Adab du monde et de la religion

al-Mawardi d. 450 AH
78

Adab du monde et de la religion

أدب الدنيا والدين

Maison d'édition

دار مكتبة الحياة

Numéro d'édition

الأولى

Année de publication

1407 AH

Lieu d'édition

بيروت

Genres

Soufisme
ﷺ قَالَ: «شَرُّ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ» . فَسُبْحَانَ مَنْ دَبَّرَنَا بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ، وَأَخْفَى عَنْ فِطْنَتِنَا جَزِيلَ نِعْمَتِهِ، حَتَّى اسْتَوْجَبَ مِنْ الشُّكْرِ بِإِخْفَائِهَا أَعْظَمَ مِمَّا اسْتَوْجَبَهُ بِإِبْدَائِهَا. ثُمَّ فَرَضَ الْحَجَّ فَكَانَ آخِرَ فُرُوضِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ عَمَلًا عَلَى بَدَنٍ وَحَقًّا فِي مَالٍ. فَجَعَلَ فَرْضَهُ بَعْدَ اسْتِمْرَارِ فُرُوضِ الْأَبْدَانِ وَفُرُوضِ الْأَمْوَالِ؛ لِيَكُونَ اسْتِئْنَاسَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ ذَرِيعَةً إلَى تَسْهِيلِ مَا جَمَعَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ. فَكَانَ فِي إيجَابِهِ تَذْكِيرٌ لِيَوْمِ الْحَشْرِ بِمُفَارَقَةِ الْمَالِ وَالْأَهْلِ، وَخُضُوعِ الْعَزِيزِ وَالذَّلِيلِ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاجْتِمَاعِ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي الرَّهْبَةِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ، وَإِقْلَاعِ أَهْلِ الْمَعَاصِي عَمَّا اجْتَرَحُوهُ، وَنَدَمِ الْمُذْنِبِينَ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ، فَقَلَّ مَنْ حَجَّ إلَّا وَأَحْدَثَ تَوْبَةً مِنْ ذَنْبٍ وَإِقْلَاعًا مِنْ مَعْصِيَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مِنْ عَلَامَةِ الْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا بَعْدَهَا خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَهَا» . وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّدَمَ عَلَى الذُّنُوبِ مَانِعٌ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، وَالتَّوْبَةَ مُكَفِّرَةٌ لِمَا سَلَفَ مِنْهَا. فَإِذَا كَفَّ عَمَّا كَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهِ أَنْبَأَ عَنْ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَصِحَّةُ التَّوْبَةِ تَقْتَضِي قَبُولَ حَجَّتِهِ. ثُمَّ نَبَّهَ بِمَا يُعَانِي فِيهِ مِنْ مَشَاقِّ السَّفَرِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ عَلَى مَوْضِعِ النِّعْمَةِ بِرَفَاهَةِ الْإِقَامَةِ وَأَنَسَةِ الْأَوْطَانِ لِيَحْنُوَ عَلَى مِنْ سُلِبَ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ. ثُمَّ أَعْلَمَ بِمُشَاهَدَةِ حَرَمِهِ الَّذِي أَنْشَأَ مِنْهُ دِينَهُ، وَبَعَثَ فِيهِ رَسُولَهُ. ثُمَّ بِمُشَاهَدَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ طَاعَتِهِ، وَأَذَلَّ بِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﵊ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، حَتَّى خَضَعَ لَهُ عُظَمَاءُ الْمُتَجَبِّرِينَ، وَتَذَلَّلَ لَهُ زُعَمَاءُ الْمُتَكَبِّرِينَ. إنَّهُ لَمْ يَنْتَشِرْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الْمُنْقَطِعِ، وَلَا قَوِيَ بَعْدَ الضَّعْفِ الْبَيِّنِ حَتَّى طَبَّقَ الْأَرْضَ شَرْقًا وَغَرْبًا إلَّا بِمُعْجِزَةٍ ظَاهِرَةٍ وَنَصْرٍ عَزِيزٍ. فَاعْتَبِرْ - أَلْهَمَك اللَّهُ الشُّكْرَ وَوَفَّقَك لِلتَّقْوَى - إنْعَامَهُ عَلَيْك فِيمَا كَلَّفَك، وَإِحْسَانَهُ إلَيْك فِيمَا تَعَبَّدَك. فَقَدْ وَكَّلْتُك إلَى فِطْنَتِك وَأَحَلْتُك عَلَى بَصِيرَتِك بَعْدَ أَنْ كُنْتُ لَك رَائِدًا صَدُوقًا، وَنَاصِحًا شَفُوقًا هَلْ تُحْسِنُ نُهُوضًا بِشُكْرِهِ إذَا فَعَلْت مَا أَمَرَك، وَتَقَبَّلْت مَا كَلَّفَك؟ كَلًّا إنَّهُ لَا يُوَلِّيك نِعْمَةً تُوجِبُ الشُّكْرَ إذَا وَصَلَهَا قَبْلَ شُكْرِ مَا سَلَفَ بِنِعْمَةٍ تُوجِبُ الشُّكْرَ فِي الْمُؤْتَنَفِ. وَقَالَ

1 / 92