المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة رحمه الله تعالى: أما بعد حمد الله بجميع محامده، والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة على رسوله المصطفى وآله؛ فإنِّي رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيِّرين، ولأهله كارهين: أما النَّاشئ منهم فراغب عن التعليم، والشَّادي تارك للازدياد، والمتأدِّب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ؛ ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين فالعلماء مغمورون، وبكرَّة الجهل مقموعون حين
1 / 5
خوى نجم الخير، وكسدت سوق البرِّ، وبارت بضائع أهله، وصار العلم عارًا علَى صاحبه، والفضل نقصًا وأموال الملوك وقفًا علَى شهوات النفوس، والجاه الَّذي هو زكاة الشرف يباع بيع الخلق وآضت المروءات في زخارف النَّجد وتشييد البُنيان، ولذَّات النفوس في اصطفاق المزاهر ومعاطاة الندمان. ونبذت الصنائع، وجُهل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس، وزُهد في لسان الصدق وعقد الملكوت فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشِّعر أبياتًا في مدح قَيْنَة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئًا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحدِّ المنطق، ثمَّ يعترض علَى كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله ﷺ بالتكذيب وهو لا يدري من نقله، قد رضي عوضًا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف وفلان دقيق النظر يذهب إلى أن لُطف النظر قد أخرجه عن جملة النَّاس وبلغ به علم ما جهلوه؛ فهو يدعوهم الرَّعاع والغُثاء والغُثْر، وهو لعمر الله بهذه الصفات أولى، وهي به أليق؛ لأنه جهل وظنَّ أن قد علم، فهاتان جهالتان؛ ولأن هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم
1 / 6
يجهلون. ولو أن هذا المُعجب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياهُ الله بنور الهدى وثَلَجِ اليقين، ولكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب، وفي أخبار الرسول ﷺ وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فنَصَبَ لذلك وعاداهُ. وانحرف عنه إلى علم قد سلَّمه ولأمثاله المسلمون، وقلَّ فيه المتناظرون، له ترجمةٌ تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم؛ فإذا سمع الغُمْرُ والحدَثُ الغِرُّ قوله: الكون والفساد، وسَمْع الكيان، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة؛ راعه ما سمع، وظن أنَّ تحت هذه الألقاب كلَّ فائدة وكلَّ لطيفة، فإذا طالعها لم يَحْلَ منها بطائل، إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعَرَضُ لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم، والكلام أربعة: أمر، وخبر، واستخبار، ورغبة؛ ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي: الأمر، والاستخبار، والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب وهو الخبر، والآنُ حدُّ الزمانين، مع هذيان كثير، والخير ينقسم إلى تسعة آلاف وكذا وكذا مائة من الوجوه، فإذا أراد المتكلم أن يستعمل بعض تلك الوجوه في
1 / 7
كلامه كانت وَبالًا على لفظه، وقيدًا للسانه، وعيًّا في المحافل، وعُقْلَة عند المتناظرين.
ولقد بلغني أن قومًا من أصحاب الكلام سألوا محمد بن الجَهْم البرمكيَّ أن يذكر لهم مسألة من حد المنطق حسنة لطيفة، فقال لهم: ما معنى قول الحكيم: " أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة "؟ فسألوه التأويل، فقال لهم: مَثَلُ هذا رجل قال: " إنِّي صانع لنفسي كِنَّا " فوقعت فكرته على السقف، ثمَّ انحدر فعلم أن السقف لا يكون إلا على حائط، وأن الحائط لا يقوم إلا على أُسّ، وأن الأُسَّ لا يقوم إلا على أصل، ثمَّ ابتدأ في العمل بالأصل، ثمَّ بالأسِّ، ثمَّ بالحائط، ثمَّ بالسقف؛ فكان ابتداء تفكره آخر عمله وآخر عمله بدء فكرته؛ فأية منفعةٍ في هذه المسألة؟ وهل يجهل أحد هذا حتى يحتاج إلى إخراجه بهذه الألفاظ الهائلة، وهكذا جميع
1 / 8
ما في هذا الكتاب؛ ولو أن مؤلف حد المنطق بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو لعدَّ نفسه من البُكْمِ، أو يسمع كلام رسول الله ﷺ وصحابته لأيقن أن للعرب الحكمة وفَصْلَ الخطاب.
