كن ثورات ثلاثا اجتمعن في ثورتنا الكبرى، فجاءتهن ثورة رابعة؛ فقد ضمت ثورتنا حتى اليوم ثورات ثلاثا؛ هي الثورة الوطنية التي حررنا بها أرض الوطن من المستعمر والدخيل، والثورة القومية التي استهدفنا بها تحطيم الحواجز المصطنعة التي تجزئ القومية العربية الواحدة، والثورة الاجتماعية التي أزلنا بها الفوارق بين المواطن وأخيه، فتساوى الإخوة على مبدأ من الديمقراطية والمشاركة والتعاون. وها هي ذي ثورتنا الرابعة قد جاءت تحطم الازدواج الثقافي الكريه الذي كان يفصم حياتنا العقلية شطرين يعيشان في عصرين، كأنما نحن أمتان لا أمة واحدة.
كان أملا يراودنا نتطلع إليه تطلع اليائس من بلوغه، فإذا هو عند العزيمة الماضية والإرادة المصممة حقيقة واقعة. وما أملنا ذاك إلا أن يستعيد الأزهر مجده الماضي، فيصبح جامعة تساير عصرها الراهن بعلمه وعمله، كما كان طوال تاريخه يساير عصره دائما، فلما أرادت له العهود السود أن يتخلف، فيسير الزمان من حوله وهو ساكن في مكانه لا يريم، ظنت الظنون أن هذه هي طبيعة الأزهر: أن يقنع من العلوم بتاريخها الماضي. وأما حاضر العلوم فلا شأن له بها ولا شأن لها به؟ وحقيقة الأمر هي أنه اكتفى في القرون الأخيرة من تاريخه بجانب واحد من الجوانب الكثيرة التي تأتلف معا فيما اصطلح على تسميته بالجامعة، وترك بقية الجوانب بغير مسوغ معقول . ولو استعملنا الاصطلاحات الجامعية الحديثة لقلنا إنه قصر نفسه على ما يساوي كلية واحدة، ثم أراد أن يكون بهذه الكلية الواحدة جامعة، فوقع التناقض بين الوسيلة والهدف.
لقد كنا ونحن في الخارج نفاخر أهل الثقافة هناك قائلين إن لنا جامعة هي أقدم جامعات العالم، لكننا كنا إذ نقول ذلك نظهر للناس حقيقة ونخفي حقيقة أخرى في أنفسنا على أسف وحسرة. كنا نظهر حقيقة العمر المديد الذي طال عشرة قرون على وجه الزمن، لكننا كنا نخفي أنه في الحقيقة لم يعد في عصره الأخير يؤدي مهمة الجامعات كاملة. وكنا نتساءل: ما ضرنا لو وصلنا مجدا طارفا بمجد تليد؟ أيجوز لأصحاب العقيدة التي تفرق بين الدين والدنيا هناك أن ينشئوا من الجامعات لرجال الدين ما يخرج قساوسة أطباء ومهندسين وعلماء، ولا يجوز ذلك لنا، نحن أصحاب العقيدة التي لا تفرق بين دنيا ودين؟!
لقد تغيرت فكرة الجامعة في العصر الحديث تغيرا عميقا يصل إلى الجذور، وليست هي بالفكرة الثابتة المتحجرة كما قد يحسب الحاسبون! فقد كانت الفكرة في الجامعة أن تقتصر على الدراسات الأكاديمية النظرية وحدها، حتى أصبحت هذه الدراسات هي طابع التعليم الجامعي في أوروبا؟ فلما أن تطلبت الحياة المتطورة دراسة عملية، أخذوا ينشئون لها «معاهد» و«مدارس» تقوم إلى جانب الجامعات، حتى لا يدخل الجامعة إلا ما هو لصيق بطبيعتها النظرية، وبهذا اتسعت الفجوة شيئا فشيئا بين الفكر النظري والعمل، وهي نتيجة محتومة لبداية تاريخية اجتماعية، كان الشعور الطبقي عندها يفرق بين أرستقراطية مفكرة، وشعب عامل؛ فلا أبناء العلية الممتازة يدنسون أيديهم بالعمل، ولا أفراد سواد الشعب يقبعون في دورهم ليتمتعوا بفراغ الفكر المتأمل.
كانت الجامعات القديمة - إذن - حين تقصر نفسها على الدراسات الأكاديمية النظرية وحدها، متأثرة بالازدواج الاجتماعي الذي كان يجعل الناس طبقتين؛ عليا ودنيا، للأولى فكر وللثانية تطبيق، إلى أن جاءت النهضة الحديثة وأخذت تشتد رسوخا وتعمق جذورا، فسادت وجهة جديدة للنظر، ألا وهي أن الفكر والعمل وجهان لشيء واحد؛ فالفكرة التي لا تلتمس سبيلها إلى التطبيق العملي لا يقال عنها إنها فكرة نظرية فحسب، بل يقال إنها ليست فكرة على الإطلاق؛ فليس من الفكر ما ليس يتحول على يدي صاحبه قوة وعملا، وكذلك العمل الذي لا يصدر عن مخطط نظري فكري إنما يكون خبطا عشوائيا ولا يستحق أن يسمى عملا بمعناه الصحيح.
