ولم تنصرف الصبية بسراجها، وإنما ظلت في مكانها حتى مد يده إلى سلسلة تضطرب في الجو فجذبها إليه في شيء من العنف، حتى إذا هبط إليه المصباح المعلق في السقف أضاءه ورفعه، وقال للصبية: انصرفي الآن وعشينا إن كان عندك طعام.
ثم جلس مني غير بعيد وأشار إلى غلامي الأسود الصغير أن استرح حيث تشاء، وبدأ حديثه معي في لهجة الحازم الجاد، فقال: والآن يا سيدي يجب أن ندع اللغو فما جئنا هنا لنلغو ولا لنلهو، وأن نأخذ في الجد فللجد وحده أقبلنا، فحدثني من أنت، وسأحدثك من أنا، حتى إذا عرف كل منا صاحبه وأخذنا فيما ينبغي أن نأخذ فيه قلت: فإنك تنظم الأمر كما تحب، تتحكم في ذلك تحكما غريبا؛ لا تسألني عن شيء، ولا تستشيرني في شيء! فإني لم أطلب إليك أن أجيء إلى هذا المكان ولا أن آخذ معك في لغو أو جد. قال مقاطعا: فأنت لا تريد إذا أن تحدثني عن نفسك حتى أحدثك عن نفسي، فسأحدثك عن نفسي ولكن بعد أن أنبئك أني أعرفك حق المعرفة، وكنت خليقا أن تعرفني لولا أنك حديث السن.
ثم قص علي من أمري ما كنت أظن أنه أبعد الناس عن العلم به، ولكني لم أدهش لذلك حين ذكر لي اسمه وتحدث إلي عن أسرته، وأنبأني بأنه من هذه القرية التي ليس بينها وبين مدينتنا إلا ساعة أو بعض ساعة للذين يمشون على الأقدام، وأنه قد نشأ في مدينتنا، أو أكثر التردد عليها حتى كأنه نشأ فيها، وأنه قد تعلم القراءة والكتابة في نفس الكتاب الذي تعلمت فيه، وقد عرف إخوتي الذين سبقوني إليه، وقد ظلت المودة متصلة بينه وبين بعضهم حتى تركت أسرتنا هذه المدينة إلى أقصى الصعيد، وحتى هبطنا نحن إلى القاهرة نطلب العلم في مدارسها المختلفة.
منذ ذلك الوقت تقطعت الأسباب أو رثت بينه وبين من كان يود من إخوتي، يسألني عنهم واحدا واحدا، وأنا أجيبه، ثم أسأله عن نفسه كيف تعلم وماذا يعمل الآن؟ فينبئني بأنه أتم درسه الثانوي منذ أعوام، واتصل بوزارة الأشغال يعمل فيها كاتبا في بعض الدواوين يختلف إليها وجه النهار، ويعكف آخر النهار وجزءا غير قليل من الليل على القراءة والدرس حتى كلف بهما أشد الكلف، وأصبح عمله في الوزارة وسيلة آلية، على حين هو عند أترابه من الشبان غاية لا يلتمسون غيرها غرضا من أغراض الحياة.
ولم يكد يتقدم الحديث بيننا في هذه الشئون حتى أقبلت الخادم تزيل ما على المائدة من كتب لتهيئها للأطباق وآنية العشاء، وقد زالت الكلفة بيننا، وأخذت أسمع منه وأتحدث إليه كما يكون الأمر بين إلفين قد بعد العهد بما بينهما من المودة والحب والمخالطة، فليس بينهما تصنع ولا تكلف ولا عناية بما يقولان.
وما هي إلا لحظات حتى كنا نلهو ونضحك من ذكريات لم نلبث أن وجدناها مشتركة بيننا، وكلها متصل بحياتنا في الريف.
5
قال لي في بعض ما كان يقول، وقد هدأ نشاطه وانخفض صوته، ورقت لهجته، وجعل يتحدث إلي كأنما يهمس همسا وكأنما يصدر صوته عن نفس متأثرة أشد التأثر، وقلب يملؤه الود والحنان، ولو أني استطعت أن أرى وجهه في تلك الساعة لما شككت في أني كنت خليقا أن أتبين فيه مظاهر التأثر وآيات الحنان.
قال لي في هذا الصوت العذب: «هبني في القرية، وهبك في المدينة، وهبني أريد أن أزورك لأقضي معك شطرا من النهار، فأين ألقاك؟»
قلت: «إنما يزار الناس في دورهم.» قال: فإني لا أريد أن أزورك لأني لا أريد كلفة ولا حرجا، ولا تقيدا بهذه الأوضاع التي يتقيد بها الناس، ولا سيما الشباب والصبية، حين يتزاورون في الدور، حيث الآباء والإخوة الكبار، إنما أريد أن ألقاك حرا، طلقا، لا تحسب حسابا لشيء ولا لأحد، وأحب أن تلقي عن رأسك هذه العمة الثقيلة التي تضطرك إلى وقار لا أحبه لك، ولا أرضاه منك، وأن تخرج من هذه الثياب التي لا يلبسها إلا الشبان الذين تقدمت بهم السن إلى ضحوة الشباب، فأنت في آخر ليل الطفولة، وفي أول فجر الشباب. قد أخذت نفسك تتفتح للحياة وتبسم لها، وتخرج من غفلة الطفولة، وتحاول أن تقدر الأشياء، وأن تزنها وأن تحكم عليها في هذا الغرور الجميل اللذيذ، الذي يخيل إلى الغلمان أنهم رجال، ويلقي في روعهم أن آراءهم موفقة دائما، وأن أحكامهم صائبة دائما، وأن الكبار من الرجال يخطئون حين يسيئون الظن بهم ويرونهم صغارا ولا يشركونهم معهم في كبار الأمور.
Page inconnue