حق العزلة
يتحدث الناس عن حقوق الإنسان حديثا لا ينقطع، وتنعقد من أجل ذلك مؤتمرات وتصدر قرارات. ولست أعتزم القول في هذه الحقوق إن كان الحديث عنها من قبيل الجد أو المزاح، وإنما الذي أريد أن أثبته هنا هو أن هنالك حقا عزيزا على قلوب أناس يعدون بالمئات إن لم يعدوا بالألوف، وهو حق لا أحسبه مذكورا في قائمة الحقوق الإنسانية التي يدور عليها الحديث وتدور حولها المناقشات، وأعني به حق الإنسان في أن يخلو إلى نفسه حينا بعد حين، فيكون من حقه أن يجلس وحده ساعة أو بعض ساعة، لا يزعجه فيها أحد من قريب أو من بعيد، وأقصد بالبعيد هنا ما يصلون إليه عن طريق التليفون.
وإني لأزداد استمساكا بهذا الحق لمن أراده لنفسه، كلما رأيت المجتمع الحديث ممعنا في سيره نحو أن يحول أفراده إلى قوائم من أرقام؛ فالفرد الواحد بنسبة إلى أولي الأمر في المجتمع هو من ولد في التاريخ الفلاني، ويحمل بطاقة شخصية رقمها كذا، ويسكن منزلا نمرته كيت، وطوله كذا ووزنه كيت، ورقم تليفونه كذا... إلخ. أقول إنني كلما رأيت إمعانا في هذا الاتجاه الرقمي الحديث، أشفقت على ذاتية الفرد أن تتفكك إلى مجموعة منوعة من أعداد ولا شيء غير ذاك، وازددت بالتالي مطالبة للإنسان بحق الخلوة إلى نفسه ليتصل هو بذاته اتصالا مباشرا إذا كان سائر الناس لا يريدون منه إلا جانب الأرقام والأعداد.
وإني لأسأل: ماذا كانت تكون حال البشرية كلها لو لم يتح لطائفة من الأفراد أن يخلوا إلى أنفسهم؟ كم نبيا جاءته الرسالة في خلوته؟ كم عالما وكم فيلسوفا لمعت في رأسه الفكرة وهو في عزلته، بل قد تكون هذه العزلة أحيانا في غيهب السجن! إن ثمرات الحضارة الإنسانية هي في الأعم من نتاج أفراد تهيأت لهم العزلة وكانت لهم القدرة فتفاعلت هذه مع تلك تفاعلا أنتج. ورحم الله الإمام الشافعي الذي كان يطفئ السراج ليضيف إلى عزلته وهو يفكر ظلمة تساعده على تركيز فكره، حتى إذا ما نضجت الفكرة في رأسه أضاء سراجه وخطها على الورق ، ثم عاد فأطفأ السراج ليستأنف تأملاته.
عقد اللؤلؤ
كنت قد قرأت منذ أعوام نبأ في الصحف عن أميرة نزحت عن بلدها وضاقت بها موارد الرزق، فراحت تبيع حبات اللؤلؤ من عقدها حبة بعد حبة، مستبدلة بما تبيعه منها حبات من زجاج رخيص، لا تفرق العين العابرة بينها وبين اللؤلؤ النفيس، وانتهى الأمر بها إلى عقد كله من حبات الزجاج تلفه حول عنقها وتنشرها على صدرها، لكنها لم تزل في أعين الناس هي الأميرة نفسها ذات العقد اللؤلؤي الثمين. وأحسبها لو أقسمت للناس أن عقدها من زجاج رخيص لما صدقوها ولظنوا بها التواضع المحمود، كما لو أقسمت لهم سيدة من أوساط عباد الله شاءت لها الصدفة أن تتزين بلؤلؤ أصيل أن لؤلؤها أصيل لما صدقوها ولظنوا بها الافتراء والغرور!
