Encyclopédie des Œuvres Complètes de l'Imam Muhammad al-Khidr Husayn

موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين

Chercheur

علي الرضا الحسيني

Maison d'édition

دار النوادر

Numéro d'édition

الأولى

Année de publication

1431 AH

Lieu d'édition

سوريا

Genres

مَوسُوعَةُ
الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ
للإِمَامِ
مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين
شَيخ الجَامِع الأزهَر وَعَلَّامَة بِلَادِ المَغْرِبِ
المولود بتونس سنة ١٢٩٣ هـ والمتوفى بالقاهرة سنة ١٣٧٧ هـ - رحمه الله تعالى -
جَمَعَهَا وضَبَطها ابْنُ أخِيهِ
المحامي علي الرّضا الحسيني
دَارُ النَّوادِرِ

مقدمة / 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة / 2

مَوسُوعَةُ
الأَعْمَالِ الكَامِلَةِ
لِلإمَامِ مُحَمّدْ الخَضْرِ حُسَيْنٌ

مقدمة / 3

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة
الطَّبْعَةُ الأُولَى
١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
ردمك: ٦ - ٤٩ - ٤١٨ - ٩٩٣٣ - ٩٧٨: ISBN
دَار النَّوَادِر
سورية - لبنان - الكويت
مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر اللُّبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الكُوَيتيةِ - ذ. م. م - الكُويت
سورية - دمشق - ص. ب: ٣٤٣٠٦ - هاتف: ٢٢٢٧٠٠١ - فاكس: ٢٢٢٧٠١١ (٠٠٩٦٣١١)
لبنان - بيروت - ص. ب: ١٤/ ٥١٨٠ - هاتف: ٦٥٢٥٢٨ - فاكس: ٦٥٢٥٢٩ (٠٠٩٦١١)
الكويت - حولي - ص. ب: ٣٢٠٤٦ - هاتف: ٢٢٦٣٠٢٢٣ - فاكس: ٢٢٦٣٠٢٢٧ (٠٠٩٦٥)
أسَّسَهَا سَنَة: ٢٠٠٦ م
نُوْرُ الدِّين طَالِبْ
المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفِيذِي

مقدمة / 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تصْدير الموْسوعة
الحمد لله تعالى على ما هدى، والصلاةُ والسلام على نبينا محمد نور الحقِّ والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى:
يحدثنا لسانُ التاريخ الإسلامي المعاصر - وهو صادقٌ أمين فيما يتحدّث به -: أنّ الإمامَ محمد الخَضِر حسين عَلَمٌ من أعلام الإسلام، عمل فأجاد وأفاد، وجاهد فانتصر، وغرس فحصد، وأنتج فيضًا زاخرًا مباركًا من العلوم التي ضَمَّتها هذه الموسوعة، والتي أطلقنا عليها اسم: (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر وعالم بلاد المغرب) - رحمه الله تعالى -.
ولا يستقيم القول عن رجلٍ: إنه من عظماء الإسلام، ما لم تكن بين أيدينا حجةٌ تبرر هذا القول، وبرهانٌ تدعمُهُ الوقائعُ، وإلا، فإنه كالناطقِ عن هوى، والخائض في الغَيِّ.
وقد نَهَجَتِ الموسوعاتُ العلميةُ الكُبرى أن تذكر في مطالعها لمحاتٍ - موجزةً أو مطوّلة - عن المؤلِّف، والمؤلَّف، والمحتوى، وهو منهاج حسن.
ومن هذا المنطلق، وخدمة للمكتبة الإسلامية، والسعي المخلص لإثرائها بالكتب القيِّمة للإمام محمد الخضر حسين التي تُطبع لأول مرة في موسوعة منسّقة، مرتبة، أنيقة، حوت أعمالَه الكاملة التي وصل إليها التحقيقُ