وبزوال هذا الفارق الزائف بين الفكري النظري والعمل، أخذت بالتالي تزول الفكرة القديمة عن مهمة الجامعة. ولم تعد الجامعة - كما كانت - حرما مقصورا على الدراسات الأكاديمية النظرية، بل دخلتها شيئا فشيئا جوانب التطبيق من طب وهندسة وزراعة وتجارة وغير ذلك من فنون العيش. وإن تكن هناك بقية عتيقة ما زالت باقية في الأذهان التي تعيش على الماضي وتغض النظر عن العصر الحاضر وما جاء به من تطور وتغيير؛ فما نزال نرى بسمات السخرية على الشفاه عندما يقال إن على الجامعة أن تدخل في مناهجها أعمالا تقتضيها الحياة العملية؛ لأن الساخرين ما زالوا يرون الدراسة الجامعية دراسة لأسفار ونصوص، وكل ما عدا ذلك دخيل مرذول.
ولعلنا نلقي أمام هؤلاء شعاعا من الضوء، إذا نحن أضفنا لهم حقيقة شاملة عن تطور التربية كلها - جامعية وغير جامعية - في العصر الأخير، مؤداها أن يتغير محور الدراسة؛ فبعد أن كان المحور هو الموضوع المدروس، أصبح المحور هو الشخص الدارس. نعم كان التعليم كله إلى ما قبل القرن العشرين يجعل موضوع الدراسة هو الأساس، وعلى الدارسين أن يشكلوا أنفسهم وحاجاتهم حتى تلائم ذلك الموضوع. أما اليوم فالأمر على نقيض ذلك تماما في فلسفة التريبة؛ إذ نقول: هذا شخص معين يعيش في الظروف الفلانية ويحتاج في حياته إلى كذا وكيت من الوسائل. إذن فلتعمل المدرسة أو المعهد أو الجامعة على أن تزوده بما يقتضيه عصره وحياته؛ أي إن المدرسة أو المعهد أو الجامعة عليها أن تغير من نفسها عصرا بعد عصر حسب حاجات الدارسين، وليس العكس هو الصحيح.
إنه لمن ضلال الرأي أن تقول إن مهمة الجامعة هي كذا بغض النظر عن العصر الذي يحيط بالجامعة؛ فلو سألتني: ما مهمة الجامعة في رأيك؟ لسألتك بدوري: في أي عصر؟ لأن الجامعات أدوات تساير عصورها؛ إذ هي أدوات تربية وتعليم. وكيف نربي وكيف نعلم ما لم يكن الهدف الذي من أجله نربي ونعلم واضحا، وهل ثمة من هدف إلا أن ينشأ الناشئ ليعيش حياته على أكمل وجه، بأن يواجه حاجات العصر بما تقتضيه؟ أم يريدون للعازف أن يعزف لحنا لم تخلق لسمعه الآذان؟
إن أوجب واجبات الدولة الديمقراطية أن تهيئ لبنيها فرصا متكافئة في الحياة، وليس من تكافؤ الفرص أن أزود أحد المواطنين بما يشق به طريق العمل الناجح، وأن أترك زميله أعزل فيخرج إلى ميدان الحياة عاجز اليدين فلا عمل - بمعنى العمل الصحيح - ولا إنتاج، وبالتالي فلا كسب ولا ازدهار، فيكون بين المواطنين تفاوت محتوم في مستوى العيش، ولا فخر للمواطن الأول إلا أنه دخل التعليم الجامعي من باب، ولا عيب في المواطن الثاني إلا أنه دخل ذلك التعليم نفسه من باب آخر. ومن حق المواطنين جميعا على الدولة الديمقراطية أن تنفتح الأبواب كلها أمامهم على حد سواء بتدبير محكم حتى لا يضل السائرون سواء السبيل.
إننا إذ نتمنى لجامعاتنا الأمنيات، فإنما نتمنى أن يكون لكل جامعة منها طابع يميز أبناءها إلى الحد الذي تعرف به أن فلانا لا بد أن يكون متخرجا في جامعة القاهرة وفلانا الآخر لا بد أن يكون قد تخرج في جامعة الإسكندرية؛ لأن الأول موصوف بكذا وكذا في وجهة نظره إلى الحياة، وأما الثاني فموصوف بكيت وكيت. ولقد كان الأزهر بين جامعاتنا كلها فريدا في امتيازه بهذا الطابع الذي يطبع به أبناءه، وهو عندي من علامات النجاح في قيام الجامعات بمهمتها؛ فيكفي أن يقال لك إن فلانا تخرج في الجامعة الأزهرية لتتصور على الفور نمطا من وجهة النظر وطريقة في الحكم على الأشياء والمواقف، وشبكة من القيم يزن بها الأمور.
Page inconnue