الأَذْكَارُ النَّوَويَّة أَوْ «حِلْيَةُ الأَبْرَارِ وَشِعَارُ الأَخْيَارِ في تَلْخِيصِ الدَّعوَاتِ وَالأَذْكَارِ المُسْتَحَبَّةِ في اللَّيْل وَالنَّهَارِ»
تأليف
الإِمَام الحَافِظ المحَدِّثِ الفَقِيْهِ أَبي زَكَرِيَّا يَحْيى بن شَرَفِ النَّوَوي (٦٣١ - ٦٧٦ هـ)
حَقق نصوصَه وَخرّجَ أحاديثه وَعلّقَ عَليْه
محيي الدين مستو
دار ابن كثير
دمشق - بيروت
مكتبة دار التراث
المدينة المنورة - ص. ب ١٦٤٧
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
الأَذْكَارُ النَّوَويَّة
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة لمحَقق الكتاب
الطبعَة الثانيَة
١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م
مكتبة دار التراث
المدينة المنورة - شارع الأمير عبد المحسن (قربان) ص. ب ١٦٤٧ تلفون ٨٢٦٥٤٥٢ فاكس: ٨٢٦٥٤٥٢
دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع
دمشق - شارع مسلّم البارودي - بناء خولي وصلاحي - ص. ب ٣١١ هاتف ٢٢٥٨٧٧ - بيروت - ص. ب ٦٣١٨/ ١١٣
1 / 4
مُقَدِّمَة المُحَقِّق
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مُضِل له، ومن يُضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله.
وبعد:
فإنَّ ذكرَ الله تعالى يُحيي القلوبَ، ويجلو صدأها، وُيذهب قسوتَها، وُيذيبُ ما رانَ عليها من مكاسبَ وشهوات، ويصلُها بالله ﷿، فتَخفقُ في كنفه ورضوانه هانئةً مطمئنة .. والمسلم الذي يَنقادُ لربه سبحانه، ويذكرُه بلسانه وقلبه، وسرّه وجهره، إنما يُنيرُ دروبَ حياته ومَعَادِه بضياء إلهيٍّ غامر، ويُحرزُ نفسَه من كيد الشيطان ووسوسته، ويستحضرُ دائمًا أنه في حماية إلهٍ عزيز قدير، فتُثمرُ أوقاتُه بالمعارف والحكمة، ويكتسي وجهُه نضرةً وبهاءً.
وما أحوجَ المسلمين اليوم إلى ذكر الله تعالى واستغفارِه ومناجاتِه؛
بعد أن ادلهمَّت حولَهم الخطوبُ، واشرأبّتْ بينهم الفتنُ، وتداعى عليهم الأعداءُ، وتضافرتْ فوقَ رؤوسهم المحن .. وما أفقرَهم أفرادًا وجماعاتٍ إلى نور الذكر ليُبَدِّدَ ما اكتنفَ حياتَهم من ظلامٍ وفسادٍ وضَياع، وليجمعَ ما تشتَّتَ من قلوبهم وهِممهم، وما تبدَّدَ من إراداتِهم وعزائمِهم.
1 / 5
وأفضلُ الذكر والدعاء ما وردَ مأثورًا في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة؛ لما في ذلك من التوحيد الخالص، والعبادة المشروعة، والمحبّة الصادقة لله ورسوله، والالتزامِ بألفاظٍ مخصوصةٍ هدفَ لها الشّارعُ الحكيم.
وكتاب "حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار" المعروف ب "الأذكار" للإِمام يحيى بن شرف النووي؛ قد أودعَ فيه مؤلِّفُه خلاصةَ علمه وفقهه، وأذابَ في كلماته وحروفه من روحه وإخلاصه .. ورسمَ للمسلم من خلال آيات الذكر الحكيم، وأحاديث النبي الكريم؛ خطةَ عملٍ كاملة تشملُ يومَه وليله، ونومَه واستيقاظه، وعملَه وعبادتَه، وصحته ومرضه، وحِلَّه وترحالَه ..
وهو كتاب مشهور ومقبول لدى خاصّةِ العلماء، وعامّةِ الناس، ولم يحظَ كتابٌ في الأدعية والأذكار -قديمًا وحديثًا- ما حظيَ به "الأذكارُ النووية" من الذيوع والانتشار.
