في ذات يوم أصبحت ضيق الصدر كئيب النفس، شديد الحرج، ممتلئا بهذا العجز الموئس عن رضاء هذين الشيخين، كارها أشد الكره للدار والقرية ومن فيهما، فخرجت أهيم في الريف ألتمس راحة النفس في تعب الجسم، ولست أزعم أني خرجت أريد وجهة بعينها، أو أسعى إلى غاية معروفة، وإنما هو المشي، والإبعاد فيه، والخلوة إلى النفس، والفرار من لوم اللائمين، وعذل العاذلين، وإلحاح الملحين. وإني لأمضي أمامي لا أحفل بشيء ولا أقف عند شيء، وأكبر الظن أن كثيرا من الناس الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم قد لقوني فحيوني، وما أشك في أنهم قد أنكروني لأني لم أسمع منهم، ولم أرد عليهم تحيتهم، ولعل كثيرا منهم قد تحدث إلى نفسه بأن هذا أول الشر، وبادرة الفساد، إنه ليعرض عنا، ويكبر علينا، ولم يذهب إلى بلاد الفرنج بعد، فكيف به إذا ذهب إليها وعاد منها.
والله يشهد ما رأيتهم ولا سمعتهم، ولا أحسست مكانهم مني، إنما كنت مشغولا بنفسي عنهم وعن كل شيء، وإنك لتعلم أني كثيرا ما حدثتك عن كلفي بالخروج إلى الريف، والتروض في الحقول أثناء هذا الفصل من العام، حين يكون الحصاد، وحين يشتد النشاط، وحين تنتشر في ريفنا هؤلاء الفتيات الفقيرات الحسان متبذلات بحكم الفقر، يطوفن بالحقول ويلتمسن أقواتهن في التقاط ما يسقط من الحب. إنك لتعلم كلفي بالخروج في هذا الفصل، وإني أجد لذة حارة حادة في الاستمتاع بهذا الجمال الطبيعي الذي تسبغه الحياة العاملة الجادة على أهل الريف حين يخرجون من أطوار الخمود والجمود، ويفنون في طبيعتهم هذه ويصبحون وكأنهم أدوات للعمل والإنتاج، لهم جد الأداة وصدقها واستقامتها وصبرها وإعراضها عن الشكوى، وبعدها عن الملل والسأم. فما رأيك في أن هذا الجمال الذي يفتنني ويملك على قلبي ويحملني على الرحلة إلى الريف إذا كان هذا الفصل من كل عام، لم يصل إلى قلبي، ولم ينته إلى نفسي في هذا اليوم. فلم أقف عند الأجران ولم أتحدث إلى المصيفات، ولم أداعب فتى ولا فتاة من هؤلاء الشباب الذين يملؤهم العمل نشاطا ومرحا ويقينا وثقة وإيمانا، إنما مضيت أمامي لا ألوي على شيء كأنما تدفعني قوة خفية إلى غاية خفية لم أتبينها ولم أتنبه إليها، إلا فجأة حين رأيتني واقفا جامدا وحين أنكرت من نفسي هذا الوقوف وهذا الجمود ونظرت من حولي كأني أفقت من نوم عميق، فما يروعني إلا أن أراني واقفا أستظل بشجرات التوت عند الإبراهيمية، هناك حيث مدخل المدينة لمن أقبل عليها من الغرب.
تبارك الله فلم أكن إذا قد خرجت من دارنا ضيقا بها وبمن فيها، ولم أكن إذا قد خرجت من قريتنا فرارا منها ومن أهلها، ولم أكن إذا قد همت في الريف التماسا للخلوة إلى نفسي والراحة مما كنت أظن من عناء، وإنما خرجت من الدار وخرجت من القرية ومضيت في الريف أمامي لأني لم أكن أجد بدا من أن أزور هذه المدينة التي أنفقت فيها أحسن أيام الصبى، ومن أن ألم بهذه الربوع التي ذقت فيها أطيب ما ذقت في الحياة من لذة قوية طاهرة بريئة من كل إثم.