فالحمد لله الذي أعاذ الوزير أبا الحسن - أيده الله - من هذه الرذيلة، وأبانه بالفضيلة، وحَبَاه بخيم السلف الصالح، وردَّاه رداء الإيمان، وغشَّاه بنوره، وجعله هُدًى من الضلالات، ومصباحًا في الظلمات، وعرَّفه ما اختلف فيه المختلفون، على سَنَن الكتاب والسُنَّة؛ فقلوب الخيار له مُعْتَلِقةٌ، ونفوسهم إله مائلة، وأيديهم إلى الله فيه مَظانَّ القبول ممتدَّةٌ، وألسنتهم بالدعاء له شافعة: يهجع ويستيقظون، ويغفُل ولا يغفُلون؛ وحُقَّ لمن قام لله مقامه، وصبر على الجهاد صَبْرَهُ، ونوَى فيه نِيَّته، أن يلبسه الله لباس الضمير، ويُرَدِّيه رداء العمل الصالح، ويَصُور إليه مختلفات القلوب، ويُسعده الصدق في الآخرين.
فإني رأيتُ كثيرًا من كُتَّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدَّعَة واستوطؤُا مركب العجز، وأعفَوْا أنفسهم من كدِّ النظر وقلوبهم من تعب
1 / 9
التفكر، حين نالوا الدرَك بغير سبب، وبلغوا البِغْية بغير آلةٍ؛ وَلَعمري كان ذاك فأين همةُ النفس؟ وأين الأنَفَةُ من مُجانسة البهائم؟ وأيُّ موقفٍ أخْزَى لصاحبه من موقف رجلٍ من الكتَّاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه وارتضاه لسرّه، فقرأ عليه يومًا كتابًا وفي الكتاب " ومُطرْنا مطرًا كثُر عنه الكلأ " فقال له الخليفة ممتحنًا له: وما الكلأ؟ فتردَّد في الجواب وتعثّر لسانه، ثم قال: لا أدري، فقال: سَلْ عنه؛ ومن مقام آخر في مثل حاله قرأ على بعض الخلفاء كتابًا ذكر فيه " حاضرُ طيِّء " فصحَّفه تصحيفًا أضحك منه الحاضرين؛ ومن قول آخر في وصف بِرْذَوْنٍ أهداه " وقد بعثتُ به إليك أبيض الظهر والشفتين ". فقيل له لو قلت أرْثَمَ ألْمَظَ، قال: فبياض الظهر ما هو؟
1 / 10
قالوا: لا ندري، قال: إنما جهلتُ من الشفتين ما جهلتم من الظهر؛ ولقد حضرت جماعة من وجوه الكتَّاب والعمال العلماء بتحلّب الفَيْء وقتل النفوس فيه، وإخراب البلاد، والتوفير العائد على السلطان بالخُسْران المبين، وقد دخل عليهم رجل من النَّخَّاسين ومعه جاريةٌ رُدت عليه بسنّ شاغية زائدة، فقال: تبرأتُ إليهم من الشَّغَا فردُّوها عليَّ بالزيادة، فكم في فم الإنسان من سِنٍّ؟ فما كان فيهم أحد عَرَفَ ذلك، حتى أدخل رجل منهم سَبَّابته في فِيهِ يعُدُّ بها عَوَارضه فسال لُعابُه، وضمَّ رجل فاه وجعل يعدّها بلسانه. فهل يَحْسُن بمن ائتمنه السلطان على رعيته وأمواله ورضي بحكمه ونظره أن يجهل هذا في نفسه؟ وهل هو في ذلك إلا بمنزلة مَن جهل عدد أصابعه؟ ولقد جرى في هذا المجلس كلام كثيرٌ في ذكر عيوب الرقيق، فما رأيت أحدًا منهم يعرف فَرْقَ ما بين الوَكَعِ والكَوَعِ، ولا الحَنَفَ من الفَدَع، ولا اللَّمى من اللَّطَع.
