وإذا تؤملت المناقب التي تخلد حسن الذكر، وتمثلت صورًا تستشف في مرآة الفكر؛ وجد أحسنها منظرًا، وأشفها جوهرًا ما كانت النعمة فيه تتعدى، والآمال تتعرض نحوه وتتصدى، فلذلك عظم رب المنائح والصلات، وفضل المتنفل بالصدقة على المتنفل بالصلاة؛ وذلك (أن) المصلي لا تتجاوزه مثوبة ما صنع، والمتصدق فقد نفع غيره وهو لا محالة قد انتفع. وهذا أمر قائم الدليل، واضح برهان التفضيل. ثم إن هذه النعمة المشتركة بين منعم عليه بها، ومنعم يثاب بسببها، تنقسم في قسمين أيضًا: أحدهما البر المعهود والصدقة المعروفة، والآخر العفو عن الجرائم التي تأبى احتمالها الطباع العزوفة. وتفضيل من يعفو على من يتصدق فرض واجب، وترجيحه عليه أمر متعين وحق لازب؛ لأن المتصدق لا يتجاوز حالًا مختلة يسد خصاصتها وفاقتها، والعافي عن الذنوب فقد يحقن دماء يوجب العدل سفكها وإراقتها. فالأول يولي جميلًا ويحسن صنيعًا، والثاني يحيي نفيسًا (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) فبينهما هذا التفاوت الذي لا يخفى قدره، والتباين الذي لا يستتر على ذي تصور أمره، فقد استقر بهذه السياقة أن العفو أكرم الخصال، وأعلى منازل الكمال، وأحمد الأفعال عاقبة في العاجلة والمآل. ومن لطائف الله تعالى بأهل هذا العصر، ومواهبه التي تتعدى مدى الإحصاء والحصر؛ أن جعل هذه الفضيلة التي قام بها البرهان على أنها الأولى في العدد، وارتفع الخلاف في كونها الأولى بتعظيم كل أحد، أغلب الخلال على خلائق مولانا الملك السيّد الأجل الأفضل أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، عضد الله ملكه بالتخليد، وشد ببقائه أزر الإيمان والتوحيد، الذي ملأ جماله العيون، وصدق إحسانه الظنون، ووضحت الدلائل على أن مثله لم يكن قط ولن يكون:
هيهات قامت معجزات العلا ... فيه وماتت آية الانفراد
جل عن الناس فما عابه ... شيء سوى تشبيهه بالعباد
ثم إنه بسط الله اقتداره، وأعز أولياءه وأنصاره لم يعرض من الصفح بما ألف، ولم يقنع من العفو بما عرف مما يجود منه على الجاني ببقاء روحه، ويحول به بين المجرم وبين سكنى ضريحه، حتى أبان من التذاذه بالغفران، وإحسانه إلى من قابل نعمته بالكفران ما جعل المذنبين يتقربون إليه بالجرائر، والمسيئين يتوسلون عنده بالكبائر، فحمدوا خطأهم وما عهدنا الخطأ مع غير كرمه يحمد، وجحدوا براءتهم وما عرفنا البراءة لولا فيض فضله تنكر وتجحد، وصارت إساءتهم من مواتهم إليه وشوافعهم، وجنايتهم من حرماتهم لديه وذرائعهم. فما أصدق ما قال أحد شعراء مجلسه العالي شيد الله مبانيه، وبلغ كلًا من مماليكه آماله وأمانيه:
وسعت مراحمك الجناة بأسرهم ... وأقلت كلًا منهم عثراته
وجزيت مرتكب الكبيرة منهم ال ... حسنى فأصبح شاكرًا زلاته
وهذا المعنى وإن كان مجيدو الشعراء قد ألموا به، وأبدعوا فيه، وسلكوا منه مذهبا لا يسلكه غيرهم ولا يقتفيه، كقول مهيار - وهو من المستحسن المختار -:
وإذا الإباء المر قال لك: انتقم ... قالت خلائقك الكرام: بل احلم
شرع من العفو انفردت بدينه ... وفضيلة لسواك لم تتقدم
حتى لقد ود البريء بأنه ... أدلى إليك بفضل جاه المجرم
1 / 2