وقد طُبعَ مرارًا، وأفضلُ طبعتين له فيما أعلم:
الأولى: طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة ١٣٧٥ هـ، وبهامشها تعليقات حديثيّة ولغوية ونحوية؛ مأخوذة باختصار من كتاب "الفتوحات الربانية في شرح الأذكار النووية" لمحمد بن علّان الصدِّيقي المتوفى سنة ١٠٥٧ هـ. ولم تخلُ طبعة الأذكار هذه من تصحيفات وأخطاء، ومع ذلك فهي التي تُصَوَّرُ وتُطبع وتَشيعُ بين الناس.
الثانية: طبعة مكتبة المَلَّاح بدمشق سنة ١٣٩١ هـ؛ بتحقيق فضيلة المحدّث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله تعالى، وتمتاز بتحقيق النصوص، وتخريج الأحاديث، والتعليقات المفيدة، وقوبلت على نسختين خطيتين محفوظتين بالمكتبة الظاهرية العامرة بدمشق. ولا شك أن هذه الطبعة أعطت للكتاب كثيرًا مما يستحقُّه من عناية واهتمام.
1 / 6
وقد عرفَ علماؤُنا قديمًا فائدةَ هذا الكتاب العظيم، فقال بعضهم: "بعِ الدَّارَ واشترِ الأذكار"، وقال آخر: "ليس يذكرُ من لم يقرأ الأذكار"، ومن الوفاء والإِنصاف للكتاب في وقتنا الحاضر؛ أن يظهرَ للنَّاس بما يستحقُّه من مظهر قشيب، وطباعةٍ راقية، وخدمة منهجية، وعلمية فائقة .. والقارىء اليوم -بعد توفر الورق، وتقدُّم فن الطباعة- ليس بحاجة أن يبيعَ الدار أو غيرَها لشراء نسخة واحدة من كتاب كانوا يخطّونه على الرِقاق ويُمضون في كتابته أيامًا وشهورًا، بل بإمكانه الآن أن ينفقَ المال القليل؛ ليعمرَ دارَه وُيزيِّنَها بمكتبةٍ قيِّمةٍ، يَستقي منها مع أهله وأولاده الثقافةَ والعلمَ والأخلاق.
وأسألُ اللهَ سبحانه التوفيقَ والسَّدَادَ فى تحقيق وإعداد طبعة جديدة لكتاب "الأذكار" مُوَثَّقَةٍ ومُتميِّزَة؛ تتناسبُ مع تقدم الطرق الطباعية والإِخراج، وتكسرُ حلقةَ الاستمرار بتصوير طبعات قديمة تمّ إعدادُها وتنضيدُ حروفها الرصاصية المُكسَّرة منذ ثلاثين سنة أو أكثر.
كما أسأله تعالى العفوَ والعافية، وسلامةَ القصد، وحسنَ الخاتمة.
المدينة المنورة
٦ ربيع الثاني ١٤٠٦ هـ
١٨ كانون الأول ١٩٨٥ م
محيي الدين
1 / 7
(٢)
وَصْفُ النُّسَخِ المَخْطوُطةِ
قال الإِمام النووي -رحمه الله تعالى-: ابتدأتُ فيه -أي الأذكار- يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة ٦٦٦ هـ، أسألُ اللهَ الكريم إتمامَه على أحسن الوجوه، وهو حسبي ونِعمَ الوكيل (١).
وقال ﵀: فرغتُ من جمعه في المحرم من سنة ٦٦٧ هـ
سوى أحرف ألحقتُها بعد ذلك، وأجزتُ روايتَه لجميع المسلمين (١). فيكون جمعه في أربعة أشهر.
وصف النسخ المخطوطة:
١ - نسخة المكتبة الظاهرية: رقم /٧٠١٧/ حديث، ورمزت إليها بحرف "أ"، وتقع في مجلد بخط نسخ قديم مقروء، كتبها محمد بن أحمد بن عبد الكريم، صبيحة يوم الاثنين ١٢ ذي الحجة سنة ٧٣٩ هـ بالقاهرة المحروسة. وعدد أوراقها ١٧٦ وصفحاتها ٣٤٦، ومسطرتها ٢٠ - ٢٢ سطرًا ١٩ سم، وبهامش الصفحات تصحيحات بخط الناسخ نفسه.