مقدمة / 5

والبحث حتى اليوم.
يَسُرُّ (دار النوادر)، وتبتهجُ بهذا الإنجاز العلمي الذي طالما تطلع إليه المغربُ الإسلامي مع المشرق الإسلامي، وبعد طول انتظارٍ وترقُّب وإلحاحٍ من المؤسسات الفكرية والعلمية، سواء الدينية منها والأدبية، ومن قِبَلِ الأفراد والجماعات الذين يهتمون بعظماء أممهم، ويفاخرون ويباهون في الحديث عنهم بنواديهم ومجالسهم ومعاهدهم وجامعاتهم، ووسائل إعلامهم.
هذه الموسوعة التي يجد فيها الباحث والدارس والمحقق والكاتب وطالبُ المعرفة والقارئ طِلْبَته ومُبتغاه في كل علم من العلوم التي أتاها الإمام من أبوابها الواسعة، فهو حَوْضٌ يُسقى من عذب فراته، ويصدر عنه الوارد مُرتويًا من مَعينه الخالص.
وإذا رغبنا - في هذه المقدمة - أن نَعرض ترجمة لحياته، وجدنا أنفسنا أمام (بحرٍ لا ساحلَ له (١»، ولا ندري من أين نغوص؟ وكيف نلتقط الدرر، ولاحتاجَ الأمرُ إلى كتابة الأسفار.
كيف نقدمه، وماذا ندوِّن من صفاته، ونسطِّر من أعماله، ونقدِّم جواهر كتبه وآثاره؟.
ونتساءل: هل تفي هذه المقدمة في تصوير المشهد الذي نَنْشُد تِبيانه في مطلع هذه الموسوعة؟ كلا.
إنه طراز نادر من العلماء المجاهدين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله

(١) كما جاء على لسان فضيلة الشيخ عبد المجيد اللّبان، رئيس اللجنة عندما تقدم الإمام لنيل عضوية (هيئة كبار العلماء) بكتابه "القياس في اللغة العربية".

مقدمة / 6

عليه، وإنه من عظماء الإسلام، كلما كتبتَ عنهم، وخُضْتَ في سيرتهم، وعرضتَ مآثرهم وآثارهم، وأسعدتَ البصائر والعقول والقلوب ببحوثهم وآرائهم ودراستهم، قال لك القلم: هل من مزيد؟
إن أطلقتَ عليه صفةَ: الإمام المفسر، الإمام المحدّث، الإمام الزيتوني، الإمام القاضي، الإمام المجاهد، الإمام الخطيب، الإمام المحاضر، الإمام المصلح، الإمام اللغوي، الإمام الرحالة، الإمام الأديب، الإمام الشاعر، الإمام الناقض والناقد، وإمام مشيخة الأزهر، وجدت كل وصف من هذه الأوصاف العلمية ملازمًا له حقًا وصدقًا، وقد أنصفتَ فيما وصفت، لا سيما بعد أن تطالع كافة آثاره العلمية.
لا نكتب هذا من باب الإنشاء والمبالغة في البلاغة والبيان، وتزيين المقدمة بكلمات تثير كوامن الإنسان، إنما ندع القارئ وجهًا لوجه أمام هذه المواهب المتعددة التي وضعها الله ﷾ فيه؛ ليستخلص منها المنزلة التي وصل إليها هذا الإمام.
أجمع معاصروه وتلامذته ودارسوه من بعده على تقواه وصلاحه، وغزارة علمه ومعارفه، ومكارم أخلاقه، وطهارة سريرته، وأنه أوقف حياته بليلها ونهارها لخدمة الإسلام، ويدلنا على هذا الأمر: إنتاجه الغزير، وعطاؤه الوفير، وسيرته العطرة، وهذه التآليف المتعددة في اختصاصها وفنونها، وصدقها وأمانتها.
صرفَ اهتمامه إلى علوم الشريعة واللغة والأدب، فاعتنى بالتفسير والحديث والفتاوى والأحكام، وتحدث عن أبطال الإسلام، وترجم لهم، وفي المقدمة: سيرةُ المصطفى ﷺ، وسيرة السلف الصالح ﵃.

