أما حين نتحدث عن الحب بين البشر فإننا نتحدث عن سمة إنسانية، وصحيح أن هذه السمة قريبة من حب الأم لأطفالها بين الحيوان، ولكنها بالطبع أدوم؛ إذ هي تبقى طيلة الحياة، ولكنها، مثل حب الأم، بعيدة عن الاشتهاء الجنسي، بل يكاد يكون هناك تناقض بين الحب والاشتهاء، بحيث إذا زاد الأول نقص الثاني وإذا زاد الثاني نقص الأول، وما نجده من الجمع بينهما في الإنسان إنما هو فن وليس طبيعة.
ولذلك ليس من الخطأ أن نقول إن الحب هو فن من الفنون الجميلة لا يختلف عن الشعر والرسم والنحت، ففي جميع هذه الفنون نجد أن الفنان يستنبط المعاني ويفطن إلي اللمحات، ويحاول أن يجسم الومضات، وكذلك شأن المحب، فإنه يجد في حبيبه أو حبيبته من المعاني إلهاما، ومن الإحساس جمالا، وهو يرى الرؤى، ويحلم الأحلام عن هذه الشخصية التي يحبها، ولذلك كثيرا ما يكون الحب موضوع الشعر أو الرسم، بل هو أسمى الموضوعات لهذه الفنون؛ إذ هو يجمعها كلها للتعبير عن حالاته.
والذي يجعل الناس يلتبس عليهم الحب فيحسبونه اشتهاء جنسيا أنه يقع مدة الشباب، ولكن إذا تأملنا، وعرفنا أن الجمال - وهو موضوع الحب - إنما يبلغ ذروته في الشباب، فإننا نستطيع عندئذ أن نعلل هذا التطابق بين الشباب والحب؛ إذ هو في الأصل تطابق بين الجمال والحب.
وليس في الدنيا أجمل أو أطرب من الحب: شخصان يتحابان فيحس كل منهما أنه رفيق الروح ومختار القدر وشريك العيش، ومهما تراكمت المحن فإنها تهون عندما يعرف المحب أن هناك شخصا آخر على هذه الدنيا يشاركه في إحساسه ويفكر فيه ويرصد قلبه له.
ولذلك يجب أن ندرس الحب لشبابنا كما ندرس الرسم أو الشعر أو النحت، ونعين فصول هذه الدراسة في بحوث مختلفة تلتف موضوعاتها حول شخصين محبين، كيف يعيشان في جمال وارتقاء وتعاون، بحيث تسير حياتهما في إيقاع كما لو كانت رقصا أو لحنا حتى لا يموت الحب ...
وهنا وقف القلم، بل تجمد.
فإنه كان يريد أن يتناول الرقص وعلاقته بالحب، ولكنه تذكر جمهور القراء الذين يكتب لهم، إنهم شرقيون قد عرفوا الرقص الداعر، وهم ينفرون منه، ثم لم يعرفوا غيره، وتذكر الناقدين البذيئين؛ فقد نشر له كتاب حديث، ولكن الناشر أصر على نزع فصل منه عن الرقص.
وضع القلم وشرع يستعيد كظومه الأدبية والفنية، فإنه قد وقف كثيرا في المآزق حين كان ينزع به أدبه إلى الفكرة الجليلة فيكظمها؛ لأنه كان يحس أنها تصطدم بعادات المجتمع الذي يعيش فيه أو بشبهات الناقدين.
وسمع نفسه وهو يقول: شرق وغرب، إنه شرقي مثل سائر مواطنيه، ولكنه ثار على الشرق عندما أيقن أن عاداته تعوق ارتقاءه ، ودعا إلى أن يأخذ الشرقيون بعادات الغربيين كي يقووا مثلهم، ولكنه لم يجن من هذه الدعوة غير الكراهية والنفور، وأحس التناقض العميق بينه وبين المجتمع، وهو تناقض كاد يفصل ما بينه وبين مواطنيه؛ فإن أسلوب حياته، وأهدافه الثقافية والسياسية والروحية، تنأى عن عادات مجتمعه، إنه ليخالف سائر الكتاب؛ إذ هو وإن كان يكتب باللغة العربية، فإنه يفكر تفكيرا أوروبيا.
وكان أعظم ما يقطع كالسكين في كيانه النفسي أنه كان يضطر إلى التلفيق، أو - كما يقول غيره - «التوفيق»، فإنه هنا وقف لا يعرف كيف يكتب، كأن هاتفا اجتماعيا قد هتف به: «لا تكتب عن الرقص، دع هذا الموضوع، لا تقربه، أو قل بضع كلمات لا تغني ولا تتورط فيها»، ولكنه عجز أن يصالح نفسه على هذا التلفيق.
Page inconnue