٢ - نسخة المكتبة الظاهرية: رقم /١٢٢٤/ حديث، ورمزت إليها بحرف "ب"، وتقع في مجلد بخط نسخ جيد، وصفحتها الأولى فيها زخرفة
_________
(١) وجدتُ تاريخ البدء بتأليف "الأذكار" مثبتًا على النسختين المخطوطتين (أ) و(ب).
أما تاريخ الانتهاء من تأليفه، وإجازة روايته؛ فموجود في نهاية جميع النسخ الأربعة المتوفرة لدي، وقد قرأه الحافظ السخاوي بخط النووي، وكتب ذلك في ترجمته ص ١٢.
وأما عبارة "فيكون جمعه في أربعة أشهر" فهي -غالبًا- من استنتاج الناسخ أو غيره.
1 / 9
تضمنت عنوان الكتاب، كتبها محمد بن عثمان بن محمد بن عثمان البعلي سنة ٨٢٢ هـ. وعدد أوراقها ١٧٩. ومسطرتها ٢١ سطرًا ٢٠ سم. والأبواب فيها مرقّمة، وبهامشها تصحيحات وتعليقات. وفي صفحة العنوان كتب بخط مختلف: هذه النسخة مقروءة على جماعة من العلماء آخرهم شيخ الإِسلام خطاب ... وعليه خطّه آخر الكتاب، وبالله التوفيق. وفي الصفحة الأولى كُتب بخط مغاير أيضًا: وقف الشيخ عثمان الكردي.
٣ - نسخة دار الكتب الوطنية بتونس: موجودة في الجامعة الإِسلامية، ميكروفيلم برقم ٣٨٢٣، كتبها أحمد بن أحمد البسطامي سنة ٨٧٢ هـ. وخطّها نسخ واضح، ورمزت إليها بحرف "ج"، ومسطرتها ٢٥ سطرًا ١٢ × ١٨ سم.
وعلى صفحتها الأولى العبارة التالية: قوبلت هذه النسخة على نسخة المصنف فصححت و...، وبالله التوفيق، وذلك في شهر رمضان المعظّم من شهور سنة ٨٢٥ هـ. ومن الواضح أن هذه العبارة إنما وُجدت على النسخة التي اعتمدها البسطامي، ونقل منها هذه العبارة.
٤ - نسخة مكتبة عارف حكمت: رقم /٢١٧/ مواعظ، ورمزت إليها بحرف "د"، وتقع في ٥٤٠ صفحة، وهي نسخة مذهّبة، وتاريخ نسخها ٨٦٧ هـ. كتبها أحمد بن أخي طوي المرزيفوني، وأولها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا [الله] (*) وحده لا شريك له عدّة للقائه، محمد رسول الله ﷺ سيد أوليائه. قال الشيخ الإِمام العامل الورع الزاهد المتقن الضابط محيي الدين يحيى بن شرف .. ومسطرتها ١٧ سطرًا ٦ × ١٤ سم.
والأبواب فيها مرقمة، والفهرس في مقدمة النسخة، والصفحة الأولى من الفهرس والأولى والثانية من المقدمة مزخرفة الهوامش. وكل الصفحات مُحاطة بإطار عريض مذهب وخطوط دقيقة زرقاء، والحق أن هذه النسخة تحفة فنية رائعة، عمرها ٥٣٩ سنة. ولم يتيسر لي وضع صور منها في هذه الطبعة.
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع
1 / 10
منهج التحقيق:
١ - تمهيد: صحبتُ كتاب "الأذكار" فترة زمنية سعيدة دامت سنة كاملة، تذوقت فيها حَلَاوَةَ القرب من رحمة الله، والشعور برضاه، وعرفت كيف يجد الذاكرون سموَّ الروح، وتحرّرَ الإِرادة، وراحةَ الضمير، ولذَّةَ المناجاة .. ولمستُ صدقَ رسالةِ محمد ﷺ وتناسقها، ووحدة مصدرها، وصفاء عقيدتها؛ في جميع هذه الأذكار والأدعية الصادرة عنه ﷺ في جميع أحيانه وأحواله. ولازمت الكتاب مُوَثِّقًا لنصوصه، ومخرِّجًا لأحاديثه، ومتأملًا في أبوابه وفصوله، وبذلت في ذلك جهودًا أرجو الله ﷾ أن يدّخرها لي عنده، وأن يجعلها بمنّه وإحسانه خالصة لوجهه الكريم.
