Idées et Hommes: L'histoire de la pensée occidentale
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Genres
وتستطيع أن تلمس صحة هذا الزعم في أي ميدان تقريبا؛ ففي الأدب مارس الإغريق كل ما نعرف من أشكال، بما فيه شيء يقرب جدا من الرواية، في النهاية. وقد بلغوا في الملحمة خاصة، وفي الشعر الغنائي والشعر التمثيلي، وفي التاريخ، مستويات لم نستطع بعد أن نتخطاها، بل لم نستطع أن نبلغها كما يرى بعضهم. وفي الفلسفة طرحت مدارسهم كل المشكلات الكبرى - الكينونة والصيرورة، والواحد والمتعدد، والجسم والعقل والروح والحالة - وقدموا لها حلولا كبرى. وكان من بين الفلاسفة الإغريق: المثاليون، والماديون، والعقليون، والوجدانيون، والمؤمنون بالتعدد، والمتشككون، والساخطون والنسبيون، وأصحاب المذهب التجريدي. أما التصوير فلم تصلنا منه أصول. وقد كان التدهور في أكثر وجوه الحضارة - الذي أعقب انهيار العالم الإغريقي الروماني - عظيما، إلى درجة أن الناس لم يستطيعوا أن يعنوا بهذه الصور، أو على الأقل لم يفعلوا ذلك. وهناك شك في أن فن التصوير عند الإغريق بلغ من العظمة ما بلغه فن النحت أو العمارة. ولا يخامرنا شك في عظمة الفنين الأخيرين اللذين أمكن أن يصلا إلينا، وإن يكن في صورة ناقصة في أكثر الأحيان، لصلابة المادة التي صنعتا منها. وأخيرا في ميدان العلوم والمعرفة التراكمية طور الإغريق إلى درجة رفيعة الجانب النظري من الرياضيات وعلم الفلك، وقاموا بعمل قيم في علم الطبيعة وفي الطب. وقد بنوا في ذلك إلى حد ما، على ما تم من قبل في مصر وفي بلاد النهرين. ثم بنى الرومان، إلى حد ما، على ما أنجزه الإغريق، وبلغوا مستويات رفيعة في الهندسة. أما في الحياة السياسية والاقتصادية فقد بلغت الثقافة في هذا الصدد درجة عظيمة من التعقيد. كان هؤلاء الناس، في عبارة موجزة، قوما «متمدنين» مدنية كاملة.
وفي الحق لقد بلغت هذه الحضارة القديمة مكانة عالية، حتى إن الكتاب والمفكرين، في فرنسا وفي إنجلترا، لم يستطيعوا إلا حوالي عام 1700 ميلادية أن يفكروا في إمكان أن يقتربوا - وهم المحدثون - من الإغريق والرومان ككتاب وفنانين وعلماء - أو كأشخاص متمدنين، في إيجاز. ولكن مكانة «القديم» بهذا المعنى كادت تختفي من أمريكا في منتصف القرن العشرين؛ ففي التربية العامة فقد الكلاسيكيون حتى أعمالهم الرجعية، ولم تعد اليونانية تدرس في المدارس الثانوية. وبقيت اللاتينية ولا تكاد تعدو الدراسة الشكلية الخفيفة.
وبالرغم من أن كثيرا من الأمريكان المتعلمين في جهل تام بالعمل الذي كان له في وقت من الأوقات معنى عظيم، فإن أعمال اليونان ما زالت تكون جانبا رئيسيا من المحصول الأساسي لثقافتنا، وليس من قبيل الحذلقة ، أو حتى من قبيل العامة العلمية، أن يرجع علماؤنا في السيكولوجيا - بعد كثير من علماء العلوم الإنسانية والأدباء - إلى الإغريق. وإذا كان علماء السيكولوجيا قد أخذوا عن المصادر الإغريقية «عقدة أوديب»، والعقدة النرجسية (أو حب الذات)، والفوبيا (الحب الجنوني) والمانيا (التهوس)؛ إذا كانوا قد فعلوا ذلك فلأن الميثولوجيا (الأساطير) عند اليونان هي في الواقع من الكنوز المذهلة فيما يتعلق بالملاحظات الواقعية - والخيالية في غير المعنى الرومانتيكي - عن سلوك الإنسان وآماله، وطبيعته البشرية المعهودة التي لا ينضب لها معين. وليست الأساطير النوردية أو الكلتية إذا قورنت بالأساطير الإغريقية إلا أمرا تافها، ضئيلا، ساذجا، فيما يتعلق بالطبيعة البشرية. إننا لا نعرف أنفسنا حق المعرفة إذا لم نعرف شيئا إطلاقا عن الإغريق. كما أن التجربة اليونانية الرومانية في الحضارة كانت كاملة من بعض النواحي. وهي تعرض - كما يذكرنا بذلك فلاسفة التاريخ - شيئا يشبه الدورة الكاملة، من الشباب إلى الكهولة إلى الموت، أو من الربيع إلى الشتاء. لها بداية كما أن لها نهاية.
