ففكر جورجي هنيهة، وقال: لماذا لا تخبرني عن واجباتك؛ فإني صديق لك وأريد أن أكون عونك، فمن هي هذه الخليلة؟ - لا تقل: خليلة، بل صديقة، بل أرجو ألا تطلب مني أن أخبرك عن شئوني الخاصة. - لا أطلب ذلك إلا لأكون معوانا لك، فأخبرني يا يوسف وثق بي. - تضطرني أن أبوح لك بسر. - لا بأس؛ فليس قصدي أن أفشي أسرارك، فأود أن تقول هل هذه الصديقة في محنة وأنت تساعدها؟ - شيء كذلك. - إذن أود أن أشاركك في مساعدتها. - بارك الله فيك، إن ما معي وما أكسبه يكفيني ويكفيها الآن. - كأنك تريد أن تحرمني الأجر، وأنا أود أن أفعله، فبالله لا تردني عن عمل خير، وهو أول ما أفعله في حياتي.
فتردد يوسف في الجواب، فقال له جورجي: بالله تقول ما حكاية هذه الصديقة؟ - هي فتاة قاصرة كانت أمها تهتم أن تزوجها من رجل لا تريده، وأخيرا كادت تتغلب عليها، وقد علمت أن الرجل لا يليق أن يكون زوجا للفتاة؛ لأنه سيئ السيرة جدا، فسعيت وأنقذت الفتاة وخبأتها في مكان أمين وأنا أعولها. - حسن جدا، خذ العشرة جنيهات للفتاة. - أكثر الله خيرك، قد لا نحتاج إليها فإن أعوزتنا أخذتها منك.
وألح عليه جورجي جدا أن يأخذ الورقة فلم يأخذها، فقال: ليس من الحكمة أن تكابر وأن تبقى سجينا هنا، بل الأفضل أن تستعين بها الآن؛ لكي تكون حرا وتسعى إلى خدمة أخرى. - أسعى بالمكاتبة. - لا تنجح. - لا بأس. - إنك لعنيد. - لا تؤاخذني. - إذن أنا أسعى لك بخدمة أخرى، ولكن أين أودعت الفتاة؟ - لا تسألني فلا أقول، دع هذا سرا من أسراري التي لا تقال.
وبقي جورجي يحتال عليه حتى يعلم مقر الفتاة فلم يستطع، وفي أثناء المناقشة تقدم شار فبغت يوسف؛ إذ رأى أنه هو صديق الهيزلي، ولما اشترى صديق علبة سكاير عاد إلى مركبة كانت تنتظره في الشارع، فلمح يوسف فيها ليلى وأخاها نجيب، فرام أن تنشق الأرض وتبتلعه، ولا سيما إذ وقعت عينها على عينه.
مصير الفيلسوف
في ذلك المساء كان الدكتور صديق هيزلي مجتمعا بليلى في منزلها منفردين، إذ كان أبوها لاهيا بأموره وأخوها غائبا.
فقال لها صديق: هل رأيت الذي يبيع السكاير في تلك الدكانة الصغيرة؟ وهل عرفته؟
فامتعضت ليلى قائلة: رأيته وعرفته فماذا؟ - وددت أن تري هذا الفيلسوف الذي تعجبين بعمله وفلسفته، وتعلمي ماذا يكون مصيره. - إذن أنت تعمدت المرور بنا من هناك لكي تريني ... - نعم؛ لكي أريك يوسف براق خادما في دكان سكاير، وربما رأيته غدا في حانوت بدال، وبعد غد يمسح الأحذية. - لا أدري لماذا تود أن تريني كل ذلك. - لكي تعلمي مصير الفلسفة والفلاسفة. - ولكن هذا مصير لا يحط من قدر العلم والمعرفة، فهل تنكر أن هذا الفتى نابغة في ذكائه ومعرفته؟ - قد يكون كما تقولين، ولكن هل تعلمين ماذا يقول الناس عنه؟ - كلا، لا أود أن أعلم. - يقولون: إنه مجنون. - قد يكون الناس صادقين؛ لأن بعض ضروب الجنون إغراق في الذكاء، وهو خير من الإغراق في البله.
فضحك صديق، وقال: فليأكل علما ويشرب معرفة، ويلبس ذكاء، ويسكن مستشفى المجانين.
فابتسمت ليلى قائلة: لو كان كما تقول ما كان يشتغل ليعيش من تعبه. - وهل يليق بالفيلسوف أن يكون خادما في حانوت سكاير حقير؟ - ليست الخدمة مهما كان نوعها لتشين الفيلسوف، وما نشأ النوابغ إلا من الطبقات الوضيعة. - نعم، ولكنهم كانوا يصعدون، وأما فيلسوفك فينزل تدريجا، كان أولا كاتبا في بنك فما لبث أن طرد منه طردا لسخافة عقله، وانتفاخ أوهامه، ثم تعين في مصلحة التنظيم في وظيفة حسنة، فما لبث أن عزل لهفوة نجمت عن جهله أحوال العالم، وحرم بسببها التوظف في دوائر الحكومة، ثم طاف بجميع الدوائر المالية وغيرها فلم تشفع فيه فلسفته، بل كانت الأبواب مفتوحة لغيره تقفل في وجهه؛ لأن كل ملمحة من ملامحه تعرب عن جنونه، وبعد قليل يكتشف صاحب دكانة السكاير جنونه فيطرده، ومتى أقفلت في وجهه أبواب الرزق يلجأ إلى مستشفى المجانين، الذي هو نهاية مصيره لا محالة، ولو كان نابغة كما تزعمين ما نبذته أوروبا، التي هي أرحب مضمار لتسابق النوابغ.
Page inconnue