وقد تكونت لديّ ملاحظتان هامتان حول منهج النووي رحمه الله تعالى في جمعه لمادة الكتاب:
الأولى: لم يقتصر الإمام النووي -رحمه الله تعالى- على سرد الدعوات والأذكار حسب ورودها كنصوص في مصادرها الأولى، وإنما رسم للمسلم منهج حياته وسلوكه، ونظم علاقته بالخلق والخالق، وقيَّد تصرفاته وكلامه وفق أحكام الشرع، بعناوين ومقدمات واستنتاجات، وبأسلوب سهل يدل على دراية وفهم وإخلاص وورع. ومن هنا تميّز كتاب الأذكار، وأقبل عليه الخاصّة والعامّة، وشاع بين الناس، وحظي باهتمام كبير.
والمتأمل فيما وصلنا من كتب المتقدمين في موضوع الذكر والدعاء، يجدها لا تزيد على ذكر النصوص المتلاحقة والروايات المختلفة تحت عناوين عامة، وكثير منها جمع الصحيح من الأحاديث والضعيف والواهي دون تمييز؛ فأصبح من العسير على عامّة المسلمين أن يعملوا بما ورد فيها قبل نقد طرقها وتمحيصها، وتحديد المراد من نصوصها .. فجاءَ تأليفُ كتاب الأذكار، يسدُّ فراغًا ظاهرًا، ويلبّي حاجةً مُلحّة.
الثانية: حرصَ الإمامُ النووي في هذا الكتاب على بيان صحيح
1 / 11
الأحاديث وحَسَنِها وضَعيفِهَا ومُنكَرِها مما يفتقر إلى معرفته جميع الناس؛ كما صرَّح بذلك في المقدمة، وهو ما يُطلق عليه: الحكم على الحديث وبيان درجته. . وقد وفى رحمه الله تعالى بما وعد به، وحكم على كثير من الأحاديث التي أوردها في بعض فصول الكتاب بأنها ضعيفة أو ضعيفة جدًا، ولكنه سكت عن أحاديث كثيرة أيضًا وهي ضعيفة، وذهل عن أحاديث عديدة وهي واهية! .. ولعلّ هذا التساهل دخل عليه -رحمه الله تعالى- من عدة أمور:
١ - اعتمادُه على تصحيح غيره أو سكوته؛ وهذا ظاهر في النقل من سنن أبي داود، وقد دخل عليه من هذا الباب أحاديث ضعيفة سكت عنها أبو داود، واعتبرها الإمام النووي صالحة لمجرد هذا السكوت (١)!.
٢ - الحكم بجواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل والترغيب والترهيب؛ ما لم يكن الحديث موضوعًا (٢). . علمًا بأن أكثر الأحاديث الضعيفة الواردة في كتاب الأذكار من هذا الطريق؛ إنما تفيد حكم الاستحباب لما تضمنته من أفعال أو أقوال. . وهذا لا يثبت إلا بنص صحيح باتفاق العلماء، ومنهم الإِمام النووي (٣) رحمه الله تعالى. .
٣ - تخريج كثير من الأحاديث من كتاب "عمل اليوم والليلة"؛ لابن السني، ولو اعتمد رحمه الله تعالى التخريج من كتاب النسائي شيخ ابن السني لكان أولى، ولتخلّص من كثير من هذه الأحاديث الضعيفة التي ينفرد
_________
(١) انظر التعليق رقم (١) ص ٥٧ على هذا الموضوع لتعرف وجه الحق والصواب فيه.
