شَيْئَيْنِ: إمَّا بِمَذْهَبٍ شَنِيعٍ يُخْفِيهِ مُعْتَقِدُهُ وَيَجْعَلُ الرَّمْزَ سَبَبًا لِتَطَلُّعِ النُّفُوسِ إلَيْهِ وَاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِيهِ سَبَبًا لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُ. وَإِمَّا لِمَا يَدَّعِي أَرْبَابُهُ أَنَّهُ عِلْمٌ مُعْوِزٌ، وَأَنَّ إدْرَاكَهُ بَدِيعٌ مُعْجِزٌ، كَالصَّنْعَةِ الَّتِي وَضَعَهَا أَرْبَابُهَا اسْمًا لِعِلْمِ الْكِيمْيَاءِ فَرَمَزُوا بِأَوْصَافِهِ، وَأَخْفَوْا مَعَانِيَهُ؛ لِيُوهِمُوا الشُّحَّ بِهِ وَالْأَسَفَ عَلَيْهِ خَدِيعَةً لِلْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
مُنِعْتُ شَيْئًا فَأَكْثَرْت الْوَلُوعَ بِهِ ... أَحَبُّ شَيْءٍ إلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا
ثُمَّ لِيَكُونُوا بُرَاءً مِنْ عُهْدَةِ مَا قَالُوهُ إذَا جُرِّبَ. وَلَوْ كَانَ مَا تَضَمَّنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ الرُّمُوزِ مَعْنًى صَحِيحًا وَعِلْمًا مُسْتَفَادًا لَخَرَجَ مِنْ الرَّمْزِ الْخَفِيِّ إلَى الْعِلْمِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ مَعَ اخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ لَا تَتَّفِقُ عَلَى سَتْرِ سَلِيمٍ وَإِخْفَاءِ مُفِيدٍ. وَقَدْ قَالَ زُهَيْرٌ:
السَّتْرُ دُونَ الْفَاحِشَاتِ وَلَا ... يَلْقَاك دُونَ الْخَيْرِ مِنْ سَتْرِ
وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَ الرَّمْزُ مِنْ الْكَلَامِ فِيمَا يُرَادُ تَفْخِيمُهُ مِنْ الْمَعَانِي، وَتَعْظِيمُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ لِيَكُونَ أَحْلَى فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعًا، وَأَجَلَّ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعًا، فَيَصِيرُ بِالرَّمْزِ سَائِرًا وَفِي الصُّحُفِ مُخَلَّدًا. كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ فِيثَاغُورْسَ فِي وَصَايَاهُ الْمَرْمُوزَةِ أَنَّهُ قَالَ: احْفَظْ مِيزَانَك مِنْ الْبَذِيءِ، وَأَوْزَانَك مِنْ الصَّدِيءِ. يُرِيدُ بِحِفْظِ الْمِيزَانِ مِنْ الْبَذِيءِ حِفْظَ اللِّسَانِ مِنْ الْخَنَا، وَحِفْظِ الْأَوْزَانِ مِنْ الصَّدَى حِفْظَ الْعَقْلِ مِنْ الْهَوَى.
فَصَارَ بِهَذَا الرَّمْزِ مُسْتَحْسَنًا وَمُدَوَّنًا وَلَوْ قَالَهُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَالْمَعْنَى الصَّحِيحِ، لَمَا سَارَ عَنْهُ، وَلَا اُسْتُحْسِنَ مِنْهُ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَحْجُوبَ عَنْ الْأَفْهَامِ كَالْمَحْجُوبِ عَنْ الْأَبْصَارِ فِيمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ التَّعْظِيمِ، وَفِي الْقُلُوبِ مِنْ التَّفْخِيمِ. وَمَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجِبْ هَانَ وَاسْتُرْذِلَ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِحْلَاؤُهُ فِيمَا قَلَّ وَهُوَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ مُسْتَقَلٌّ.
فَأَمَّا الْعُلُومُ الْمُنْتَشِرَةُ الَّتِي تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إلَيْهَا فَقَدْ اسْتَغْنَتْ بِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَيْهَا وَشِدَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا عَنْ الِاسْتِدْعَاءِ إلَيْهَا بِرَمْزٍ مُسْتَحْلٍ وَلَفْظٍ مُسْتَغْرَبٍ. بَلْ ذَلِكَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا؛ لِمَا فِي التَّشَاغُلِ بِاسْتِخْرَاجِ رُمُوزِهَا مِنْ الْإِبْطَاءِ عَنْ إدْرَاكِهَا، فَهَذَا حَالُ الرَّمْزِ.
1 / 54