إذا فلتعد إلي نفسي النافرة، وليثب إلي قلبي الجامح، وليراجعني هذا العقل المضطرب المشرد لأستجمع كل ما أستطيع أن أستجمعه من قوة الحس والعقل والشعور، لأستمتع بالحياة القوية الخصبة في هذه المدينة الحبيبة إلى نفسي، الكريمة على قلبي، ولآخذ منها بأعظم حظ ممكن من المتاع، أجعله زادا لي في هذه الرحلة البعيدة التي أنا مقبل عليها وأجعله ذخرا لي في هذه الإقامة الطويلة التي سأقيمها في ذلك البلد الغريب.
لأملأ إذا عيني مما سأرى، ولأملأ إذا أذني مما سأسمع، ولأملأ إذا نفسي وقلبي مما سأجد، وإني لأنظر فلا أكاد أرى إلا الإبراهيمية تمتد أمامي، ويسعى فيها الماء هادئا حلو السعي، إلا هؤلاء الناس يسعون متفرقين، منهم المقبل من الغرب يحمل إلى المدينة ما يبعث إليها الريف من العروض، ومنهم الذاهب إلى الغرب يحمل إلى الريف ما تذيع المدينة فيه من التجارة، بعضهم راجل، وبعضهم راكب، وقليل منهم يتحدث إلى رفيق، وكثير منهم يغرق في الصمت كأنما يفكر فيما وراءه أو فيما أمامه. وقليل منهم يتغنى كأنه يستعين بالغناء أو يعين به دابته على احتمال السفر البعيد، وامرأة أو فتاة تأتي من حين إلى حين، فتغمس جرتها في الماء حتى إذا امتلأت رفعتها إلى رأسها ونهضت تسعى بها رشيقة رائعة الجمال غامضة في هذا الصمت الذي يحجب نفوس النساء، ويستر ما يجول فيها من خواطر يود الرجل لو يعرف منها بعض الشيء. وإني لأمد سمعي فلا أسمع إلا هذه الأصوات المختلفة التي تأتيني من هذه الحركات كلها، وهذا اللحن الحلو المتصل المتشابه الذي يأتيني من هذه الأطيار وقد استقرت على الغصون، وكأنها وجدت لذة الراحة وأحست رقة النسيم واستمتعت بخفض العيش بين هذه الأوراق النضرة، فهي تتغنى بالجمال واللذة والأمل وحب الحياة. وإني لأمد نفسي كلها فلا أحس إلا حياة هادئة قوية نقية تأتيني من كل وجه، من الحركات التي أرى، ومن الأصوات التي أسمع، ومن هذا النسيم الخفيف الذي يمسني مسا رقيقا فيرد إلي النشاط ويحيي في نفسي الأمل، ويلقي عني كل ثقل ويكاد يهبني جناحين ويكاد يجعلني طائرا بين هذه الطير، ويكاد يرسل صوتي كما أرسل صوتها بالغناء، وأنا أقيم هنا في ظل شجرات التوت ساعة أنعم فيها بالراحة وأستمتع فيها بالحياة وأذكرك أيها الصديق، ثم أتهيأ للمضي أمامي ولأنقض على المدينة من هذا المنحدر، فرحا مرحا نشيطا طروبا، كما ينقض النسر. وهأنذا أمضي وأقدر ما سألقى من المناظر وأريد أن أبلغ أول القناة، قناتنا أتذكرها؟ أريد أن أبلغ أولها وأن أتبع مجراها أسايره على الشاطئ الجنوبي حتى إذا بلغت ذلك المنحدر الذي تعرفه، ودعتها لحظة وانحدرت إلى المدينة لأمر بهذه الأماكن التي كنا نألفها، بالدكان وبيت أم محمود وبيت زنوبة. ثم أمضي حتى أبلغ شارعكم ولعلي أقف لحظة عند أوله فأتحدث إلى بمبة، أتذكر بمبة؟ تلك التي كانت تسرف في النوم وتسرف في الغطيط ويسمع الناس غطيطها في أكثر ساعات النهار، وفي كل ساعات الليل، إذا مروا أمام بيتها الصغير. من يدري! لعلي كنت أقف لحظة عند هذا البيت فأعبث بصاحبته وأسألها عن أصناف الجبن الذي تبيعه وجه النهار، ثم ألهو لحظة بابنها الأبله ذي الرأس الغريب، أتذكره؟ لقد كنا نسميه أبا الرءوس. إنه لا يتكلم ولا يسمع، ولا يكاد يعقل، من يدري! لعلي كنت ألهو به لحظة ثم ألقي في يده أو في يد أمه بعض النقد.