(٢) انظر التعليق رقم (٢) ص ٤٧ لتعرف شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
(٣) يقول النووي في مقدمة كتابه "خلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإِسلام" وهو مخطوط ومن الكتب التي توفي رحمه الله تعالى قبل أن يتمّها: "فإنه ينبغي لكل واحد أن يتخلّق بأخلاق رسول الله ﷺ، ويقتدي بأقواله وأفعاله وتقريره في الأحكام والآداب وسائر معالم الإِسلام، أن يعتمد في ذلك ما صحّ، ويجتنب ما ضعف، ولا يغترّ بجامِعِي السنن الصحيحة، ولا يقلِّد معتمِدي الأحاديث الضعيفة. . .".
1 / 12
بها ابن السني عن شيخه أو غيره. وقد تعجب الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، ونبّهنا إلى هذه النقطة الهامة فقال: "وعَجَبٌ من عدول الشيخ عن التخريج من كتاب النسائي مع تشدده وعلوّه إلى كتاب ابن السني مع تساهله ونزوله" (١).
٢ - خطوات منهج التحقيق:
أولًا: ضبط النصوص والتأكد من سلامتها، وذلك بالمقارنة بين النُّسخ المخطوطة (٢)، واستيفاء ما ورد فيها، واعتبرت نسخة الظاهرية رقم "أ" هي الأصل لتمامها وقدمها، علمًا بأنني لم أجد فروقًا جوهرية بين النُّسخ الأربع، وهذا في الغالب يعود لاهتمام النُّسّاخ بهذا الكتاب منذ عصر المؤلف حتى الآن. وقد سُرِرتُ سرورًا عظيمًا عندما عثرت على النسخة التونسية؛ لما تضمنته من توثيق يُفيد بأنها صححت على نسخة مكتوبة بخط النووي رحمه الله تعالى.
ثانيًا: ترقيم الآيات القرآنية وبيان سُوَرِها، ووضعت ذلك بين قوسين وبعد الآيات مباشرة لأُقلِّل من أرقام الهوامش.
ثالثًا: ترقيم الأحاديث والأبواب، وجعلت لكل حديث رقمين الأول يشير إلى رقمه المتسلسل في الباب الذي ورد فيه، والثاني بعد الخط المائل هو رقمه المتسلسل في الكتاب وفي الهامش أيضًا، وذلك تسهيلًا للرجوع إليه أو الإحالة عليه مع تخريجه.
رابعًا: شرح بعض الألفاظ الغريبة التي لم يتناولها الإمام النووي؛ كما أُشير إلى بعض الفوائد الهامة والإِرشادات المفيدة المستفادة من بعض
_________
(١) الفتوحات الربانية؛ لابن علّان ٤/ ٤٨ - ٤٩.
(٢) واستأنست بنسخة الأذكار المطبوعة في أعلى الصفحات من كتاب "الفتوحات الربانية. ."؛ لأنه تبيّن لي أن ابن علّان رحمه الله تعالى اطّلع على عدد من نسخ الأذكار الموثقة، وأثبتَ بعض الاختلافات بينها وبين المصادر الحديثية الأساسية.
1 / 13
الأحاديث النبوية، ولا أُكْثر من ذلك حتى لا أزيد في حجم الكتاب.
خامسًا: تخريج الأحاديث؛ تخريجًا مختصرًا، يقتصر على اسم الكتاب ورقم الحديث، أو رقم الجزء والصفحة إن لم تكن أحاديث الكتاب مرقمة، وقد توسعت في ذلك ولم أقتصر على تخريج الحديث في الموضع الذي أشار إليه النووي رحمه الله تعالى، وقد بذلت جهدي في تتبّع أقوال العلماء قديمًا وحديثًا من أهل الاختصاص في علم الجرح والتعديل، لاستخلاص الحكم على أحاديث غير الصحيحين وبيان درجتها، وكان كتاب "تحفة الأبرار بنكت الأذكار" (١) للسيوطي، وكتاب "الفتوحات الربّانية" (٢) وما اعتصره فيه مؤلفه ابن علّان -رحمه الله تعالى- من أمالي الحافظ ابن حجر المعروفة بنتائج الأفكار، وكتب الهيثمي والزيلعي، وتحقيقات وأحكام فضيلة الشيخ الألباني، وتخريجات فضيلة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في جامع الأصول وغيره؛ هي مصادري ومواردي التي نهلت منها واستفدت.