مقدمة / 7

اتخذ القرآنَ الكريم إمامًا، والسنة النبوية قدوة، وفي هذا السبيل كانت رحلة حياته المباركة. اتخذ من الآية الكريمة: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥ - ١٦]، سبيلَه وطريقَه المستقيم طوالَ عمره.
وجد في الكتاب المبين دُستورًا حكيمًا عادلًا للناس كافة، إذا اتبعوه، سلموا في الدنيا والآخرة، وإن تركوه، خسروا الحياتين.
ووجد في النور المحمديِّ الذي سرى ضياؤه في الشرق والغرب، وأنقذ العالم من ظلمات الشرك والجهالة والفوضى إلى نور الإيمان والعلم والنظام، المثلَ الأعلى للهدى والهداية، والرشد والإرشاد.
ترى الإمام محمد الخضر حسين وضع نُصْبَ عينيه هاتين النعمتين العظيمتين، اللتين منَّ الله ﷿ بهما على عباده: - القرآن الكريم، وسيرة النبي ﷺ.
وعلى هديهما توكَّل على الله ﷿ في رحلة الإيمان، بدءًا من مدينة "نفطة" مكان ولادته، وانتهاء إلى "القاهرة"، وإمامته مشيخة الأزهر، ومن بَعْدُ انتقالُه إلى الرفيق الأعلى.
كان توجهه إلى المؤمن في عبادته، وهداية للضال في عقيدته، والإرشاد للعامل في عمله، والراعي في بيته، والموسَّع عليه فيما أنعم الله به عليه، والقاضي على مِنَصَّة قضائه، والحاكم في مَنْصِبه ومسؤوليته، وزعماء الأمة أن يخلصوا في الأمانة التي حملوها.
ولئن نهجت الأقلامُ في المقدمات أن تذكر نسب ولقب وكنية المترجَم،

مقدمة / 8

ومولده ونشأته، ودراسته وشيوخه، ومؤلفاته وتلاميذه، ومكانته العلمية، وآراء العلماء فيه، ثم وفاته، فالأجدرُ بنا أن نضع لمحاتٍ سريعةً في سيرة الإمام، مع الإشارة إلى البحوث القيمة التي وردت في الكتب الموجودة في خاتمة هذه الموسوعة، والتي أعطت صورة عن الإمام وسيرته وتراثه.

مقدمة / 9

ترجمَة الإمام محمّد الخضْر حسين
* الإمام - مولده ونشأته:
في واحة النخيل "نفطة" في الجنوب التونسي، وفي هذه المدينة الوادعة، الهادئة، الرائعة، والتي عرفت من قديم عصرها بـ "الكوفة الصغرى"؛ لما احتوته من علماء وأدباء وشعراء، وحتى يوم الناس هذا.
ولد الإمام محمد الخضر حسين (يوم ٢٦ رجب ١٢٩٣ هـ - ٢١ جويلية تموز ١٨٧٣ م) في عائلة علم وأدب، وشهرة وورع.
والدُه الشيخُ الحسين بن علي بن عمر (١)، المعروف والمشهود له بالتقى والصلاح والزهد.
ووالدتهُ السيدة حليمةُ السعدية بنتُ الشيخ مصطفى بن عزوز (٢).
وخاله العلامة الأجلُّ محمد المكي بن عزوز (٣).
وكلُّ من هذه الأسماء شُهُب ساطعة في سماء العلم والمعرفة، تتناقلها

(١) انظر كتاب: "زاوية علي بن عمر" لعلي الرضا الحسيني.
(٢) انظر كتاب: "زاوية مصطفى بن عزوز"، وكتاب: "أعلام زاوية مصطفى بن عزوز" لعلي الرضا الحسيني.
(٣) انظر كتاب: "محمد المكي بن عزوز - حياته وآثار" لعلي الرضا الحسيني.

