وقد علمت مجازاة عبد الله بن هارون المأمون لسهل بن هارون عن كتابه في البخل، بالبخل عليه، ليريه أنه قدَّ جوابه من مسلَّته، وقد سدَّ مطالع حججه، لأنه منعه في معرض التنويل، وزرى على رأيه في شبه التفضيل، فكذلك فأعمل فينا بالعدل الذي جلوناه، واجعلنا أول من يفوز به منك، وأول من أظهرته فيه من قوى نفسك، وأنظر في هذا الكتاب ذاكرًا لهذا الإيصاء، ومعتقدًا لهذا الفعل، وهو كتاب صنعناه لكل أديب أحب أن يكون مذهبه خاصًا ومحضره بين أهل العلم مهيبًا، وأراد أن يحسن الدلالة على اتساع معلومه، وينقلب عن المجلس إذا ألم به والألسن مشتجرةً بوصفه، وهمم أهل الطلب معقودةً بأثره، فإن الذي تضمنه ثمن للإجلال، وداعية للهيبة ورائد صادق في حسن المعرفة.
وكان باعثي على تصنيفه أني رأيت أشعار العرب، وانتظامها كل مثل الحكيم، وكل معنى بديع، فرأيت أن جمع ذلك وتهذيبه واختياره وتأليفه يجمع بين النفع بما فيه من الأدب الذي يفتق اللسان، ويستقدم الجبان، وبين النفع بما فيه من الدلالة على معجز القرآن، إذ كان يتبحر ألفاظ هؤلاء القوم، والمعرفة بمعادن ألفاظهم، وبمنازع أغراضهم يعلم معجز القرآن علمًا حسيًا ذاتيًا.
وأنا أرى أن علم العالم أن القرآن معجز من طريق القياس والاستدلال، ومن طريق الحس والإدراك أشرف وأعلى من علم العالم بإعجازه من طريق القياس بالتقليد لغيره، والاعتبار بالفصحاء الذين تقدموه وكانوا حجة عليه، ولا أرى أن الإعجاز إنما هو بالصرفة لا غير، كما يعتقده قليل من الناس بل أرى أن الإعجاز إنما هو بنوعية ذلك النظم، وبإعجازه من التمكين والحول، وأن الصرفة أيدته وكانت في الرفد بمنزله الخوافي من القوادم، واستقصاء هذا الشوط من الكلام يطول، ولعل الله أن يوفقنا لتجريد كتاب مفرد في معناه. فعزمت لما رأيت هذا المرآى على كتاب أجمع فيه المختار من أشعار العرب، والمهذب من أخبارها وبلاغتها، فرأيته ينتهي من الطول إلى حد يفيض على لمع المعارف، ويستغرق نكت الفوايد، والكثرة إملال، وكأن الإطالة تقيم عذر المعرض عن العلم، وتبسط حجة التارك لتدبر الكتب، فقصدت إلى هؤلاء الشعراء الأربعة المثبتين في الطبقة الأولى
1 / 83