وخذ أمثلة قليلة من كثير صادفته على تراكم الأيام.
إن من الحقائق المعترف بها، والتي يتعذر إنكارها حتى على الجاحدين، أن الفكر العربي قد اضطلع بدور نادر الحدوث في تاريخ الفكر البشري كله؛ ألا وهو تحطيم الحاجز العنيد الذي لبث قرونا طوالا يفصل بين حضارتين وثقافتين وطريقتين من الحياة ومن النظر؛ وأعني بهما بلاد الفرس وما وراءها تجاه المشرق، وبلاد اليونان وما وراءها تجاه الغرب، مما أجرى على الألسنة - بحق - تفرقة بين ما أسموه «شرقا» من جهة وما أسموه «غربا» من جهة أخرى، ومن الأولى قامت إمبراطورية الساسانيين، ومن الثانية قامت إمبراطورية البيزنطيين. وإننا لكثيرا ما نقرأ عن حروب الإسكندر الأكبر، التي اكتسح بها الرقعة كلها. إنه كان يمتلك الحروب رائدا في الثقافة الإنسانية، إلى جانب عبقريته العسكرية. والمراد بتلك الريادة الثقافية هو أنه أزال شيئا من الحاجز الحضاري الذي أشرنا إلى قيامه بين «شرق» و«غرب».
لكن ما صنعه الإسكندر الأكبر في هذا السبيل لا يكاد يذكر بالقياس إلى ما أدته في ذلك الفتوح الإسلامية وما صحبها بعد ذلك من فكر عربي، لأن الدمج لم يكتمل منه شيء على يدي الإسكندر الأكبر، بينما اكتمل على أيدي المسلمين، وأصبح في حدود الممكن، بل في حدود ما قد وقع بالفعل، أن نقلت الثقافتان اليونانية والفارسية إلى العربية، فالتقى الضدان المزعومان في تركيبة فكرية واحدة، هي التي صارت بعد ذلك تعرف بالثقافة العربية.
كل ذلك معروف ومعترف به. فمن ذا يلومني إذا قلت إنني وقفت والدهشة تملأني، حين وجدت مفكرا غربيا - بعد اعترافه بالدمج الفكري الذي صنعه العرب - عاد ليقول إن العرب برغم ذلك ظلوا «شرقا» لم يتأثروا بالصبغة الثقافية التي صنعوها بعقولهم. كيف كان ذلك يا مولانا؟ وهل صنع العربي تلك الصيغة الجديدة لتكون مجالا للهوهم، أم هم صنعوها ليصدروها لك وليحرموا أنفسهم مما صنعوه؟ وما كنا لنهتم بوصفنا «شرقا» لولا أنهم هناك، وفي مثل هذا السياق من الحديث، يقرنون صفة «الشرق» بصفات ذميمة، أقلها الطغيان.
وخذ مثلا آخر: قال قائل منهم إن الرقعة العربية صنعت للعالم طريقة الكتابة بالحروف الأبجدية (عظيم)، ونقلت الكتابة من فينيقيا إلى اليونان، حيث تطورت هناك (عظيم)، فنتجت عن ذلك نتيجة تلفت النظر (ماذا يا ترى؟) وهي أن العرب قدسوا ما هو مكتوب، كأنما عبدوا الأحرف التي صنعوها، على حين استطاع اليونان أن ينظروا إليها نظرتهم إلى أداة للفكر، لا نظرتهم إلى مقدس معبود! (الله أكبر!) فبدل أن يجعل ابتكار الطريقة بالأبجدية لمعة ذكاء نادر، ودليل إبداع حضاري ممتاز، راح صاحبنا يلتمس لنفسه طريقا يصل به إلى حرية الفكر عند اليونان وعبودية الفكر عند العرب، مستندا في ذلك إلى عبقرية العرب. أفرأيت أعجب من ذلك منطقا؟ مرة أخرى نقولها: حقا إن الغرض مرض، كما يجري على ألسنة الناس في حياتهم الجارية.
أسطح بغير أعماق
ليس من قبيل التشاؤم الأحمق، أن نقول عن «الأدباء» من رجال هذا الجيل، إنهم يحيون في أدبهم حياة على الأسطح لا تعرف الأعماق. ومن هنا نراهم وقد جاءوا عبثا على مسيرة الثقافة العربية أكثر مما جاءوا ليكونوا محركات لها نحو الأمام.
ليس من حق الكاتب - أي كاتب - أن يلقي بألفاظه على الورق دون أن يضمر لها في نفسه دلالات محددة، يخرجها إلى العلانية إذا ما طلب إليه تحديد معانيه. وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة لأي كاتب بصفة عامة، فإني أشعر أنه ألزم لي بصفة خاصة، لكثرة ما دعوت إلى ضرورة إلجام كلماتنا بمعانيها المحددة، حتى لا تشطح بنا إلى عالم الأوهام.
وها هنا جاءت لفظتان تريدان شيئا من التحديد قبل المضي في اتهام أبناء هذا الجيل بما اتهمناه؛ ألا وهما لفظة «السطح» ولفظة «العمق» حين يكون الحديث منصبا على أدب وفكر وثقافة. •••
ونقولها باختصار: إنه إذا كان ثمة من فكر أو أدب أو ثقافة بصفة عامة فلا بد أن يكون مدار الحديث آخر الأمر هو «الإنسان». وحتى إذا كان الموضوع مأخوذا من الطبيعة التي تحيط بنا، فإنما يأخذه الكاتب مأخذا يمس به حياة الإنسان من قريب أو من بعيد. وقد نستثني من هذا التعميم «العلوم» بنوعيها؛ العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية. ومع ذلك، فحتى هذه منسوبة إلى الإنسان مبدعها بوجه من الوجوه.
Page inconnue