سادسًا: الفهارس العلمية؛ صنعتُ للكتاب فهارس علمية، واقتصرتُ على فهارس أوائل الأحاديث، والآيات، والموضوعات؛ لفائدتها، ولم أرَ لفهارس الأعلام والأماكن وغيرها فائدة تُذكَر، وكان حرصي على بقاء حجم الكتاب معقولًا هو الدافع إلى الاختصار.
سابعًا: تمييز الأحاديث الضعيفة؛ وضعتُ بيانًا بأرقام الأحاديث الضعيفة، والواهية، حتى يكون المسلم على بيِّنة من أمره فيها، وهو واجد في الأحاديث الصحيحة والحسنة غنيته وكفايته.
_________
(١) صدر الكتاب عن مكتبة دار التراث بالمدينة المنورة عام ١٤٠٧ هـ بتحقيقي.
(٢) في كتاب "الفتوحات الربانّية" المطبوع نقص ظاهر في الشرح والتخريجات، وذلك بسبب بياض أو تَلَف في أصل الكتاب، وقد انحلّت هذه المشكلة بالرجوع إلى نسخة واضحة من "نتائج الأفكار" مصوّرة على ميكروفيلم من الخزانة الملكية بالرباط، وهي ناقصة ومحفوظة بالجامعة الإِسلامية برقم /١٢٢٩/ حديث. فالحمد لله على ما وفَّق ويسَّر.
1 / 14
ثامنًا: ترجمة الإمام النووي، وتوسّعت فيها قليلًا، لأن مَن يُداوم قراءة كتاب الأذكار يتشوق إلى الاستزادة من أخبار مؤلفه، لما يلمس فيه من تديّنه وإخلاصه ونقاء سريرته.
كما وضعت بين يدي القارىء أسماء الكتب المؤلفة في موضوع الأدعية والأذكار وأسماء مؤلفيها، وأشرتُ إلى المطبوع منها بحرف "ط" وهو قليل من كثير لا يزال مفقودًا أو مخطوطًا.
1 / 15
ترجمة مؤلف كتاب الأذكار
بسم الله الرحمن الرحيم. يحيى بن شرف النّووي (١)
نسَبُه:
هو الإِمام الحافظ شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزَام، النووي نسبة إلى نوى، وهي قرية من قرى حَوْران في سورية، ثم الدمشقي الشافعي، شيخ المذاهب وكبير الفقهاء في زمانه.
مَوْلدُه ونشأته:
ولد النووي رحمه الله تعالى في المحرم من ٦٣١ هـ في قرية نوى من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك، وصادف أن مرَّ بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيانَ يُكرِهونه على اللعب وهو يهربُ منهم ويبكي لإِكراههم ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحَه أن يفرّغه لطلب العلم، فاستجاب له. وفي سنة ٦٤٩ هـ قَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي من جهة الشرق. وفي عام ٦٥١ هـ حجَّ مع أبيه ثم رجع إلى دمشق.
_________
(١) طبقات السبكي ٨/ ٣٩٥ـ ٤٠٠، وتذكرة الحفاظ ٤/ ١٤٧٠ - ١٤٧٤، والبداية والنهاية ١٣/ ٢٧٨، ومعجم المؤلفين ١٣/ ٢٠٢، و"الاهتمام بترجمة الإِمام النووي شيخ الإِسلام"؛ للسخاوي. والنووي؛ للشيخ علي الطنطاوي. والإِمام النووي؛ للشيخ عبد الغني الدقر. والمنهاج السوي في ترجمة محيي الدين النووي؛ للسيوطي. طبعة دار التراث الأولى ١٤٠٩ هـ تحقيق: د. محمد العيد الخطراوي.
1 / 17
حَيَاته العلميّة:
تميزت حياةُ النووي العلمية بعد وصوله إلى دمشق بثلاثة أمور:
الأول: الجدّ في طلب العلم والتحصيل في أول نشأته وفي شبابه، وقد أخذ العلم منه كلَّ مأخذ، وأصبح يجد فيه لذة لا تعدِلُها لذة، وقد كان جادًّا في القراءة والحفظ، وقد حفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع العبادات من المهذب في باقي السنة، واستطاع في فترة وجيزة أن ينال إعجاب وحبَّ أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي، فجعلَه مُعيد الدرس في حلقته. ثم درَّسَ بدار الحديث الأشرفية، وغيرها.