مقدمة / 11

الألسن في تونس والجزائر خاصة بالثناء والإكبار والاحترام.
في هذه الدوحة الطاهرة نشأ وترعرع، وتلقى علومه في سنواته الأولى عن والدته السيدة حليمة التي عُرفت بعلمها وتقواها.
وحفظ القرآن من صغره على يد شيخه عبد الحفيظ اللموشي، كما كان لخاله العلامة محمد المكي بن عزوز الفضلُ في تعليمه وتثقيفه، والعنايةِ به عناية خاصة.
يقول الإمام في مقدمة ديوانه "خواطر الحياة": "نشأت في بلدة من بلاد الجريد يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحاتٌ تهب في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي وغيرهم مَنْ يقول الشعر، فتذوقتُ طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثامنةَ عشرةَ نظمَ الشعر".
* الإمام في مدينة تونس:
في سن الثالثةَ عشرةَ من عمره انتقلت عائلته من "نفطة" إلى مدينة "تونس" في أواخر سنة (١٣٠٦ هـ - ١٨٨٦ م). وانضم إلى (جامع الزيتونة) (١) طالبًا للعلم، وهذا هو السبب في انتقال الأسرة إلى العاصمة.
ويُعَدُّ (جامع الزيتونة) في تونس مثل (الجامع الأزهر) في القاهرة، و(جامع القرويين) في المغرب؛ من جهة تهيئة الطالب دينيًا وعلميًا وخلقيًا إلى أعلى منزلة ومرتبة يصل إليها.
ومن شيوخه في الجامع الأعظم (جامع الزيتونة): خاله الشيخ محمد

(١) وفق ما جاء في (دفتر شهادات التلامذة) أنه اتصل بصاحبه في أوائل شهر رجب سنة ١٣٠٧ هـ.

مقدمة / 12

المكي بن عزوز، ومحمد البشير الفورتي، ومحمد الشريف، ومحمد صالح الشريف، وأحمد بو خريص، ومحمد العزيز الوزير، وإسماعيل الصفايحي، وعلي الشنوفي، ومصطفى بن خليل، ومصطفى رضوان، وحسين بن حمد، ومحمد جعيط، ومحمد النجار، وأحمد بن مراد، وعمر بن الشيخ، وسالم بو حاجب، وغيرهم.
وحصل على شهادة التطويع (١) يوم الأحد ١٤ من صفر الخير عام ١٣١٦ هـ.
أما الشيوخ الذين كان لهم الأثر الأكبر في حياته - كما يقول الإمام بنفسه - فهم: خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، وسالم بوحاجب، وعمر ابن الشيخ، وقد نوَّه في كثير من مقالاته إلى هذا الأثر والفضل.
* الإمام في دمشق:
هاجرت أسرة الإمام محمد الخضر حسين إلى دمشق سنة (١٣٢٩ هـ - ١٩١١ م)، والتحق بها في (٤ شعبان ١٣٣٠ هـ - ١٨ جويلية تموز ١٩١٢ م)، ودامت رحلته (٢) مدة أربعة أشهر، وستة أيام، وعاد إلى تونس في ٢٤ نوفمبر تشرين الثاني ١٩١٢ م، وأقام فيها مدة زاول خلالها نشاطه الثقافي، ولم تطب له الإقامة مجددًا؛ لظروف عديدة، فقرر الانتقال نهائيًا إلى دمشق في شهر ديسمبر كانون الأول ١٩١٢ م، وكانت سنّه تُناهز الأربعين، وتكونت شخصيته من حيثُ العلمُ والمعرفة، وسبقته شهرته إلى دمشق، فاستُقبل بها بالتكريم والتقدير.

(١) وهي الشهادة التي تمكن حاملها من التطوع لإلقاء الدروس في جامع الزيتونة، كما تؤهله للقيام بوظائف علمية ودينية.
(٢) دوّن هذه الرحلة، وسماها: "خلاصة الرحلة الشرقية" انظر كتاب: "الرحلات".