فلما أن رأيت هذا الشأن كل يوم إلى نُقصانٍ، وخشيت أن يذهب
1 / 11
رَسْمُه ويعفُوَ أثره؛ جعلت له حظًا من عِنايتي، وجزءًا من تأليفي؛ فعملتُ لمُغْفِل التأديب كُتُبًا خفافًا في المعرفة، وفي تقويم اللسان واليد، يشتمل كلُّ كتاب منها على فن، وأعفيته من التطويل والتثقيل؛ لأنشطه لتحفُّظِه ودراسته إن فاءَتْ به همتهُ وأُقيد عليه بها ما أضلَّ من المعرفة، وأستظهر له بإعداد الآلة لزمان الإدالة أو لقضاء الوَطَر عند تبيّن فَضْل النظر، وألحقه - مع كَلال الحد ويُبْس الطينة - بالمُرْهَفِين، وأدخله - وهو الكَوْدَن - في مِضمار العِتَاق.
وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ومن الكتابة إلا بالاسم، ولم يتقدم من الأداة، إلا بالقلم والدواة، ولكنها لمن شَدَا شيئًا من الإعراب: فعرف الصَّدْرَ والمصدر والحال والظرف، وشيئًا من التصاريف والأبنية، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء، وأشباه ذلك.
ولا بد له - مع كتبنا هذه - من النظر في الأشكال لمساحة الأرَضِينَ، حتى يعرف المثلث القائم الزاوية، والمثلث الحادَّ، والمثلث المنفرج، ومساقِطَ الأحجار، والمربَّعات المختلفات، والقِسِي والمدورات، والعَمودَين، ويمتحن معرفته بالعمل في الأرَضِينَ لا في الدفاتر، فإن المَخْبَرَ ليس كالمُعايَنِ؛ وكانت العجم تقول: " من لم يكن عالمًا بإجراء
1 / 12
المياه، وحَفْر فُرَضِ المشارب، ورَدْم المهاوي، ومجاري الأيام في الزيادة والنقص، ودَوَران الشمس، ومطالع النجوم، وحال القمر في استهلاله وأفعاله، ووزن الموازين، وذَرْع المثلث والمربَّع والمختلف الزوايا، ونَصْب القناطر والجسور والدَّوالي والنَّواعير على المياه، وحال أدوات الصُّنَّاع ودقائق الحساب؛ كان ناقصًا في حال كتابته ".
ولا بد له - مع ذلك - من النظر في جُمل الفقه، ومعرفة أصوله: من حديث رسول الله ﷺ وصحابته، كقوله: البيِّنة على المدعي واليمين على المدعى عليه، والخَرَاجُ بالضمان، وجُرْح العَجْماء جُبَار، ولا يَغلقُ الرهنُ، والمنحة مردودة، والعارية مؤدَّاة، والزّعيم غارم، ولا وصية لوارث، ولا قطع في ثَمَر ولا كَثَرٍ، ولا قَوَدَ إلا بحديدة، والمرأة تُعاقلُ الرَّجُل إلى ثُلث الدية، ولا تَعقلُ العاقلةُ عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا، ولا طلاق في إغلاق، والبَيِّعَان بالخيار ما لم يتفرَّقا، والجار أحقُّ بصَقَبه، والطلاقُ بالرجال، والعدَّة بالنساء، وكنهيه في البيوع عن المخابرة والمُحاقلة والمُزابنة والمُعاوَمَة والثُّنْيا، وعن ربح ما لم يُضمن، وبيع ما لم يُقبض،
1 / 13
وعن بَيْعَتَيْن في بَيْعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسَلَف، وعن بيع الغَرَر وبيع المُواصفة، وعن الكالئ بالكالئ، وعن تلقِّي الركبان، في أشباه لهذا كثيرة، إذا هو حفظها، وتفهَّم معانيها وتدبَّرها، أغْنَتْه بإذن الله تعالى عن كثير من إطالة الفقهاء.