الثاني: سعَة علمه وثقافته، وقد جمع إلى جانب الجدّ في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، وقد حدَّثَ تلميذُه علاء الدين بن العطار عن فترة التحصيل والطلب، أنه كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا، درسين في الوسيط، وثالثًا في المهذب، ودرسًا في الجمع بين الصحيحين، وخامسًا في صحيح مسلم، ودرسًا في اللمع لابن جنّي في النحو، ودرسًا في إصلاح المنطق لابن السكّيت في اللغة، ودرسًا في الصرف، ودرسًا في أصول الفقه، وتارة في اللمع لأبي إسحاق، وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة.
الثالث: غزارة إنتاجه، اعتنى بالتأليف وبدأه عام ٦٦٠ هـ، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره، وقد بارك الله له في وقته وأعانه، فأذابَ عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةُ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار، والإِنصافَ في عرض أراء الفقهاء، وما زالت مؤلفاته حتى الآن تحظى باهتمام كل مسلم، والانتفاع بها في سائر البلاد.
ويذكر الإِسنوي تعليلًا لطيفًا ومعقولًا لغزارة إنتاجه فيقول: "اعلم أن
1 / 18
الشيخ محيي الدين ﵀ لمّا تأهل للنظر والتحصيل، رأى في المُسارعة إلى الخير؛ أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفًا، ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلًا، وتحصيله تصنيفًا، وهو غرض صحيح، وقصد جميل، ولولا ذلك لما تيسر له من التصايف ما تيسر له".
ومن أهم كتبه:
" شرح صحيح مسلم" و"المجموع" شرح المهذب، و"رياض الصالحين"، و"تهذيب الأسماء واللغات"، والروضة "روضة الطالبين وعمدة المفتين"، و"المنهاج" في الفقه و"الأربعين النووية"، و"التبيان في آداب حَمَلة القرآن"، والأذكار "حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبّة في الليل والنهار"، و"الإِيضاح" في المناسك.
شيوخه:
شيوخه في الفقه:
١ - عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، تاج الدين، عُرف بالفِرْكاح، توفي سنة ٦٩٠ هـ.
٢ - إسحاق بن أحمد المغربي، الكمال أبو إبراهيم، محدّث المدرسة الرواحيّة، توفي سنة ٦٥٠ هـ.
٣ - عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي، أبو محمد، مفتي دمشق، توفي سنة ٦٥٤ هـ.
٤ - سلاَّر بن الحسن الإِربلي، ثم الحلبي، ثم الدمشقي، إمام المذهب الشافعي في عصره، توفي سنة ٦٧٠ هـ.
شيوخه في الحديث:
١ - إبراهيم بن عيسى المرادي، الأندلسي، ثم المصري، ثم الدمشقي، الإِمام الحافظ، توفي سنة ٦٦٨ هـ.
1 / 19
٢ - خالد بن يوسف بن سعد النابلسي، أبو البقاء، زين الدين، الإِمام المفيد المحدّث الحافظ، توفي سنة ٦٦٣ هـ.
٣ - عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، الحموي، الشافعي، شيخ الشيوخ، توفي سنة ٦٦٢ هـ.
٤ - عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي، أبو الفرج، من أئمة الحديث في عصره، توفي سنة ٦٨٢ هـ.
٥ - عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد الحرستاني، أبو الفضائل، عماد الدين، قاضي القضاة، وخطيب دمشق. توفي سنة ٦٦٢ هـ.
٦ - إسماعيل بن أبي إسحاق إبراهيم بن أبي اليُسْر التنوخي، أبو محمد تقي الدين، كبير المحدّثين ومسندهم، توفي سنة ٦٧٢ هـ.
٧ - عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري، ثم الدمشقي الحنبلي، المفتي، جمال الدين. توفي سنة ٦٦١ هـ.
