شهادة ألا إله إلا الله هي الأصل الثابت في حياتنا الثقافية. الأصل الذي تتفرع عنه الفروع متداخلة متشابكة، هي من الشجرة العقلية بمثابة الجذع وجذوره، ثم تنبت الغصون وتنمو وتورق متجهة هنا وهناك ... إننا في عشرات السنين الأخيرة لم نفتأ باحثين عن هويتنا الفكرية حتى لا تبعثرنا عواصف العصر هباء ذات اليمين وذات اليسار. وتعددت محاولات أصحاب الرأي منا وكثرت فيها المنازعات كأنما نحن أمة شهدت النور لأول مرة بالأمس القريب. وأحسب أننا لو وقفنا بالنظر عند التفصيلات لظللنا ألف عام نبحث عن الهوية المستترة بغير جدوى؛ فالتفصيلات البادية على سطح الحياة الفكرية أشتات مفرقة لا تهدينا الهداية الواضحة إلى حقيقة نفوسنا. ويحتاج الأمر إلى جليل يضم هذه الأشتات المفرقة في وحدة واحدة تضمها معا، تكون لها بمنزلة الأم الولود، التي تنبثق من جوفها كثرة تبدو مختلفة العناصر فيما بينها، مع أنها كثرة يرتبط أفرادها بما ورثته عن أصلها الواحد، وما أصلها الواحد ذلك إلا شهادة ألا إله إلا الله.
فهي شهادة تدل - بين ما تدل عليه - على ثلاثة أركان دفعة واحدة، تكفي وحدها لإقامة هيكل ثقافي كامل، لو كسوناه لحما لأصبح حياة فكرية تحمل طابعا يميزها عن كثير مما عداها؛ فهي تدل على ذات إلهية مشهودة، وذات إنسانية شاهدة، ومجموعة من أفراد الناس تتم الشهادة في حضورهم. وعلى هذه الأركان الثلاث تترتب نتائج كثيرة من شأنها أن تتحد معالم الهوية الفكرية التي هي نحن على حقيقتنا الموروثة جيلا بعد جيل.
ليست العبرة هنا بلفظ ننطق به ويمكن أن ينطق به شريط مسجل عليه اللفظ ودارت به آلة التسجيل، ولكن العبرة هي في أن يتحول لفظ «الشهادة» إلى عالم من المعاني الحية نعيشها بعقول مدركة؛ فلو أننا جعلنا من كلمات الشهادة أبوابا نفتحها لندخل في الرحاب الفسيحة التي وراءها، لألفينا أنفسنا في تيار دافق من معان تتضافر وتتسق حتى ينشأ من دعائمها بناء فكري كامل متفرد بخصائصه. وعندئذ يتاح لنا أن نقول: هذا بيتنا الذي ينبغي أن نعيش في كنفه. فإذا نحن بين أهل الأرض أصحاب بيت أصيل.
قلنا إن شهادة ألا إله إلا الله تنكشف عن أركان ثلاثة على الأقل؛ أولها الذات الإلهية التي نشهد أن ليس ثمة من آلهة سواها. ولا تكاد تفتح هذا الباب حتى تجد نفسك أمام صفات كثيرة، هي صفات تلك الذات الإلهية التي نشهد بوجودها وهي صفات من طبيعتها أن تتوحد في نسق واحد، وإلا لما كان الموصوف بها ذاتا واحدة. ولست أظن - في حدود علمي بهذا المجال، وهي حدود ضيقة على كل حال - لست أظن في حدود هذا العلم القليل أن قد ظهر من المسلمين مفكر حاول أن ينسق هذه الصفات تنسيقا يبين وحدتها بحيث يكون واضحا للرائي أين الصفة الأشمل التي تتضمن سواها وأين الصفة الأخص والتي تجيء تفريعا عن غيرها. ولو قد كان بين أيدينا مثل هذا البناء المتسق لوجدنا أمامنا الخريطة السلوكية التي تميز المسلم وتحدد طابعه الأصيل. إننا - حتى صغارنا - نحفظ عن ظهر قلب أسماء الله الحسنى، ولكننا نسردها سردا، فتكون كل منها كالحبة المفردة. أما كل قيمتها الذاتية ففي توجيه السلوك، لكنها لا ترتبط مع غيرها بالرباط العضوي الذي يجعلها جميعا هرما واحدا من القيم العليا التي تصدر عنها حياة خلقية موحدة.