مقدمة / 13

امتدت إقامته في دمشق من سنة ١٩١٢ إلى ١٩٢٠ م، وتمثلت هذه الفترة في حياة الإمام بكرة الترحال والتنقل في العالم العربي وبعض البلدان الأوربية.
كما نجده شعلة متوقدة من النشاط والإقبال على تحقيق رسالته التي اختطها لنفسه في خدمة الإسلام، والعمل في ميادينه الشتى التي يرتاح لها ضميره، وتطمئن بها سريرته، ويرضي بها ربه ودينه.
ومن خلال إقامته في دمشق تبرز لنا ثلاث ومضات:
أ - نشاطه العلمي الغزير، ومكانته الرفيعة لدى أهل العلم.
ب - سجنه في معتقل جمال باشا.
ج - جهاده في ألمانيا.
* الإمام ونشاطه العلمي في دمشق:
يتجسد نشاطه العلمي بالعلاقات الوثيقة مع كبار العلماء والأدباء والمفكرين، ومنهم: محمد كرد علي، ومحمد بهجة البيطار، وخليل مردم بك، وخير الدين الزركلي، وغيرهم، وعضويته في (المجمع العلمي العربي)، والتدريس في (المدرسة السلطانية)، ومحاضراته ودروسه الدينية في المسجد الأموي، والنوادي الأدبية.
يقول الإمام في رسالة له من دمشق إلى الشيخ محمد صادق النيفر بتونس: "أما سيرتنا بدمشق، فلم تتغير عن الطريقة التي كنا نسلكها في تونس، وهو أن معظم أدبائها وكبرائها يعرفوننا ونعرفهم، وبالجملة: فقد لقيتُ منهم أخلاقًا حسنة، وآدابًا مؤنسة، وفيما بلغني أنهم راضون عن سيرتنا، ومعجبون بمسلكنا في التعليم" (١).

(١) كتاب "من أوراق ومذكرات الإمام محمد الخضر حسين، رسائل الخضر".

مقدمة / 14

ومن الدلائل الباهرة التي تدل على مكانة الإمام في قلوب رجال الفكر والأدب بدمشق: أنه عندما اعتزم على الارتحال من دمشق إلى القاهرة، كتب له شاعر الشام الكبير خليل مردم بك ووزير خارجية سورية، ورئيس المجمع العلمي العربي كتابًا رقيقًا قال فيه: "سيدي! إن خير ما أثبته في سجل حياتي، وأشكر الله عليه: معرفتي إلى الأستاذ الجليل السيد محمد الخضر التونسي، فقد صحبتُ الأستاذ عدة سنين، رأيته فيها الإنسانَ العامل الذي لا تغيره الأحداث والطوارئ، فما زلت أغبط النفسَ على ظَفَرها بهذا الكنز الثمين، حتى فاجأني خبرُ رحلته عن هذه الديار، فتراءت لي حقيقة المثل: (بقدر سرور التواصل تكون حسرة التفاصل) " (١).
* الإمام في معتقل جمال باشا:
اعتُقلَ الإمام مدة ستة أشهر وأربعةَ عشرَ يومًا في شهر رمضان سنة (١٣٣٤ هـ - ١٥ أوت آب ١٩١٦ م)، وحتى الرابع من شهر ربيع الثاني ١٣٣٥ هـ، ووجهت إليه تهمة الإخلال بأمن الدولة العثمانية؛ لحضوره اجتماعًا خاض فيه المجتمِعون بسياسة الدولة، واستفتى فيه أحدُ المحامين الإمامَ عن نكث العهد من طاعتها، والخروج عليها، ودعا بعضُ الحضور إلى تأسيس جمعية للعمل على الانفصال عن الدولة العثمانية.
وبرغْمِ أن الإمام من دعاة الوحدة الإسلامية، ولا يرتضي مثلَ هذه الدعوات، إلا أن السلطة اعتبرت عدمَ إبلاغها عن الاجتماع تهمة، وأحالته إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم بالبراءة من حيث النتيجة، وقدم الاعتذار للإمام.
وكان من رفاقه في المعتقَل: الرئيس شكري القوتلي، وفارس الخوري،

(١) ديوان "خواطر الحياة" للإمام.