ومنهم: الرضي بن البرهان، وزين الدين أبو العباس بن عبد الدائم المقدسي، وجمال الدين أبو زكريا يحيى بن أبي الفتح الصيرفي الحرّاني، وأبو الفضل محمد بن محمد بن محمد البكري الحافظ، والضياء بن تمام الحنفي، وشمس الدين بن أبي عمرو، وغيرهم من هذه الطبقة.
[شيوخه في علم الأصول:]
أما علم الأصول، فقرأه على جماعة، أشهرهم: عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التفليسي الشافعي، أبو الفتح. توفي سنة ٦٧٢ هـ.
[شيوخه في النحو واللغة:]
وأما في النحو واللغة، فقرأ على:
الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي، أبي العباس، توفي سنة ٦٦٤ هـ.
والفخر المالكي.
والشيخ أحمد بن سالم المصري.
1 / 20
مسموعاته:
سمع النسائي، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، والدارمي، وأبي عوانة الإِسفراييني، وأبي يعلى الموصلي، وسنن ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وشرح السنّة للبغوي، ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب البغدادي، وأجزاء كثيرة غير ذلك.
تلاميذه:
وكان ممّن أخذ عنه العلم: علاء الدين بن العطار، وشمس الدين بن النقيب، وشمس الدين بن جَعْوان، وشمس الدين بن القمَّاح، والحافظ جمال الدين المزي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ورشيد الدين الحنفي، وأبو العباس أحمد بن فَرْح الإِشبيلي، وخلائق.
أخلاقُهُ وَصفَاتُه:
أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أن النووي كان رأسًا في الزهد، وقدوة في الورع، وعديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطيب لنا في هذه العجالة عن حياة النووي أن نتوقف قليلًا مع هذه الصفات المهمة في حياته:
الزهد:
تفرَّغَ الإِمام النووي من شهوة الطعام واللباس والزواج، ووجد في لذّة العلم التعويض الكافي عن كل ذلك. والذي يلفت النظر أنه انتقل من بيئة بسيطة إلى دمشق حيث الخيرات والنعيم، وكان في سن الشباب حيث قوة الغرائز، ومع ذلك فقد أعرض عن جميع المتع والشهوات وبالغ في التقشف وشظف العيش.
الورع:
وفي حياته أمثلة كثيرة تدلُّ على ورع شديد، منها أنه كان لا يأكل من فواكه دمشق، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: إنها كثيرة الأوقاف، والأملاك لمن تحت الحجر شرعًا، ولا يجوز التصرّف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف
1 / 21
بين العلماء. ومن جوَّزَها قال: بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟. واختار النزول في المدرسة الرواحيّة على غيرها من المدارس لأنها كانت من بناء بعض التجّار.
وكان لدار الحديث راتب كبير فما أخذ منه فلسًا، بل كان يجمعُها عند ناظر المدرسة، وكلما صار له حق سنة اشترى به ملكًا ووقفه على دار الحديث، أو اشترى كتبًا فوقفها على خزانة المدرسة، ولم يأخذ من غيرها شيئًا. وكان لا يقبل من أحد هديةً ولا عطيّةً إلا إذا كانت به حاجة إلى شيء وجاءه ممّن تحقق دينه. وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أُمُّه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يُرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرواحية، ولم يكن يبتغي وراء ذلك شيئًا.
مُناصحَتُه الحُكّام:
لقد توفرت في النووي صفات العالم الناصح الذي يُجاهد في سبيل الله بلسانه، ويقوم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مخلصٌ في مناصحته وليس له أيّ غرض خاص أو مصلحة شخصية، وشجاعٌ لا يخشى في اللَّه لومة لائم، وكان يملك البيان والحجة لتأييد دعواه.
وكان الناسُ يرجعون إليه في الملمّات والخطوب ويستفتونه، فكان يُقبل عليهم ويسعى لحلّ مشكلاتهم، كما في قضية الحوطة على بساتين الشام:
لما ورد دمشقَ من مصرَ السلطانُ الملكُ الظاهرُ بيبرسُ بعد قتال التتار وإجلائهم عن البلاد، زعم له وكيل بيت المال أن كثيرًا من بساتين الشام من أملاك الدولة، فأمر الملك بالحوطة عليها، أي بحجزها وتكليف واضعي اليد على شيءٍ منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه، فلجأ الناس إلى
1 / 22