وأخيرا، ترعرعت الديانة المسيحية في هذه الحضارة، وليس من شك في أن للمسيحية أصولا يهودية تخرج كثيرا عن نطاق التأثير الإغريقي، ولكنها في نموها ونظامها كانت جزءا لا يتجزأ من العالم اليوناني الروماني في السنوات القلائل الماضية في الحياة العملية لتلك الحضارة. ولا نستطيع أن نفهم المسيحية اليوم إلا إن فهمناها في ذلك الحين.
إن أصول الإغريق غير مسطورة في التاريخ، ولكنها تنعكس واضحة في الأساطير والخرافات الإغريقية وفي الآثار الباقية. ومن الواضح أن الشعوب التي تتكلم الإغريقية جاءت من الخارج، من الشمال من حوض الدانوب، أو حتى أبعد من ذلك شمالا. وهم ينتسبون من ناحية اللغة على الأقل إلى الجرمان والكلت والسلاف. وقد هبط هؤلاء الإغريق - أو الهلينيون كما يسمون أنفسهم - في موجات متلاحقة، كان آخرها الموجة الدورية التي أتمت زحفها في فترة تاريخية معينة عند بداية الألف السنة الأولى قبل المسيح - أو هبطوا على ثقافة وطنية سابقة نسميها اليوم «المنوانية». ويكاد يكون من المؤكد أن الهلينيين والمنوانيين قد امتزجوا عنصريا وثقافيا، مع سيادة الهلينيين، ومع هبوط المستويات الثقافية، الذي يصاحب غزو شعب أقل حضارة لشعب أعلى حضارة؛ لأن المنوانيين كانت لهم حضارة رفيعة، كما تدل على ذلك آثارهم في النحت والعمارة. ومن هذا العهد المظلم برز الإغريق بوضوح في القرن الثامن قبل الميلاد، تجارا ومحاربين - كما كانوا من قبل - وفنانين سابقين، بل ومفكرين أيضا فيما يبدو، ومنظمين ذلك النظام الإغريقي المشهور الذي يعرف بالمدن الحكومية ذات السيادة التي تحكم نفسها بنفسها. وفي المدينة الحكومية نشأت ثقافة الإغريق الكلاسيكية. وكان حجم أثينا والأرض التي تجاورها أتيكا، في القرن الخامس قبل الميلاد - وهو قرن عظمتها - يبلغ مبلغ مدينة أمريكية متواضعة في العصر الحاضر، سكانها لا يجاوزون مائتي ألف نسمة.
إن ألف العام من مدنية البحر المتوسط الكلاسيكية تقدم إلينا شيئا لا نستطيع إهماله - فرصة نشاهد فيها نوعا من تجربة مجموعة من الآراء التي ما برحت جزءا من حياتنا اليومية. وربما كنا نسلك سلوكنا الراهن بسبب ما فعلته أجيال كثيرة جدا من أسلافنا باعتبارهم أشخاصا من قبل التاريخ، أكثر مما نسلك هذا السلوك بسبب ما فعلته الأجيال القليلة نسبيا من أسلافنا باعتبارهم أعضاء في ثقافة البحر المتوسط الكلاسيكية هذه. فالأجسام البشرية، من الكبد إلى المخ، كانت في أساسها منذ ألفين وخمسمائة عام كما هي اليوم، كما أن كثيرا من عاداتنا العقلية، وعواطفنا، وحاجاتنا السيكولوجية، قد تكون بغير شك قبل أن يكون للإغريق ذكر بوقت طويل، غير أن التاريخ لا يروي لنا إلا القليل من هذه الأمور، وبالأخص تاريخ الفكر؛ فتاريخ الفكر الغربي يبدأ في الواقع إلى حد كبير بالإغريق، لأنهم كانوا أول من استخدم العقل بطريقة جديدة تلفت النظر. وقد خلف الإغريق أول سجل ثابت شامل في مجتمعنا الغربي لنوع التفكير الذي تقوم به في حياتنا بقدر كبير (وإن كان أحيانا ضد ما نهوى). وليست هناك كلمة جيدة، خالية من الغموض، لهذا اللون من التفكير. ولنطلق عليه في بساطة اسم «التفكير الموضوعي».