ولا بدَّ له - مع ذلك - من دراسة أخبار الناس، وتحفّظ عيون الحديث؛ ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلًا إذا كتب، ويَصِلَ بها كلامه إذا حَاوَر.
ومدارُ الأمر عل القُطْب، وهو العقل وجَوْدة القريحة؛ فإن القليل معهما بإذن الله كاف، والكثير من غيرهما مقصِّر.
ونحن نستحبُّ لمن قَبل عنا وائتمَّ بكتبنا أن يؤدِّب نفسه قبل أن يؤدب لسانه، ويهذِّب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصونَ مُروءَته عن دناءة الغِيبة، وصِناعته عن شَيْن الكذب، ويجانب - قبل مجانبته اللحنَ وخَطَل القول - شنيع الكلام ورَفَثَ المَزْح.
كان رسول الله
1 / 14
ﷺ ولنا فيه أُسوة حسنة - يمزح ولا يقول إلا حقًا، ومازَحَ عجوزًا فقال: " إن الجنة لا يدخلها عجوز ". وكان في عليٍّ ﵇ دُعَابة، وكان ابن سِيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لُعابه، وسئل عن رجل فقال: توفى البارحة، فلما رأى جزع السائل قرأ: " اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حينَ مَوْتِها والَّتي لمْ تَمُتْ في مَنَامِها " ومازح معاوية الأحنف بن قيس فما رؤُي مازحان أوقر منهما، قال له معاوية: يا أحنف، ما الشيء المُلَفَّف في البِجَادِ؟ قال له: السَّخينةُ يا أمير المؤمنين؛ أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما ماتَ ميتٌ من تَميم ... فسرَّكَ أن يعيشَ فجيء بزادِ
بخبزٍ أو بتمر أو بسَمْن ... أو الشيء المُلَفَّفِ في البجادِ
تراهُ يطوفُ الآفاق حِرْصًا ... ليأكلَ رأسَ لقمانَ بنِ عادِ
والملفَّف في البجاد وَطْبُ اللبن، وأراد الأحنف أن قريشًا
1 / 15
كانت تُعيَّرُ بأكل السَّخينة، وهي حساء من دقيق يُتَّخذ عند غلاء السِّعر، وعَجَف المال، وكَلَب الزمان؛ فهذا وما أشبهه مَزْحُ الأشراف، وذوي المُرُوءات؛ فأما السَّبَاب وشَتْمُ السَّلَف وذِكْرُ الأعراض بكبير الفَواحش؛ فمما لا نرضاه لخِسَاسِ العبيد وصِغار الولدان.
ونستحبُّ له أن يدع في كلامه التَّقعير والتَّقعيب، كقول يحيى بن يعمر لرجل خاصمته امرأته عنده: " أَأَن سألتْكَ ثَمَنَ شَكْرِهَا وشَبْرِك، أنشأت تَطُلّها وتَضْهَلُها "، وكقول عيسى بن عمر، ويوسف بن عمر بن هُبَيرة يضربه بالسياط: " والله إن كانت إلا أُثَيَّابًا في أُسَيْفَاطٍ قَبَضَها عَشَّاروك ".
