الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِزِيَادَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ عِلَّةً مَانِعَةً مِنْ فَهْمِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ. وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنْ هَذْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِكْثَارِهِ، وَإِمَّا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِفَهْمِ سَامِعِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِمُوَاضَعَةٍ يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا السَّامِعُ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَهَا. وَأَمَّا تَقْصِيرُ اللَّفْظِ وَزِيَادَتُهُ فَمِنْ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّك لَسْت تَجِدُ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا تَجِدُهُ فِي بَعْضِهِ.
فَإِنْ عَدَلْت عَنْ الْكَلَامِ الْمُقَصِّرِ إلَى الْكَلَامِ الْمُسْتَوْفِي، وَعَنْ الزَّائِدِ إلَى الْكَافِي أَرَحْت نَفْسَك مِنْ تَكَلُّفِ مَا يَكِدُّ خَاطِرَك. وَإِنْ أَقَمْت عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ إمَّا لِضَرُورَةٍ دَعَتْك إلَيْهِ عِنْدَ إعْوَازِ غَيْرِهِ، أَوْ لِحَمِيَّةٍ دَاخَلَتْك عِنْدَ تَعَذُّرِ فَهْمِهِ، فَانْظُرْ فِي سَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالتَّقْصِيرِ.
فَإِنْ كَانَ التَّقْصِيرُ لِحَصْرٍ وَالزِّيَادَةُ لِهَذْرٍ سَهُلَ عَلَيْك اسْتِخْرَاجُ الْمَعْنَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْكَلَامِ مَحْصُولٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلُّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ الصَّحِيحِ وَفِي الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ دَلِيلٌ. وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى دَلِيلًا لِسُوءِ ظَنِّ الْمُتَكَلِّمِ بِفَهْمِ السَّامِعِ كَانَ اسْتِخْرَاجُهُ أَسْهَلَ. وَإِنْ كَانَ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى لِسُوءِ فَهْمِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ أَصْعَبُ الْأُمُورِ حَالًا، وَأَبْعَدُهَا اسْتِخْرَاجًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مُكَلِّمُك فَأَنْتَ مِنْ فَهْمِهِ أَبْعَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِفَرْطِ ذَكَائِك وَجَوْدَةِ خَاطِرِك تَتَنَبَّهُ بِإِشَارَتِهِ عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ وَاسْتِخْرَاجِ مَا قَصَّرَ فِيهِ فَتَكُونُ فَضِيلَةُ الِاسْتِيفَاءِ لَك وَحَقُّ التَّقَدُّمِ لَهُ.
وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. أَمَّا الْعَامَّةُ فَهِيَ مُوَاضَعَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا جَعَلُوهُ أَلْقَابًا لِمَعَانٍ لَا يَسْتَغْنِي الْمُتَعَلِّمُ عَنْهَا وَلَا يَقِفُ عَلَى مَعْنَى كَلَامِهِمْ إلَّا بِهَا، كَمَا جَعَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْجَوَاهِرَ، وَالْأَعْرَاضَ وَالْأَجْسَامَ أَلْقَابًا تَوَاضَعُوهَا لِمَعَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهَا. وَلَسْت تَجِدُ مِنْ الْعُلُومِ عِلْمًا يَخْلُو مِنْ هَذَا. وَهَذِهِ الْمُوَاضَعَةُ الْعَامَّةُ تُسَمَّى عُرْفًا.
وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَمُوَاضَعَةُ الْوَاحِدِ يَقْصِدُ بِبَاطِنِ كَلَامِهِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ. فَإِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ كَانَتْ رَمْزًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشِّعْرِ كَانَتْ لُغْزًا.
فَأَمَّا الرَّمْزُ فَلَسْت تَجِدُهُ فِي عِلْمٍ مَعْنَوِيٍّ، وَلَا فِي كَلَامٍ لُغَوِيٍّ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ غَالِبًا بِأَحَدِ
1 / 53