ولم يكن الإغريق أول شعب مفكر، بل ولم يكونوا أول من فكر تفكيرا علميا؛ فقد استخدم المساحون المصريون، وراصدو النجوم الكلدانيون، الرياضيات. ومن ثم فقد فكروا تفكيرا علميا. ولكن الإغريق فكروا أولا في مجال الخبرة الإنسانية كلها؛ بل لقد فكر الإغريق في كيفية سلوكهم. وربما حاول كل إنسان أن يفعل ما فعل الإغريق بالتفكير - أي هيأ نفسه للكون الغريب، المحير، والمعادي أحيانا، الذي ليس بالتأكيد هو ذاته، والذي يسير فيما يبدو في أغلب الأحيان غير آبه به، والذي يظهر أن له إرادة، وقوة، وغرضا، لا يتفق وأغراضه في كثير من الأحيان، وربما كان البوشمان في أستراليا، والإيروكوا، والكالموك، وسائر الشعوب الأخرى، يفكرون في هذه الأمور، ولو عرفنا فعلا كيف تعمل عقولهم استطعنا أن نفهمهم. ولكن ما نود أن ننبه إليه هو أن بعض الإغريق - في وقت قد يرجع إلى العصر العظيم - قاموا بهذا التفكير «على طريقتنا»، وفكرت عقولهم كما نفكر.
أما أسلافهم البدائيون فلم يفكروا بطريقتنا؛ فقد استمعوا إلى الرعد، وشاهدوا البرق، ونالهم الخوف، وأدركوا قطعا أن البرق أو الرعد ليسا من البشر، لكن لا بد أن يكونا من الأحياء - فكل شيء عند بعض البدائيين حي. ولذا فقد انتهوا إلى الإيمان بأن كائنا شديد القوى، أسموه الإله زيوس، يلوح بصواعقه الشيطانية خلال السماء ويسبب كل هذا الاضطراب، وظنوا أنه يلوح بها أحيانا في وجه الآلهة الأخرى، وأحيانا يلوح بها لمجرد إظهار غضبه، وأحيانا أخرى - بطبيعة الحال - يلوح بها في وجه الإنسان الفاني، فيلحق به الموت. ويعتقد الإغريقي الطيب - أو يأمل - أنه لو أدى لزيوس الاحترام الواجب فإن الإله لا يصيبه بالصواعق. وحتى في قلب أيام الثقافة الأثينية العظيمة، كان الرجل العادي يعتقد في زيوس وصواعقه.
ويلاحظ أن الإغريق الأوائل «فسروا» الصواعق، وفسروا كل شيء تقريبا بأنه من صنع الآلهة، أو الأرواح، أو الجن، أو العمالقة، أو ذلك النوع من الإنسان الراقي الذي أطلقوا عليه اسم الأبطال. غير أن بعض الإغريق - ولسنا ندري متى أو أين انتهوا إلى أن أمورا كثيرة تجري في الكون دون أن يقربها أي إله من الآلهة ؛ فاعتقدوا - على سبيل المثال - أن الجو يصنع نفسه بنفسه، ولم يعرفوا الكثير عن الكهرباء، ولم يعرفوا بالتأكيد ما يكفي لأن يربط الأمثلة البسيطة من المغناطيسية التي لاحظوها بأي شيء يبلغ في قوته قوة الرعد والبرق. ولكننا نستطيع أن نقول إنهم اعتقدوا أن الصواعق ظواهر طبيعية، تخضع للتفسير العلمي المعقول.
ويصور أرستوفان في مسرحية «السحب»، التي مثلت لأول مرة في عام 423 قبل الميلاد، الصراع بين التفسير القديم الخارق للطبيعة والتفسير الحديث الطبيعي. وبالرغم من المجون والهزل المقصود - الذي يعرض فيه مؤلف المسرحية القضية العلمية - تستطيع أن تدرك أن بعض الأثينيين كانوا يعتقدون نظرية جوية لها قيمتها، تقول بأن الرياح تسير من مناطق الضغط العالي إلى مناطق الضغط المنخفض. وقد صعق أرستوفان - أو لعله تظاهر بالذهول ليؤثر في جمهور المستمعين - لهذه الآراء المختلفة، وهو يترك فينا أثرا بأن نظرية زيوس القديمة هي الأصح، ولكن بالرغم من السخافات التي يجريها على لسان الفيلسوف سقراط - وهو عنده مثال المفكر الجديد - تستطيع أن تلمس العقل الإغريقي وهو يعمل جاهدا في تفسير ظاهرة الجو.
Page inconnue