حَالُهُ: فِي الْعَذْلِ نَفْعٌ وَلَا فِي الْإِصْلَاحِ مَطْمَعٌ.
وَقَدْ قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: مَا لَكُمْ لَا تُعَاتِبُونَ الْجُهَّالَ؟ فَقَالَ: إنَّا لَا نُكَلِّفُ الْعُمْيَ أَنْ يُبْصِرُوا، وَلَا الصُّمَّ أَنْ يَسْمَعُوا. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الْعِلْمِ هَذَا النُّفُورَ، وَتُعَانِدُ أَهْلَهُ هَذَا الْعِنَادَ، تَرَى الْعَقْلَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَتَنْفِرُ مِنْ الْعُقَلَاءِ هَذَا النُّفُورَ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَاقِلَ مُحَارَفٌ، وَأَنَّ الْأَحْمَقَ مَحْظُوظٌ.
وَنَاهِيكَ بِضَلَالِ مَنْ هَذَا اعْتِقَادُهُ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ هَلْ يَكُونُ لِخَيْرٍ أَهْلًا، أَوْ لِفَضِيلَةٍ مَوْضِعًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَخْبَثُ النَّاسِ الْمُسَاوِي بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ؛ وَعِلَّةُ هَذَا أَنَّهُمْ رُبَّمَا رَأَوْا عَاقِلًا غَيْرَ مَحْظُوظٍ، وَعَالِمًا غَيْرَ مَرْزُوقٍ، فَظَنُّوا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ هُمَا السَّبَبُ فِي قِلَّةِ حَظِّهِ وَرِزْقِهِ.
وَقَدْ انْصَرَفَتْ عُيُونُهُمْ عَنْ حِرْمَانِ أَكْثَرِ النَّوْكَى وَإِدْبَارِ أَكْثَرِ الْجُهَّالِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُقَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ قِلَّةً وَعَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِمْ سِمَةٌ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ لِكَثْرَةِ الْجُهَّالِ.
فَإِذَا ظَهَرَتْ سِمَةُ فَضْلِهِمْ وَصَادَفَ ذَلِكَ قِلَّةَ حَظِّ بَعْضِهِمْ تَنَوَّهُوا بِالتَّمْيِيزِ وَاشْتُهِرُوا بِالتَّعْيِينِ، فَصَارُوا مَقْصُودِينَ بِإِشَارَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ، مَلْحُوظِينَ بِإِيمَاءِ الشَّامِتِينَ.
وَالْجُهَّالُ وَالْحَمْقَى لَمَّا كَثُرُوا وَلَمْ يَتَخَصَّصُوا انْصَرَفَتْ عَنْهُمْ النُّفُوسُ فَلَمْ يَلْحَظْ الْمَحْرُومُ مِنْهُمْ بِطَرَفِ شَامِتٍ، وَلَا قَصَدَ الْمَجْدُودُ مِنْهُمْ بِإِشَارَةِ عَائِبٍ. فَلِذَلِكَ ظَنَّ الْجَاهِلُ الْمَرْزُوقُ أَنَّ الْفَقْرَ وَالضِّيقَ مُخْتَصٌّ بِالْعِلْمِ، وَالْعَقْلَ دُونَ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ وَلَوْ فَتَّشَتْ أَحْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ، مَعَ قِلَّتِهِمْ، لَوَجَدْت الْإِقْبَالَ فِي أَكْثَرِهِمْ.
وَلَوْ اخْتَبَرْت أُمُورَ الْجُهَّالِ وَالْحَمْقَى، مَعَ كَثْرَتِهِمْ، لَوَجَدَتْ الْحِرْمَانَ فِي أَكْثَرِهِمْ. وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذُو الْحَالِ الْوَاسِعَةِ مِنْهُمْ مَلْحُوظًا مُشْتَهِرًا؛ لِأَنَّ حَظَّهُ عَجِيبٌ وَإِقْبَالَهُ مُسْتَغْرَبٌ. كَمَا أَنَّ حِرْمَانَ الْعَاقِلِ الْعَالِمِ غَرِيبٌ وَإِقْلَالَهُ عَجِيبٌ. وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ عَلَى سَالِفِ الدُّهُورِ مِنْ ذَلِكَ مُتَعَجِّبِينَ وَبِهِ مُعْتَبِرِينَ حَتَّى قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: مَا أَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ؟ فَقَالَ: نُجْحُ الْجَاهِلِ وَإِكْدَاءُ الْعَاقِلِ. لَكِنَّ الرِّزْقَ بِالْحَظِّ وَالْجَدِّ، لَا بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ، حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَدُلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَإِجْرَاءِ الْأُمُورِ عَلَى مَشِيئَتِهِ.
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: لَوْ جَرَتْ الْأَقْسَامُ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ. فَنَظَمَهُ أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ:
يَنَالُ الْفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ ... وَيُكْدِي الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا ... هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ
1 / 45