مقدمة / 15

وسعدي ملاَّ رئيس وزراء لبنان، وتم الاعتقال في (خان مردم بك)، وهو معتقَل رجال السياسة.
ومن أجمل شعره في المعتقل:
غَلَّ ذا الحَبْسُ يَدِي عن قَلَمٍ ... كانَ لا يَصْحُو عَنِ الطِّرْسِ فَناما
هَلْ يَذُودُ الغُمْضَ عن مُقْلَتِه ... أوْ يُلاقِي بعدَه المْوتَ الزُّؤاما
أنا لولا هِمَّةٌ تَحْدُو إلى ... خِدْمَةِ الإسلامِ آثَرْتُ الحِماما
ومن جميل شعره، ورقَّته في محاورة جرت بين الإمام والأستاذ سعدي الملا عن البداوة والحضارة:
جَرَى سَمَرٌ يومَ اعْتُقِلْنا بِفُنْدقٍ ... ضُحانا بهِ ليل، وسامِرُنا رَمْسُ
وقالَ رفيقي في شَقا الحَبْسِ: إِنَّ فِي الْـ ... ـحَضَارَةِ أُنْسًا لا يُقَاسُ به أُنْسُ
فقلتُ لهُ: فَضْلُ البَداوَةِ راجِحٌ ... وحَسْبُكَ أَنَّ البَدْوَ لَيْسَ بِهِ حَبْسُ
* الإمام في ألمانيا:
رحل إلى ألمانيا في مهمة للاجتماع بالأسرى المغاربة الذين زَجَّت بهم فرنسا في خطوط القتال الأولى، ووقعوا في الأسر ضمن معسكرات؛ ليحرضهم على القتال ضد فرنسا، ويرغبهم في الانخراط والتطوع في جيش يعدُّ لمحاربة فرنسا.
لبث في ألمانيا على مرحلتين: تسعة أشهر في عام ١٩١٧ م، وسبعة أشهر في عام ١٩١٨ م مع عدد من المجاهدين.
وخلال إقامته في ألمانيا تعلم اللغة الألمانية، ودرس علوم الكيمياء والطبيعة على البروفسور (هاردر) أحدِ المستشرقين الألمان.
في ذاك الأتون المشتعل ناضل الإمام، وجاهد من أجل المغرب،

مقدمة / 16

فأصدرت السلطة الفرنسية حكمًا عليه بالإعدام غيابيًا بتهمة تحريض المغاربة على الثورة، والانقلاب على المستعمر الفرنسي، وحجزت أملاكه في تونس - على قلتها -.
كتب "مشاهد برلين" (١) مذكراته عن تلك الحقبة، وهي مختصرة، ولم يعثر المحقق علي الرضا الحسيني على المذكرات الكاملة.
* الإمام في القاهرة:
المرحلة الثالثة في رحلة الإمام محمد الخضر حسين، وهي مرحلة الاستقرار من عام ١٩٢٠ - ١٩٥٨ م، وهذه المرحلة أطلق عليها العلامة محمد الفاضل بن عاشور "مرحلة المجد الثقافي والشهرة العلمية".
ارتقى فيها الإمام إلى أعلى مراتب العلمية:
- بدأها في عمله في التصحيح بدار الكتب المصرية.
- تشكيل الجمعيات الإسلامية والوطنية: جمعية الشبان المسلمين - جمعية الهداية الإسلامية - جمعية تعاون جاليات أفريقية الشمالية - جبهة الدفاع عن أفريقية الشمالية، وألقى المحاضرات القيمة فيها.
- تأسيس وإصدار وتحرير المجلات: "نور الإسلام" - "الهداية الإسلامية" - "لواء الإسلام".
- تصدِّيه وردوده المتعددة، ولا سيما على طه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهما، وقد أكسبته الشهرة الواسعة.
- نشاطه اللغوي في (مجمع اللغة العربية).
- تدريسه في كليات (الجامع الأزهر).