ثم أمضي في شارعكم نحو الشمال فأمر بهذه البيوت التي كثيرا ما نعمت فيها بالجد والهزل، وأقف عند بيتكم في هذا المنعطف الصغير أمام الباب حيث تتدلى أغصان هذه العنبات التي كثيرا ما لعبنا في ظلها وأكلنا من ثمرها واتخذنا بينها الحدائق والحقول، ومن يدري! لعلي أجلس على هذه المصطبة الصغيرة عن يمين الباب إذا خرجت من البيت وأذكرك أو أذكر إخوتك، فكثيرا ما جلسنا عليها وكثيرا ما لعبنا الطاب، ومن يدري! لعل الذكرى أن تملأ نفسي وقلبي، وأن تنسيني نفسها وأن تخيل إلي أنها حاضرة لم تمض ولم تنقض أيامها، ولعلي أعتقد أني قد أقبلت لأزوركم، ولعلي أطرق الباب وأنتظر أن أسمع من ورائه صوتا معروفا مألوفا يسأل عن الطارق، وأنتظر أن يفتح وأن أرى من دونه شخصا معروفا مألوفا يرحب بي ويدعوني إلى الدخول، ثم أنظر فأرى شخصا لم أعرفه ولم آلفه يسألني من أنا وماذا أريد، فأثوب إلى نفسي وأستأنف رحلتي وقد مثلت فصلا من حياتي الأولى ووجدت في التمثيل مثل ما كنت أجد من اللذة حين كانت الحياة حقيقة واقعة.
ثم أستأنف رحلتي فأمضي نحو الشمال حتى أبلغ هذا المنحدر الذي كنا ننحدر منه بعد أن كنا نقضي ساعات على شاطئ القناة أو في حديقة جرجس أفندي عن شمالنا، أو في حديقة المعلم عن يميننا، فأرقى في هذا المنحدر حتى ألقى القناة فأتابع شاطئها في طريقي إلى المدينة.
وكنت أقدر هذا كله وأقدم لنفسي المتاع بهذا كله وأنا أمضي أمامي ملتمسا مخرج القناة من الإبراهيمية، ولكن ماذا أرى؟ وأين أنا؟ وأين القناة؟ إني لأنظر فإذا الإبراهيمية تمتد وتمتد ويجري فيها الماء هادئا يحمل الحياة والخصب، ولكن شاطئها من ناحية المدينة قد اعتدل واستقام، فليس فيه عوج وليست فيه فرجة يخرج منها الماء، أين القناة؟ لقد كانت تخرج من نحو هذا المكان وكانت تمضي غير بعيد ثم يقام عليها جسر صغير تمر عليه بعض القطارات، ثم تمضي غير بعيد ونمضي معها فنبلغ هذا المنحدر الذي كان ينتهي بنا إلى المدينة، أين القناة؟ إني لا أراها ولا أجد لها أثرا، وإنما أرى شوارع وأرى دورا تقوم في هذه الشوارع، وأرى معالم لم آلفها. ومناظر لم أرها من قبل، أتراني أخطأت المدينة؟ ومع ذلك فأنا أعرفها كما أعرف نفسي، وأستطيع أن أمشي فيها وأهتدي إلى مسالكها المختلفة دون أن أفتح عيني كما كنت تمشي فيها أنت أيها الصديق لا تحتاج إلى أن ترى ولا إلى من يهديك الطريق، أين القناة؟ لقد سلكت إلى المدينة الطريق التي سلكتها ألف مرة ومرة، فلست أشك في أني قد بلغتها وبلغتها هي دون غيرها من المدن، فماذا أصابها بعدنا، وأين ذهبت القناة؟ إني لأريد أن أسأل فأجد حياء في نفسي من السؤال، ولكني أطيل الوقوف وأطيل النظر عن يمين وشمال، وأطيل النظر من أمام ومن وراء حتى يخيل إلي وإلى من كان يراني من الناس أني أبله قد فقدت الصواب، ثم لا أملك نفسي، وإذا أنا أسأل عن المدينة وعن القناة وإذا أنا أسمع، ويا شر ما أسمع! إني قد بلغت المدينة وإن القناة قد ماتت منذ زمن بعيد وإن معالم المدينة قد تغيرت منذ هدم معمل السكر، ماذا أسمع! معمل السكر قد هدم، وماذا بقي إذا في المدينة؟ أو ماذا جئت أرى في المدينة! ماتت القناة، وهدم معمل السكر! وغيرت المعالم! وانتقل أكثر من كنا نعرف في المدينة من الناس.
