وهنا لا بد أن أنصف نفسي، ما دمت لم أجد من الناس منصفا، فأقول: لم يكن قبل قصة الفلسفة الحديثة كتاب عربي بهذا الشمول عن الفلسفة الحديثة؛ فلئن كانت الفلسفة اليونانية قد ظفرت بحظها في اللغة العربية منذ تولاها العرب الأقدمون، فإن الفلسفة الحديثة لم تكن هذه حالها. ومعنى ذلك هو أن كل ما ورد فيها من مصطلحات وأسماء، كان لا بد له من ألفاظ عربية نبتكرها لها ابتكارا. وإذا كان بعضها قد أصابه التعديل بعد ذلك فإن كثيرا جدا منها قد صمد ليكون هو اللفظ العربي المقبول.
وكنت فيما بين «القصتين»: «قصة الفلسفة اليونانية» التي صدرت سنة 1935م، و«قصة الفلسفة الحديثة» التي صدرت سنة 1936م، قد ترجمت أربع محاورات أفلاطونية، هي التي يسمونها أحيانا بالمحاورات السقراطية؛ لأنها تصور سقراط على حقيقته، ولا يكون فيها سقراط شخصا حواريا يجري لسانه بأفكار أفلاطون. ترجمت المحاورات الأربع ونشرتها بعنوان «محاورات أفلاطون».
ذلك كان شأني عندئذ: أعرض الأفكار نيابة عن أصحابها، ولعله كان وما يزال شأن كثيرين غيري؛ فحياتنا الفكرية ربما لبثت حتى يومنا هذا معتمدة على عرض المنقول، سواء كان هذا المنقول مأخوذا عن الغرب الحديث، أو كان مأخوذا عن الأدباء العرب الأولين. ولما شعرت يومئذ بأن جهودي المضنية لم تلق التقدير الذي كنت أرجوه، برغم ما لقيته من رواج في السوق، لجأت إلى المقالة الأدبية أبثها شكواي، وأحسبها هي الشكوى التي نسمع مثلها من الشباب في كل عصر، حين يتعجل التقدير قبل أوانه؛ فكتبت في مجلة الثقافة، التي كانت قد نشأت لتوها، صادرة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، مقالتين، جاءت الثانية مؤيدة للأولى، وهما «البرتقالة الرخيصة» و«ذات المليمين»، فأحدثتا شيئا من الأثر. كان المدار في المقالة الأولى عطفا على البرتقالة التي مهما أوتيت من حسنات، فلن تلقى عند الفاكهاني عنايته بالتفاح وإن أعطبه الدود. وكان المدار في المقالة الثانية غفلة قطعة النقود ذات المليمين - وكانت عندئذ عملة قائمة - إذا توهمت شبها بينها وبين الريالات وأنصافها، حين ترى نفسها محشورة معها في كيس واحد.
وبذلك أوشكت الثلاثينيات أن تسدل أستارها، لتجيء الأربعينيات في حياتي الثقافية بلون جديد.
مرحلة التحول
لم تكن ثلاثينيات القرن قد انتهت، حين حدثت في حياتي الأدبية أربعة أحداث، كان أولها ظهور مجلة الثقافة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد أمين لكونه رئيسا للجنة؛ فوضعت ثقلي في تلك المجلة بديلا عن مجلة الرسالة. وكان الحدث الثاني هو مشاركتي لبعض أعضاء اللجنة في مشرع لترجمة عيون الأدب الغربي، وكان نصيبي منه كتابا من تأليف ه. ج. ولز، والكتاب ضخم، وموضوعه ميادين العمل والثراء في العالم، استهدف به مؤلفه إظهار العيوب التي هي علة الأمراض الاجتماعية كلها، كما استهدف به أن يبين بأن الاشتراكية هي المخرج الوحيد. وكان المفروض أن يضطلع بترجمة ذلك الكتاب الضخم ثلاثة أعضاء، هم الأستاذان عبد الواحد خلاف، ومحمد فريد أبو حديد، وأنا، ثم انصرفنا في إجازة الصيف لأعود بعدها وقد أكملت الثلث المخصص لي، ولأجد أن الزميلين لم يكتبا حرفا. وكان لا بد من أن ينشر الجزء الذي ترجمته في كتاب مستقل، لكن ذلك الجزء المترجم كان يحتوي على ما يقرب من نصفه مما لا يفهم إلا موصولا بما قبله، فحذف ذلك النصف، واكتفت اللجنة بنشر النصف الآخر ليجيء الحديث متكاملا، وصدر الكتاب بعنوان «الأغنياء والفقراء».
