Idées et Hommes: L'histoire de la pensée occidentale
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Genres
التفكير الإغريقي الشكل
بلغ الإغريق من القلق والطموح - وربما أيضا من مجرد التبكير في تاريخ الفكر الغربي - حدا لا يقنعون معه باستخدام التعليل البطيء، المحدود، التجريبي دائما، الذي نسميه العلوم الطبيعية. كانوا يبحثون عن حلول للمشكلات الكبرى التي لم يوفق العلماء حتى اليوم في حلها، وربما لا يوفقون البتة إلى ذلك: كيف بدأ الكون؟ ما مصير الإنسان فوق هذه الأرض؟ هل هناك حياة أخرى؟ هل الدليل الحسي وهم؟ أيهما أشد واقعية، التغير أم الدوام؟ وحتى في العلوم هنا من الإغريق من فكر في مثل الصرامة التي فكر بها أفضل العلماء المحدثين، ولاحظ بمثل الدقة التي لاحظوا بها. ويجدر بنا أن نبدأ في عرض موجز لمدى التفكير الإغريقي في العصر العظيم بمثالين من أمثلة هذا النوع من التفكير العلمي:
المثال الأول:
تلك الكتابات التي تعزى إلى أبقراط، وهو من علماء الطبيعة في القرن الخامس. وقد ترك أبقراط أو تلاميذه وصفات طبية لأمراض فردية محسوسة يمكن أن تكون حتى اليوم نافعة. وهو لم يتخط مرحلة الشيطان أو رجل الطب في التفكير في الأمراض فحسب، وإنما تخطى كذلك المرحلة التالية، مرحلة النظريات العامة الساذجة الطموحة - عن الأمراض - كأن يدمى المريض دائما للتخفيف من الحمى، وأن يتناول في كل حالة «شربة» مسهلة. إنما كان يحصل على الحقائق مباشرة، حتى يستطيع أن يتعرف المرض في المرة الثانية، ولا يخلط بينه وبين الأمراض الأخرى التي تبدي أعراضا مشابهة وإن لم تكن مطابقة.
وليس هذا بالعمل الهين. وقد كان أبقراط يدرك أنه يعرف القليل عن الأمراض، ولكنه أراد أن يعرف هذا القليل معرفة جيدة منظمة. وكان يؤمن بأن الطبيعة تميل إلى أن تعيد في المريض التوازن الذي نسميه الصحة. وكان يتشكك في الأدوية، وبخاصة تلك التي ترتبط بالنظريات الكبرى عن الصحة والمرض. ومن ثم فقد كان الغرض الأول عنده كطبيب هو «ألا يغير» وأن يريح المريض، وأن يمكن الطبيعة من أن تقوم بعملها العلاجي. وقد ظن بعض معاصريه أنه بغير قلب؛ تهمه دراسة الأمراض أكثر مما يهمه علاجها. غير أن أبقراط ظفر بالتقدير فيما بعد، باعتباره المؤسس الحقيقي لعلم الطب، وحتى عصرنا الحاضر يردد أطباؤنا قسم المهنة المشهور «يمين أبقراط»، وإن يكن هذا القسم هو بالتأكيد من وضع عهد متأخر.
والمثال الثاني:
هو المؤرخ ثيوسيديد، الذي اقترب من كتابة التاريخ بطريقة علمية كما فعل أي مؤرخ آخر. فإن ثيوسيديد - كأبقراط، الذي ربما أخذ «ثيوسيديد» عنه العلم - يكتب نوعا من التقارير الطبية. إنه يحاول أن يبين ما جرى فعلا خلال حرب بلبونيز بين أثينا وإسبرطة، حينما ثارت عواطف الناس إلى درجة تكاد تكون مرضية. لم تكن عنده نظريات ضخمة عن تاريخ البشر، ولم يكن لديه أمل في علاج شرور الحرب. ولم ينضم إلى جانب أثينا أو جانب إسبرطة، وإن يكن قد تولى القيادة من قبل في جيش أثينا. ولم يهتم بالحكايات، أو الفضائح، أو حوادث التاريخ المثيرة للخيال، وإن تكن لديه أفكار عن الحق والباطل - أو قل إن شئت أهواء. وهو يؤثر بوضوح النظام، والهدوء، ومزايا الحياة الاجتماعية، على العصيان، والمنافسة القوية، وأسباب القلق، والقسوة، والعنف. ولكنه لم يكن واعظا، إنما كان يلاحظ ويراجع ما دون عن النضال الدرامي بين كائنات بشرية معينة، ويحتفظ بهذا التدوين حتى يكون الخلف أحكم في العلاقات البشرية.
غير أن ميدان المعرفة العظيم الذي أوضحه الإغريق لأنفسهم في تلك القرون الأولى لم يكن في العلوم، إنما كان في الفلسفة. وكلية الفلسفة ذاتها إغريقية، وتعني بالحرف: «حب الحكمة» أو: «حب المعرفة»، وقد أصبح لها فيما بعد معنى فني عند الإغريق المتأخرين يقرب من معناها في أذهاننا، وهو: محاولة الإجابة عن المشكلات الكبرى التي ذكرناها من قبل. وقد تساءل الإغريق عن كل هذه المشكلات الكبرى، وأجابوا عنها جميعا، وبالرغم من أن بعض الناس قد أدخل في هذه الأسئلة والإجابات تحويرا طفيفا منذ عهد الإغريق، إلا أن المعاصرين من الفلاسفة لا يزالون يسيرون على الأرض التي تجادل فوقها الإغريق. وإذا كانت الفلسفة معرفة تراكمية، فهي ليست تراكمية كعلم الطبيعة، ولا يزال الفلاسفة يختلفون في كل شيء إلا في بعض طرائقهم في التفكير، في حين أن علماء الطبيعة متفقون في لب الموضوع. ولا يسلم الفلاسفة بطبيعة الحال - إلا إذا استثنينا المنطقيين الوضعيين في الوضع الحاضر - بأن موضوعهم تنقصه طرق اختبار صحة ما يصلون إليه من نتائج. إلا أن معاييرهم - كما يقولون - في تحديد الصدق «تختلف» عن معايير العلماء. وهم يزعمون أن موضوعهم قد تقدم كما تقدم المنطق أو الرياضة.
وبالرغم من أن أكثر ما دونه فلاسفة اليونان حتى حوالي عام 400ق.م لا يوجد إلا في صورة قصاصات، أو مقتبسات من هنا وهناك، أو روايات في الكتب التي وصلت إلينا، إلا أننا نعرف أن الإغريق قد ساروا شوطا بعيدا عندما جاء عصر أرسطو وأفلاطون، ولسنا في حاجة هنا إلا إلى أمثلة من المجال الفسيح الذي صالوا فيه.
كانت عندهم مدرسة في وقت باكر - هي مدرسة أهل أيونيا - تعتقد أن كل شيء قد تطور عن مادة أبسط، وهي المادة الأولى للدنيا، كالماء والهواء. والظاهر أن أحدهم - إنكسمندر - كان يعتقد أن الكائنات البشرية قد تطورت عن الأسماك. وكان هذا مجرد حدس؛ فإن هذا الفيلسوف الأيوني لم يسبق دارون في البحوث البيولوجية الطويلة الدقيقة، بل إن خصوم المزاج الفلسفي الإغريقي يقولون إنه مثال طيب للفيلسوف - رجل ذو أفكار ولكنه يعدم الوسيلة التي يختبر بها صحة هذه الأفكار.
Page inconnue