يا للحزن والأسى يا للوعة والحسرة! يا لليأس والقنوط! أيبلغ العنف بالزمان أن يمحو هذا المقدار الضخم من حياة الناس في أعوام قصار، لقد جد جيل وجيل في إقامة معمل السكر وإقامة ما حوله من الدور، بل من القرى، لقد عاش جيل وجيل، بهذا المعمل ولهذا المعمل، لقد عاش جيل وجيل بهذه القناة ومن هذه القناة، فكل هذا الجهد، وكل هذا العناء، وكل هذه الحياة، وكل هذه الذكرى، وكل ما كان على شاطئ القناة وحول معمل السكر من جد وهزل ومن لذة وألم، ومن حب وبغض، ومن أمل ويأس، ومن مكر ونصح، ومن خداع وإخلاص، كل هذا يذهب في أعوام قصار لا تكاد تبلغ عدد أصابع اليد الواحدة، كأن شيئا من هذا لم يكن، وكأن نفسا لم تتأثر بما أثارته الحياة في هذه الأرض من العواطف، وكأن شفة لم تبتسم لما أنبتته هذه الأرض من مناظر الجمال، وكأن عينا لم تبك لما شهدته هذه الأرض من أسباب الحزن والأسى، يا للحزن اللاذع! ويا للألم الممض! ويا لليأس المهلك للنفوس! لقد ماتت قناتنا أيها الصديق، ماتت ودفن فيها أو صرف عنها ذلك الإله الشاب من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحا مرحا هادئا وادعا مستبشرا يرسل البشر من حوله جميلا يثير الجمال على جانبيه، مات هذا الإله الشاب فدفن في مجراه أو طرد هذا الإله الشاب ورد عن مجراه وفني في الإبراهيمية، فأصبح ماء من الماء وجرى لا يتميز من غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحدا، لا يثير في نفوس الناس حزنا ولا فرحا ولا يجري ألسنتهم بالحديث، نسيه الناس، ونسي هو الناس، بل نسي نفسه أيضا.
إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم في المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طردا، فقد هدم معبد هذا الإله الشاب. وماتت القناة فمات هو أو نفي من الأرض وأصبح حديثا كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث. أتدري أين أكتب إليك؟ إني أكتب إليك في مكان لم يتغير لأن الحضارة لم تدع إلى تغييره، ولم يتبدل لأن المنفعة لم تأمر بتبديله، ولأن يد الإنسان لا تكاد تجرؤ على أن تمتد إليه، إني أكتب إليك عند المسجد، عند بابه البحري، أتذكر هذا الباب؟ هو الذي يدخل منه المترفون الذين لا يحتاجون إلى أن يمروا بالميضأة لأنهم يتوضأون في بيوتهم، ولا أن يمروا بالمغطس لأنهم يستحمون في بيوتهم، أتذكر هذا الباب؟ إنه ينتهي بك إلى قلب المسجد لا إلى فنائه ولا إلى الصحن المنبسط أمامه، إنك إذا دخلت منه لم تكد تخطو خطوات حتى تجد عن يمينك قبر ذلك الغني الذي بناه، أتذكر هذا الباب؟ إنك إذا أقبلت عليه وجدت مقعدين من الحجر يكتنفانه عن يمين وشمال، فأنا أكتب إليك عند هذا الباب، وأكتب إليك قائما لا قاعدا، وأكتب إليك وقد وضعت القرطاس على أحد هذين المقعدين المرتفعين وقمت أمامه أجري يدي بما تلقيه هذه النفس الحزينة على هذا القلم الشقي.
Page inconnue