اُسْتُصْعِبَ عَلَيْهِ إشْعَارًا لِنَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُضُولِ عِلْمِهِ وَإِعْذَارًا لَهَا فِي تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَطِيَّةُ النَّوْكَى وَعُذْرُ الْمُقَصِّرِينَ.
وَمَنْ أَخَذَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَسَهَّلَ وَتَرَكَ مِنْهُ مَا تَعَذَّرَ كَانَ كَالْقَنَّاصِ إذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الصَّيْدُ تَرَكَهُ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا خَائِبًا إذْ لَيْسَ يَرَى الصَّيْدَ إلَّا مُمْتَنِعًا. كَذَلِكَ الْعِلْمُ كُلُّهُ صَعْبٌ عَلَى مَنْ جَهِلَهُ، سَهْلٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَهُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا مُسْتَوْدَعَةٌ فِي كَلَامٍ مُتَرْجَمٍ عَنْهَا.
وَكُلُّ كَلَامٍ مُسْتَعْمَلٍ فَهُوَ يَجْمَعُ لَفْظًا مَسْمُوعًا وَمَعْنًى مَفْهُومًا، فَاللَّفْظُ كَلَامٌ يُعْقَلُ بِالسَّمْعِ وَالْمَعْنَى تَحْتَ اللَّفْظِ يُفْهَمُ بِالْقَلْبِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعُلُومُ مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: قَلْبٌ مُفَكِّرُ، وَلِسَانٌ مُعَبِّرٌ، وَبَيَانٌ مُصَوِّرٌ.
فَإِذَا عَقَلَ الْكَلَامَ بِسَمْعِهِ فَهِمَ مَعَانِيَهُ بِقَلْبِهِ. وَإِذَا فَهِمَ الْمَعَانِيَ سَقَطَ عَنْهُ كُلْفَةُ اسْتِخْرَاجِهَا وَبَقِيَ عَلَيْهِ مُعَانَاةُ حِفْظِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ شَوَارِدُ تَضِلُّ بِالْإِغْفَالِ، وَالْعُلُومُ وَحْشِيَّةٌ تَنْفِرُ بِالْإِرْسَالِ. فَإِذَا حَفِظَهَا بَعْدَ الْفَهْمِ أَنِسَتْ، وَإِذَا ذَكَرَهَا بَعْدَ الْأُنْسِ رَسَتْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَكْثَرَ الْمُذَاكَرَةَ بِالْعِلْمِ لَمْ يَنْسَ مَا عَلِمَ وَاسْتَفَادَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا لَمْ يُذَاكِرْ ذُو الْعُلُومِ بِعِلْمِهِ ... وَلَمْ يَسْتَفِدْ عِلْمًا نَسِيَ مَا تَعَلَّمَا
فَكَمْ جَامِعٍ لِلْكُتُبِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ ... يَزِيدُ مَعَ الْأَيَّامِ فِي جَمْعِهِ عَمَى
وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَ مَا سَمِعَ كَشَفَ عَنْ السَّبَبِ الْمَانِعِ مِنْهَا لِيَعْلَمَ الْعِلَّةَ فِي تَعَذُّرِ فَهْمِهَا فَإِنَّهُ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِ الْأَشْيَاءِ وَعِلَلِهَا يَصِلُ إلَى تَلَافِي مَا شَذَّ وَصَلَاحِ مَا فَسَدَ.
وَلَيْسَ يَخْلُو السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ فِي السَّامِعِ الْمُسْتَخْرِجِ.
فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْمَانِعُ مِنْ فَهْمِهَا لِعِلَّةٍ فِي الْكَلَامِ الْمُتَرْجَمِ عَنْهَا لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِتَقْصِيرِ اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى فَيَصِيرُ تَقْصِيرُ اللَّفْظِ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى سَبَبًا مَانِعًا مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا مِنْ حَصْرِ الْمُتَكَلِّمِ وَعِيِّهِ، وَإِمَّا مِنْ بَلَادَتِهِ وَقِلَّةِ فَهْمِهِ.
1 / 52