فهذا وأشابهه كان يُستثقلُ والأدب غضٌّ والزمان زمان، وأهله يتحلَّوْنَ فيه بالفصاحة، ويتنافسون في العلم، ويرونه تِلْوَ المقادر في دَرَك ما يطلبون وبلوغ ما يؤمِّلُون، فكيف به اليوم مع انقلاب الحال، وقد قال رسول الله ﷺ: " إن أبْغَضَكُم إليَّ الثَّرْثَارونَ المُتَفَيْهِقُونَ المتشدّقون "؟؟
1 / 16
ونستحبُّ له - إن استطاع - أن يَعْدِلَ بكلامه عن الجهة التي تُلزمه مستثقَلَ الإعراب؛ ليَسْلم من اللحن وقباحة التقعير؛ فقد كان واصلُ بن عَطَاء سامَ نفسَه لِلُثْغَة كانت به إخراجَ الراء من كلامه، وكانت لُثْغَته على الراء؛ فلم يزل يَرُوضها حتى انقادت له طِبَاعُه، وأطاعه لسانه؛ فكان لا يتكلم في مجالس التناظر بكلمة فيها راء، وهذا أشدُّ وأعسر مَطْلَبًا مما أردناه.
وليس حُكم الكتَاب في هذا الباب حُكم الكلام؛ لأن الإعراب لا يَقْبُح منه شيء في الكتَاب ولا يثقُلُ، وإنَّما يُكره فيه وَحْشِيُّ الغريب، وتعقيد الكلام، كقول بعض الكتَّاب في كتابه إلى العامل فوقه: " وأنا مُحتاجٌ إلى أنْ تُنْفِذَ إليَّ جَيْشًا لَجِبًا عَرَمْرَمَا "، وقول آخر في كتابه: " عَضَبَ عارِضُ ألمٍ ألمَّ فأنهيتُه عُذْرًا " وكان هذا الرجل قد أدرك صدرًا من الزمان، وأُعطي بَسْطة في العلم واللسان، وكان لا يُشَان في كتابته إلا بتركِهِ سهلَ الألفاظ ومستعمل المعاني، وبلغني أن الحسن بن سهل أيام دولته رآه يكتب وقدر ردَّ عن هاء الله خطا من آخر السطر إلى أوله، فقال: ما هذا؟
1 / 17
فقال: طُغيان في القلم. وكان هذا الرجل صاحب جِدٍّ، وأخا وَرَعٍ ودينٍ، لم يمزح بهذا القول، ولا كان الحَسَنُ أيضًا عنده ممن يُمازحُ.
ونستحبُّ له أيضًا أن يُنَزّل ألفاظه في كتبه فيجعلها على قدر الكاتب والمكتوب إليه، وأن لا يعطيَ خسيس الناس رفيع الكلام، ولا رفيع الناس وضيعَ الكلام؛ فإنِّي رأيت الكُتَّاب قد تركوا تفقّد هذا من أنفسهم، وخلَّطُوا فيه؛ فليس يفرقون بين من يكتب إليه فَرَأْيَكَ في كذا وبين من يكتب إليه فإنْ رأيت كذا ورأيك إنما يُكتبُ بها إلى الأكفاء والمساوين، لا يجوز أن يكتب بها إلى الرؤساء والأستاذِين؛ لأن فيها معنى الأمر، ولذلك نُصِبَتْ، ولا يَفْرُقون بين من يكتب إليه وأنا فعلتُ ذلك وبين من يكتب إليه ونحن فعلنا ذلك ونحن لا يكتب بها عن نفسه إلا آمرٌ أو ناهٍ؛ لأنها من كلام الملوك والعظماء، قال الله ﷿:
) إنَّا نحنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لهُ لَحَافِظُونَ (وقال:) إنَّا كلَّ شيءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ (وعلى هذا الابتداء خوطبوا في الجواب، فقال تعالى حكاية عمن حضره الموت:) رَبّ ارجعونِ لَعَلّي أَعملُ صالحًا فيما تركتُ (ولم يقل
1 / 18
ربّ ارجعن. وربما صدَّرَ الكاتب كتابه بأكرمك الله وأبقاك فإذا توسط كتابه، وعدَّد على المكتوب إليه ذنوبًا له، قال: " فَلَعَنَكَ اللُه وأَخْزاكَ " فكيف يكرمه الله ويلعنه ويخزيه في حال؟؟ وكيف يُجمع بين هذين في كتاب؟ وقال أبْرَويزُ لكاتبه في تنزيل الكلام: " إنما الكلام أربعة: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرُك عن الشيء؛ فهذه دعائم المقالات إن التُمس إليها خامس لم يوجد، وإن نقص منها رابع لم تتم؛ فإذا طلبتَ فأسجِحْ، وإذا سألت فأوضِحْ، وإذا أمرتَ فأحْكِمْ، وإذا أخبرتَ فحقق. وقال له أيضًا: " واجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول ". يريد الإيجاز، وهذا ليس بمحمود في كل موضع، ولا بمختار في كل كتاب، بل لكل مقام مقال، ولو كان الإيجاز محمودًا في كل الأحوال لجرَّده الله تعالى في القرآن، ولم يفعل الله ذلك، ولكنه أطال تارة للتوكيد، وحذف تارة للإيجاز، وكرَّر تارة للإفهام، وعِلَلُ هذا مستقصاةٌ في كتابنا المؤلف في تأويل مُشْكل القرآن وليس يجوز لمن قام مقامًا في تحضيض على حرب
1 / 19
أو حَمَالة بدم أو صلح بين عشائر أن يُقلِّل الكلام ويختصرهُ، ولا لمن كتب إلى عامَّةٍ كتابًا في فتحٍ أو استصلاحٍ أن يوجز. ولو كتب كاتب إلى أهل بلد في الدعاء إلى الطاعة والتحذير عن المعصية كتاب يزيد بن الوليد إلى مروان حين بلغه عنه تلكّؤُهُ في بيعته. " أمَّا بعد؛ فإني أراكَ تُقدِّم رِجْلًا وتؤخِّرُ أُخرى، فاعتمدْ على أيتهما شئت، والسلام "؛ لم يعمل هذا الكلام في أنْفُسها عملهُ في نفس مروان، ولكن الصواب أن يُطيل ويُكرِّر، ويعيد ويُبدئ، ويُحذِّر ويُنذِرُ.
هذا منتهى القول فيما نختاره للكاتب؛ فمن تكاملت له هذه الأدوات، وأمدَّه الله بآداب النفس - من العفاف، والحلم، والصبر، والتواضع للحق، وسكُونِ الطائر، وخَفْضِ الجَنَاح - فهذا المتناهي في الفضل، العالي في ذُرَى المجد، الحاوي قَصَبَ السبق، الفائزُ بخير الدارين، إن شاء الله تعالى.