(١) كتاب "الرحلات" للإمام.

مقدمة / 17

- عضويته في هيئة كبار العلماء.
- إمامته لمشيخة الأزهر.
* الإمام المفسِّر:
حفظ الإمام محمد الخضر حسين القرآن الكريم لفظًا ومعنى منذ صغره، وكان له القدوة في علمه وتعليمه، وكثيرًا ما كان يلقي دروس التفسير ارتجالًا في رحلاته وجولاته، وفي مذكراته؛ لمجرد أن يُطلب منه تفسير آية، أو معنى كلمة، ونلمس في آثاره العلمية: استشهادَه بكتاب الله تعالى، وذكر الآيات القرآنية الكريمة التي تناسب المقام والمقال.
قام بتفسير القسم الأكبر من سورة البقرة، من الآية الأولى، وحتى الآية ١٩٥، إضافة إلى سورة الفاتحة، ونشر هذا القسم من التفسير في مجلة "لواء الإسلام"، بدءًا من العدد الأول الصادر في رمضان المبارك سنة ١٣٦٦ هـ. وتحت وطأة الشيخوخة لم يتمكن من الاستمرار في التفسير.
وفسَّر آيات كريمة من السور القرآنية في دروس دينية يلقيها في المساجد الكبرى.
يقول الإمام: "فمن واجب الكاتب في التفسير: أن يتجه إلى تمحيص الروايات، ولا يُعَوِّل إلا على ما صحَّت روايتُه، وأن يكون عارفًا بعلوم اللغة العربية، وفنون بلاغتها" (١).
وبهذا القول كان منهجه في التفسير: يمحِّص الروايات، ولا يعتمد إلا على الروايات الصحيحة، وهو- كما نعلم - من كبار علماء اللغة العربية، والعارف بفنونها، وعلى هذا المنهج مشى في كتابه "أسرار التنزيل".

(١) كتاب "بلاغة القرآن" بحث: "رأي في تفسير القرآن".

مقدمة / 18

* الإمام وعلوم القرآن:
وجَّه الإمام محمد الخضر حسين بالغَ اهتمامه وعنايته إلى القرآن الكريم، كتابِ الله الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢].
وإلى جانب ما عمله من تفسير بعض الآيات القرآنية الكريمة في كتابه "أسرار التنزيل"، فقد تصدى وردَّ على كل مَنْ حاول تحريف آياته، أو راح يهذي في تأويلها، أو يُلْحد بها.
كما تناول بلاغة القرآن وإعجازه وفصاحته في مقالاته، وأبدى رأيه في تفسير القرآن، ونقل معانيه إلى اللغات الأجنبية، أو ترجمته إلى اللغات الأخرى، وجاء كتابه "بلاغة القرآن" حجة على ضلوعه في علوم القرآن.
* الإمام والسيرة النبوية:
نعمتان عظيمتان مَّن الله تعالى بهما على عباده: القرآن الكريم، وبعثة محمد ﷺ إلى الناس كافة هاديًا ومبشرًا ونذيرًا.
والإمام محمد الخضر حسين الذي أتقن علم التفسير وعلوم القرآن، قال: "طالعْ كتبَ التاريخ، عربيةً وغيرَ عربية، وأمعنِ النظرَ في أحوال عظماء الرجال، من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم، فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقصَّ علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة، حديثًا يضاهي أو يداني ما نحدثك به عن هذا الرسول العظيم".
لم يكتب الإمام السيرة النبوية شاملة، وإنما تناول منها بحوثًا كان يلقيها في محاضرات بالمناسبات الدينية، أو مقالات في المجلات ...
له رسالة بحجم صغير بعنوان: "محمد رسول الله وخاتم النبيين"، تحدث فيها عن سيرته ﷺ بشكل كامل وموجز، وله بحوثه في نواحٍ معينة