إننا نجد عند بعض الأقدمين - كالإمام الغزالي مثلا في «إحياء علوم الدين» - فرزا لهذه الصفات، واستخراجا لسبعة منها، يجعلها بالنسبة لغيرها صفات إيجابية ويقول إنها هي صفات الذات الإلهية، أو صفات «الثبوت» كأنما يريد أن يجعل بقية الصفات فروعا تنتج بالضرورة عن تلك الأصول. وتلك الصفات السبع عنده (وربما عند غيره كذلك) هي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام ... على أن هذه نفسها، عند التحليل، يتبين أن بعضها يتضمن بعضها الآخر، فلا بد من صفة الحياة ليكون هنالك قدرة وإرادة وعلم، ولا بد للعلم بالشيء ولإرادة خلقه أن يجيئا لتجيء القدرة؛ أي جعل الشيء مقدرا بتقدير معين ...
إنني حين أشهد بوجود الذات الإلهية فإنني أشهد بذلك نفسه على ضرورة وجود العلم، والإرادة، والقدرة ... إلى آخر مجموعة الصفات التي تدل عليها أسماء الله الحسنى. وهذه المجموعة من الصفات هي لله تعالى على نحو مطلق بغير حدود، وهي كذلك للإنسان على نحو نسبي محدود؛ فلله تعالى العلم كله وللإنسان بعضه، ولله التقدير على إطلاقه وللإنسان تقدير محدود، وهكذا. ومعنى ذلك أن شهادة أن لا إله إلا الله هي بالتالي شهادة بضرورة أن تتحقق مجموعة من الصفات، بصورة كاملة في الإله وبصورة ناقصة في الإنسان؛ فمن لم يعمل على أن يكون في حياته عالما، مريدا، قديرا، مهيمنا، عزيزا، جبارا ... إلخ، كانت شهادته باللفظ دون المعنى.
وأما الركن الثاني الذي تتضمنه شهادة ألا إله إلا الله، فهو وجود الذات الإنسانية الشاهدة، وها هنا كذلك لا ينبغي أن نقنع بكلمة نلقيها في الحديث بغير حساب، بل لا بد من الوقوف المتأمل عند «الذات الإنسانية» هذه لترى متى يتحقق وجودها وكيف. إن أفراد الناس مهما تشابهوا في أبدانهم وفي طرائق سلوكهم، تشابها مكن العلماء من استخراج القوانين العلمية التي تتحقق في كل إنسان مهما يكن زمانه ومكانه؛ فمكن علماء الفسيولوجيا - مثلا - أن يحددوا أعضاء الجسم البشري ووظائفها، ومكن علماء النفس وعلماء الاجتماع من أن يصوغوا القوانين العلمية التي تحدد سلوك الإنسان فردا ومجتمعا؛ أقول إنه مهما يكن من أمر هذا التشابه أو التجانس بين أفراد الناس، فلن يكون الفرد الإنساني «ذاتا» إلا إذا بقيت له بقية يختلف بها عن جميع من عداه، وهي بقية لها كل الأهمية والخطورة لأنها هي التي تحدد هويته، وهي التي نعدها مسئولية أمام الله وأمام الناس. وهذا الجانب الفريد من كيان الإنسان هو الذي «يشهد» بألا إله إلا الله. وضيق المقام هنا يمنع من الإفاضة في هذه النقطة الجوهرية من طبيعة الإنسان، لكن لمسنا الإشارة السريعة بأن من شهادة ألا إله إلا الله تنبثق نظم اجتماعية وسياسية قوامها الاعتراف للأفراد بذوات مستقلة متفردة قائمة برءوسها.
ويبقى الركن الثالث المتضمن في «الشهادة»، وأعني به وجود الآخرين. ومرة ثالثة أقول إن الأمر لا يقتصر على لفظ نلفظه بالشفاه، بل لا بد أن يجاوز ذلك إلى معان نعيشها. وأترك لك تقدير الفرق الشاسع بين إنسان يتصرف كما لو لم يكن في الدنيا سواه، وإنسان يضع في اعتباره عند كل خطوة يخطوها وكل فعل يؤديه أن هنالك آخرين اعترف بهم ضمنا حين شهد ألا إله إلا الله. وهكذا تنشأ لنا عن أصل واحد ضرورات ثلاث؛ الحقيقة الدينية والفردية الإنسانية وروابط المجتمع.
خطان متعامدان نحو جامعة للشعوب الإسلامية والعربية
إنني في مجال الحديث عن جامعة الشعوب الإسلامية والعربية، لا أملك شيئا جديدا أضيفه، اللهم إلا توضيح الفواصل الغامضة بين الفكرتين؛ الإسلامية من جهة والعربية من جهة أخرى؛ فلقد صادفتني مواقف كثيرة، وجدت فيها ذاك الغموض شائعا على صور مختلفة، يحجب عن أصحاب النظر رؤيتهم الواضحة للجوانب الواصلة والجوانب الفاصلة بين الفكرتين؛ فكرة الوحدة الإسلامية وفكرة الوحدة العربية. وعلى غموض الرؤيا كثيرا ما يتولد غموض في خطوات العمل.
Page inconnue