1 / 20
كتاب المعرفة
معرفة ما يضعُهُ النَّاسُ في غيرِ موضِعِه
من ذلك أشْفَارُ العَيْنِ يذهب الناس إلى أنها الشَّعرُ النابت على حروف العين، وذلك غلط، إنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر، والشَّعرُ هو الهُدْب. وقال الفقهاء المتقدمون: في كل شُفْر من أشفار العين رُبْعُ الدية، يعنون في كل جَفْن، وشُفْر كل شيء: حَرْفه، وكذلك شَفِيره، ومنه يقال: شَفير الوادي وشُفْرُ الرَّحم، فإن كان أحد من الفصحاء سمَّى الشعر شُفْرًا فإنما سماه بمَنْبِته، والعرب تسمِّي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورًا له، أو كان منه بسببٍ، على ما بيَّنتُ
1 / 21
لك في باب تسمية الشيء باسم غيره ومن ذلك: حُمَةُ العقرب والزُّنبور يذهب الناس إلى أنها شوكة العقرب وشوكة الزنبور التي يلسعان بها؛ وذلك غلط، إنَّما الحُمَةُ سمُّهما وضرُّهما، وكذلك هي من الحية لأنها سم. ومنه قول ابن سيرين: " يكره التِّرياق إذا كان فيه الحُمَة ". يعني بذلك السم، وأراد لحوم الحيَّات لأنها سم. ومنه قوله: " لا رُقْية إلا من نَمْلة أو حُمَة أو نَفْس " فالنملة: قُرُوحٌ تخرج في الجنب، تقول المجوس: إن ولد الرجل إذا كان من أخته ثم خطَّ على النملة يشفى صاحبها، قال الشاعر:
ولا عيبَ فينا غيرَ عِرْقٍ لمعشرٍ ... كِرامٍ وأنَّا لا نخطُّ على النَّمْلِ
يريد أنا لسنا بمجوس ننكح الأخوات. والنفسُ: العين، يقال: أصابت فلانًا نفسٌ. والنافسُ: العائنُ، والحُمَةُ لكل هامَّة ذات سُمّ، فأما شوكة العقرب فهي الإبْرَةُ. ومن ذلك: " الطَّرَبُ " يذهب الناس إلى أنه في الفَرَح دون الجزَع،
1 / 22
وليس كذلك، إنما الطرب خفّة تصيب الرجل لشدَّة السرور، أو لشدَّة الجزع، قال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
وأرَانِي طَرِبًا في إثْرِهِمْ ... طَرَبَ الوالِه أو كالمُخْتَبَلْ
وقال آخر:
يقُلنَ لقدْ بكيتَ فقلتُ كلاَّ ... وهلْ يَبكي منَ الطَّرَب الجليدُ
ومن ذلك " الحِشْمَة " يضعها الناس موضع الاستحياء، قال الأصمعي: وليس كذلك، إنما هي بمعنى الغضب، وحكى عن بعض فصحاء العرب أنه قال: " إن ذلك لممَّا يُحْشِمُ بني فلان " أي: يغضبهم.
قال الأصمعي: ونحوٌ من هذا قول الناس " زَكِنْتُ الأمر " يذهبون فيه إلى معنى ظننتُ وتوهمَّتُ، وليس كذلك، إنما هو بمعنى علمتُ، يقال: زَكِنْتُ الأمر أزْكَنُهُ، قال قَعْنَبُ بن أم صاحب:
1 / 23
ولنْ يُراجعَ قلبِي وُدَّهمْ أبدًا ... زَكِنْتُ منهمْ على مثلِ الَّذي زَكِنُوا
أي: علمت منهم مثل الذي علموا مني ومن ذلك: " القافِلَةُ " يذهب الناس إلى أنها الرُّفقة في السفر، ذاهبةً كانت أو راجعةً، وليس كذلك، إنما القافلة الراجعة من السفر، يقال: قَفَلَتْ فهي قافلة، وقَفَلَ الجُندُ من مبعثهم، أي: رَجَعوا، ولا يقال لمن خرج إلى مكة من العراق قافلة حتى يَصْدُروا، ومن ذلك: " المأتمُ " يذهب الناس إلى أنه المصيبة، ويقولون: كنا في مأتمٍ، وليس كذلك، إنما المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر، والجمع مآتم، والصواب أن يقولوا: كنا في مَنَاحة، وإنما قيل لها مَنَاحة من النَّوائح لتاقبلهن عند البكاء، يقال: الجبَلان يتنَاوحان، إذا تَقَابلا، وكذلك الشَّجرُ، وقال الشاعر:
عشيَّةَ قامَ النَّائحاتُ وشُقِّقتْ ... جيوبٌ بأيدِي مَأْتَمٍ وخدود
أي: بأيدي نساء، وقال آخر:
رَمَتْه أناةٌ مِنْ رَبيعةِ عامرٍ ... نَؤومُ الضُّحا في مَأْتَمٍ أيِّ مأتمِ
1 / 24