لسان الثعلب
في اليوم التالي كانت وطفاء (هيفاء) تسكن مع تلك العجوز اليونانية، كوديعة عندها تحرص عليها حرصها على الأجر الذي كانت تتقاضاه من جورجي، وقد أوصى جورجي وطفاء ألا تخرج من المنزل إلا معه، وأن تطلب منه كل ما تشاء متى زارها، وأوصى اليونانية ألا تعترف بوطفاء لأحد وإلا ضاع عليها الأجر الجزيل، وكان بعد ذلك يزور ذلك المنزل ليلة بعد ليلة ويقدم لوطفاء حاجاتها، أما يوسف فندر أن زارها دفعا لشبهة المشتبهين أن تكون حيث يتردد.
وعاد جورجي يسكن في الفنادق كعادته، ويوسف يسكن في منزل طريقه سلسلة أزقة.
وما هي إلا بعض الأيام حتى كان يوسف يتاجر بالأجواخ، وكان له جار في السوق يتاجر بالأنسجة الحريرية والأقمشة القطنية وغيرها، فما مضت مدة إلا صارا صديقين، فكانا يجتمعان بعض الأحيان ويتحدثان، ففي ذات يوم قال ذلك الجار - واسمه فهد المهند: بلغني أنك خطبت وستتزوج قريبا يا مسيو يوسف، فيا لك من جار! ألا تخبر جارك لكي يهنئك؟ - لا علم لي بما تقول. - عجيب أن تنكر والخبر مالئ الفضاء. - أقول لك: لا علم لي بما تقول. - يا أخي يقولون: إنك تحب ليلى ابنة المراني وأنها تحبك، فهل تنكر ذلك أيضا؟
فوجم يوسف وازمهر فقال له فهد: دلائل الحب لا تخفى على أحد كحامل المسك لا يخلو من العبق، فها إني أرى على وجهك هذه الدلائل، والناس يعلمون أنك تجتمع بها أحيانا ، فهل تنكر هذا أيضا؟ - لا أنكر؛ لأننا لا نجتمع في السر بل في العلانية. - إذن لا دخان بلا نار، ولا يجمع الفتى والفتاة إلا الحب. - ولكن الحب غير الخطبة والزواج. - ولكن الخطبة والزواج ثمرة الحب بحكم الطبع، وإلا فالحب فاسد وفي عرف الجمهور إثم. - أما نحن فلسنا نجري على رأي الجمهور. - تعني أنكما لن تتزوجا بل تتعاشقان؟
فامتقع وجه يوسف، وقال: لا حكم لي على المستقبل. - أما أنا فأحكم بأن المستقبل زواج إذا كان الحاضر حبا. - لا أدري لماذا يهمك هذا الموضوع. - يهمني لأنك صديقي وأود أن أقوم بواجب الصديق. - لا أفهم ما هو الواجب الذي عليك. - النصح. - ما هي نصيحتك؛ فأشكرها لك؟ - لا أقدر أن أقول ما لم أعلم إن كنت تنوي أن تتزوج هذه الفتاة، فإن كنت لا تنوي فلا داعي للنصح. - هب أني سأخطبها.
فتردد فهد في الجواب، وقال: لا أقدر أن أقول إلا إذا علمت عزيمتك الأكيدة، فلا أود أن أبني على فرض.
فسكت يوسف، وبعد هنيهة قال فهد: هل أنت مصمم على الزواج من هذه الفتاة؟ - ذلك في النية، ولكني لا أدري إن كانت الأحوال تسوق إلى إبراز النية إلى حيز الفعل. - إذن لم تكذب الإشاعات ويحق لي أن أتكلم. - تكلم.
فتوقف فهد هنيهة، وقال: أخاف أن أتكلم.
فاضطرب يوسف قائلا: إنك تحملني على التطير من هذه المقدمة، فماذا تريد أن تقول؟ - إن ما أقوله سر قد لا يعرفه إلا واحد غيري، فأخاف مغبة إفشائه عن يدي. - لا تعرفني جيدا يا فهد؛ فإن ما يقال لي سرا فكأنه لم يقل، فقل وتوهم أنك لم تقل. - أقسم لي بأعز عزيز عندك أنك لا تقول. - لست أقسم بشيء؛ لأن وعدي أعظم من قسمي. - إني أثق بك، ولكن اعلم أني سأنكر تمام الإنكار أني قلت لك ما سأقول، وإذا شاع السر أتهمك باختلاقه. - ليكن ما تقول. - حسن، هل تعرف ابنة من هي ليلى؟ - أعلم أنها ابنة بطرس المراني. - كلا البتة.
Page inconnue