عيون تنظر ولا ترى
ترى كم كنت أعلم عن دنياي لو أن القائمين على تربيتي قد علموني كيف أرى؟ فما عرفت إلا منذ قريب أن العينين قد تكونان مفتوحتين شاخصتين، ولا تكفلان لصاحبهما رؤية مليئة خصبة مترعة. أقول إني ما عرفت ذلك حق المعرفة إلا حين زرت صديقا فنانا يعيش من داره البعيدة الفريدة في خلوة هي أشبه شيء بصوامع الزاهدين. زرت ذلك الصديق الفنان في محرابه النائي عن ضجة المدينة وصخبها، فوجدته قد فرغ لتوه من صورة لجذع نخلة قائم أمام داره، ونظرت إلى جذع النخلة فلم أر فيه إلا جذعا أجرد، ثم حولت نظري إلى الصورة فإذا هي عالم غزير بما فيه من تفصيلات ودقائق، وكلما ركزت بصري في أجزائها راعني هذا التناغم العجيب بين خيوط الألياف كأنما هي ديباجة نسجتها أصابع مسحورة. يا إلهي! أتكون هذه الأنغام كلها في ذلك الجزع المبتور العادي، الذي لو نظرت إليه وحدي - بغير هداية الفنان إلى محتواه - لما رأيت فيه إلا عقما وجدبا؟ وكأنما أراد صديقي أن يزيدني عجبا على عجب، فجاءني بصورة أخرى لقوقعة مما نركله بأطراف أقدامنا إذ نغوص بها في رمل الشاطئ، ونظرت فإذا في القوقعة الخالية الخاوية ما في جذع النخلة الجديب الأبتر؛ دقائق وتفصيلات الله أعلم بمداها والفنان أبصر بانسجامها واتساقها ... تلك هي الطبيعة في خصوبتها وثرائها، لو أن لنا عيونا تنظر لترى.
وذكرت لنفسي عندئذ أشياء كثيرة مما كنت قرأته ولم أفهمه كل الفهم، فذكرت الأديب الإنجليزي تشسترتون - وكان يقيم في بلده باترسي - إذ زاره صديق فوجده على أهبة السفر، فسأله: إلى أين الرحيل؟ فأجابه الأديب: إلى باترسي! فقال الزائر ضاحكا: لكنك في باترسي. فأجابه الأديب: نعم، لكن «الإلف» قد أعماني عن رؤية تفصيلاتها؛ ولذلك أنوي أن أسافر إليها مارا بباريس وروما وبرلين؛ فبالمقارنة تتفتح عيناي لما قد عميت عن رؤيته من روائع بلدي الذي أعيش فيه وكأني لا أراه ... فليتني - وأنا أقيم في القاهرة - أسافر إلى القاهرة مارا بهذه وتلك من أجزاء الأرض، على نحو ما سافر تشسترتون من باترسي إلى باترسي ليراها على حقيقتها.
وكذلك ذكرت فيما ذكرت قصة قرأتها عن فنان إيطالي كان صدره يضيق كلما مر في الأحياء المتواضعة من بلده؛ إذ لم تكن تقع عيناه هناك إلا على بشاعة هنا وفقر هناك، ثم خطر له ذات يوم أن ينظر في تلك الأحياء بعين الفنان التي تستخرج الصور، فهالته خصوبة لم يتوقعها، في كل خطوة يخطوها صورة يثبتها على اللوحة فإذا هي آية من الروائع. وإنه لكثير ما يعن لي أن أستفيد بهذا الدرس في حدود قدرتي، فأسير في شوارع القاهرة ناظرا إليها بالعين التي تستخرج الصور التي تستوقف النظر، فعندئذ أرى كنزا نفيسا مما يزخر به هذا البلد من نفائس، حتى الأشياء التي قد تكون منا موضع النقد حينا بعد حين، تنظر إليها بعين تشبه عين الفنان، فإذا هي باعثة على النشوة الجمالية التي ليس بعدها نشوة: هذه العربة الصغيرة يجرها حمار ضئيل، وقد حملت هرما من البطيخ الأخضر الزاهي، وجلس على البطيخ طفل صغير، بينما سار أبوه ممسكا بزمام الحمار ، لافتا رأسه إلى الخلف يبادل وليده الضحكات. هذه المرأة التي حملت على رأسها حملا كبيرا من أعواد الذرة الجافة، حتى لقد اختفى رأسها كله وجذعها في جوف الأعواد ولم يظهر منها إلا أسفل جلبابها الأسود؛ ماذا أقول؟ إنك لو نظرت بالعين التي ترى، إذن لرأيت الأرض قد تبدلت غير الأرض، ووجدت في كل شيء وفي كل حي خصوبة وجمالا.
Page inconnue