مقدمة / 19

من سيرته ﷺ، كما له ردود يفند بها مزاعمَ الضالين والمبطِلين الذين تحدثوا عن السيرة النبوية عن غواية وإفساد وزَيْغ في العقيدة.
وفي كتابه "محمد رسول الله وخاتم النبيين" ما يعطى بيانًا عن الرسول الأعظم ﷺ.
* الإمام اللغوي:
من العلوم التي حرص الإمام محمد الخضر حسين على توجيه العناية الفائقة لها: علوم اللغة العربية وآدابها.
ولما كانت اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وجدناه قد بدأ حياته العلمية بإتقانها ودراستها، وتفوق في ميدانها تفوقًا لا حدَّ له، ورافقه هذا الإبداع بها والتميز حتى آخر حياته الجليلة.
ومن أوائل بحوثه في تونس: محاضرته "حياة اللغة العربية" (١)، وقد تناول فيها دلالة الألفاظ، وتأثير اللغة في الهيئة الاجتماعية، وأطوار اللغة، وفصاحة مفرداتها، واتساعها، وارتقاءها، وقال في مقدمتها: "فالغرض إنما هو البحث عن حال اللغة في حدِّ نفسِها من جهة أطوارها، ومحكم وضعها، واتساع نطاقها، وارتقائها مع المدنية، وما يشاكل ذلك".
وبعد هجرته إلى دمشق، وقع تعيين الإمام عضوًا عاملًا في (المجمع العلمي العربي) الذي عقد جلسته الأولى في ٣٠ جويلية تموز ١٩١٩ م، واستمر في عضوية المجمع حتى انتقاله إلى القاهرة، وبقي عضوًا مراسِلًا فيه.
وفي القاهرة صدر مرسوم بتعيين الإمام عضوًا عاملًا في (١٦ جمادى

(١) محاضرة ألقاها سنة ١٣٢٧ هـ في جمهور غفير من الأدباء وأساتيذ اللغة العربية في (الجمعية الصادقية) كبرى الجمعيات الأدبية في تونس، عندما كان مدرسًا بجامع الزيتونة - انظر كتاب: "دراسات في العربية وتاريخها".

مقدمة / 20

الثانية ١٣٥٢ هـ - ٦ تشرين الأول ١٩٣٣ م). عند أول التأسيس لمجمع فؤاد الأول للغة العربية (مجمع اللغة العربية)، وشارك في لجانه: الآداب والفنون - المعجم الوسيط - الأعلام الجغرافية - دراسة معجم المستشرق (فيشر) المتعلق بالألفاظ القرآنية ... وبحوثه اللغوية منشورة في مجلة المجمع من مقالات ومحاضرات وتعليقات، وشارك في عدة مؤتمرات لغوية.
ومن أهم عطائه اللغوي: كتابه "القياس في اللغة العربية" الذي نال به عضوية هيئة كبار العلماء بالقاهرة:
وضُمَّت لغوياتُه في كتابين: "دراسات في العربية وتاريخها"، و"دراسات في العربية".
أنشد قصائدَ مطولةً وعديدة حول مكانة اللغة العربية وآدابها، والدعوة إلى العناية بها، واعتماد الفصحى.
وبقي عضوًا بارزًا من أعضاء المجمع العاملين بجد وإخلاص حتى تاريخ وفاته.
* الإمام المصلح:
للإمام محمد الخضر حسين كتابان هامان حول الإصلاح: "الدعوة إلى الإصلاح"، و"رسائل الإصلاح".
حمل عب الدعوة إلى الإصلاح منذ مطلع حياته، واستمر في هذا السبيل القويم حتى آخر العمر المبارك ...
وقد بين: الحاجةَ إلى الدعوة، والدعوة في نظر الإسلام، والمبادرة إلى الدعوة، والتعاضد على الدعوة، ومن الذي يقوم بالدعوة، والإخلاص في الدعوة، وطرق الدعوة، وآداب الدعوة، وسياسة الدعوة، والإذن في السكوت عن الدعوة، وعلل إهمال الدعوة، وآثار السكوت عن الدعوة،

مقدمة / 21