وأما الحادث الثالث فهو أن أعلنت وزارة المعارف - هكذا كان اسمها في تلك الأيام - عن مسابقة أدبية، فدخلت فيها بكتاب عن المدن الفاضلة كما تصورها الفلاسفة والمفكرون في العصور المختلفة، وظفرت فيها بالجائزة. وكان الذي سلمني الجائزة - ومقدارها فيما أذكر يقل قليلا عن مائة جنيه - هو الدكتور هيكل الذي كان وزيرا للمعارف يومئذ. ولقد نشر الكتاب بعد ذلك بأكثر من عشرة أعوام، وجعلت عنوانه «أرض الأحلام».
وأما خاتمة الأحداث التي جاءت في آخر أعوام الثلاثينيات، فهو البدء في مشروع طويل عريض، اتفقت مع الأستاذ أحمد أمين على إنجازه، بصورة الاشتراك التي أنجزنا بها من قبل ذلك قصة الفلسفة؛ إذ اتفقنا على كتابة «قصة الأدب في العالم»، الذي صدر منه خلال الأعوام السبعة، فيما بعد 1942م و1949م، أربعة مجلدات، انتهت بالقصة إلى أول القرن العشرين. ولغضبة كتمتها بين أضلعي، أمسكت عن تقديم الأصول الخطية للمجلد الخامس، وهو عن أدب القرن العشرين. وما زالت تلك الأصول حتى هذه الساعة «مدشوتة» بين أوراقي، لا أريد لها أن تشهد النور.
أردنا بقصة الأدب في العالم أن تكون كسابقتها قصة الفلسفة؛ فنعتمد على مراجع قليلة منتقاة، ثم نتفرع منها هنا أو هناك كلما اقتضت الظروف، على أن تكون العناية موجهة نحو الصياغة السلسة الواضحة التي يفيد منها أوساط القارئين. وكانت طريقة السير هي أن نقف وقفات مختارة، نطل منها على أرجاء العالم في فترة بعينها، لنرى ماذا كان من أدب في كل رجا من تلك الأرجاء. ولما كان الأدب العربي جزءا من القصة، فقد كان هذا الجانب من الكتاب هو نصيب الأستاذ أحمد أمين في الكتاب. كما عهدنا الأدب الفارسي لمختص، هو الدكتور عبد الوهاب عزام في النصف الأول من شوط المسيرة، والدكتور يحيى الخشاب في النصف الثاني منه. وفيما عدا الأدبين العربي والفارسي كانت بقية آداب العالم نصيبي.
ثم أراد لي الله فرجا بعد ضيق طالت به السنون، وهو أن الأربعينيات لم تكد تبلغ ضحاها حتى جاءتني فرصة السفر إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه في الفلسفة. كانت الحرب العالمية الثانية في عزها عندما تحدد موعد السفر. وكان السفر ليكون على سفينة هي إحدى مجموعة من السفن تسير مجتمعة لتحرسها المدمرات والبوارج. وكانت بورسعيد هي ميناء الرحيل. ولم يخصص المدنيين في تلك القافلة البحرية إلا جزء يسير. وكان هؤلاء المدنيون خليطا عجيبا، فيه من كل صنف طراز، فيه رجال من السلك السياسي، وفيه طلاب العلم، وفيه الموظفون من مختلف الألوان. وبدأت الرحلة بإرشادات إلى المدنيين، من قائد السفينة، وهي كلها إرشادات بالغة الصرامة والتحوط. وبرغم ذلك الجو الرهيب لم أشعر بأدنى درجة من درجات الخوف؛ لأن الرغبة في تحقيق الأمل كانت أشد وأقوى.
Page inconnue