالم الحديث. وهم لم يردوا بأية حال من الأحوال كل زملائهم من المواطنين إلى الفلسفة، وسنرى في الفصل المقبل أن كثيرا من آرائهم في الدين والأخلاق سبقت رجل الشارع بمدى فسيح. ويظهر النزاع بين الآراء الجديدة والوسائل القديمة في وضوح عند أول فيلسوف نعلم عنه الشيء الكثير، وأعني به سقراط، وهو رجل ظل اسمه ما ينيف على ألفي عام رمزا للبحث الفلسفي.
كان سقراط مواطنا أثينيا، مهنته قطع الأحجار، وطبيعته طبيعة المعلم الواعظ الذي لا ينفك عن التعليم. ولا نعرفه بما كتب بنفسه فحسب - فقد كان محدثا ولم يكن كاتبا - وإنما نعرفه أساسا مما كتب اثنان من تلاميذه: أفلاطون الفيلسوف، وزنوفون المؤرخ. وقد أحبه تلاميذه. أما بقية أهل أثينا فقد ساورتهم فيه مشاعر مختلطة، وقد اعتاد أن يجر زملاءه المواطنين إلى البحث الفلسفي ويحثهم عليه، وكان يشبه نفسه بذبابة الماشية، هدفه أن يلدغ زملاءه فيخرجهم عن اقتناعهم ورضاهم بالطرق التقليدية، كما يخرجهم عن عدم المبالاة والتراخي إزاء ما في هذه الدنيا من شرور. ذلك أن سقراط كان وليد الحركة الفكرية الجديدة التي شكت في التقاليد، والمظاهر، والمسلمات، وبحثت عما يفضلها. ومهما يكن من شيء فقد كان رجل الأخلاق أقرب منه إلى الميتافيزيقي. وقد وقف متحديا عمالقة أثينا على أساس خلقي.
وآراء سقراط الأساسية عن الحق والباطل هي في صميمها آراء أكثر المذاهب الخلقية الكبرى، بما فيها «القاعدة الذهبية» و«المثل الطيبة» لم يحب الكذب، أو الغش، أو السرقة، أو القسوة في ميدان الآلهة التي نشأ هو ومواطنوه على العقيدة فيها (آلهة ما نسميه اليوم ب «الأساطير اليونانية») فقد كانت تكذب، وتغش، وتسرق بل وتفعل ما هو أسوأ من ذلك. وهذه الأفعال الخبيثة عند الإنسان، فكيف تكون طيبة في إله؟ واعتقد سقراط أن في باطنه أشياء خيرا من هذه؛ أشياء يحدثها عن ضميره، أشياء أفضل من هذه الحكايات التي تعلمها في صباه، وعليه أن يتبع ضميره، ولا يتبع التقاليد. ورأى أن «المعرفة هي الفضيلة»، وأنك إذا عرفت الطيب «فعلا»، فلن تستطيع أن تفعل الخبيث. والتقاليد القديمة ، والوسائل القديمة المتراخية لم تكن - في اعتقاده - معرفة، إنما كانت جهالة.
وقد يجذب سقراط مواطنا أثينيا في السوق العامة في أثينا، ويأخذ معه في الحديث، ويسأله في براءة: «ألست تعتقد أن زيوس يحيا حياة طيبة؟» فيجيبه الآخر: «بالتأكيد.» - وهل تعتقد أن زيوس خلف من بعده أطفالا من امرأة من عالم الفناء؟ - نعم لقد فعل، وقد نشأ محدثه على حكايات تروى عن حب زيوس لليدا، وداناي، ويوروبا، وكثيرات غيرهن، وكان يعرف كل شيء عن أبنائه الأبطال. - وهل تعتقد إذن أن زيوس قد ارتكب الخطيئة؟ (ولم يشأ المواطن المأخوذ أن يوجه إليه السؤال في هذه الصيغة، غير أن سقراط يسوقه في يسر إلى أن يقول: «نعم.» لأن زيوس على كل حال قد تزوج من الإلهة هيرا.) - وهل تعتقد أن الزنا خطيئة؟
وهنا يخضع المسكين لسقراط؛ فليس من نتائج سقراط مفر: إذا كان زيوس يرتكب الخطيئة فهو ليس طيبا، ومن ثم فهو ليس بالإله. أو إذا كان زيوس إلها، فهو طيب، ولذلك فهو لا يرتكب الزنا.
Page inconnue