رجعنا إلى ما كنا فيه فإذا طال ذلك على الملك شكى إلى الله طول ما يلقى فأما أن يؤيده حتى ينهزم العدو ويستولي على أنصاره ويقهر جنوده وأما أن يغضب فيلعن فإذا غضب فلا بد من إحدى أربع: أما أن يسلب المعرفة ويقفل على قلبه، وأما أن يطبع عليه، وأما أن يجعله على خلاف، وأما أن يختم عليه ومن ذلك قوله تعالى: (أم على قلوبهم أقفالها)، وقوله: (فطبع على قلوبهم)، وقوله: (وقالوا قلوبنا غلف)، وقوله: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) وأشدها الختم فإذا سلب المعرفة، كما أن البدن قالب الروح، فالبدن ناطق سامع بصير فإذا خرج الروح صم عمي وبكم، والقلب إذا خلا عن المعرفة عمي وصم وبكم، ومن ذلك قوله: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) وللقلوب موتان: موت خروج النور، وموت ضعف سلطان النور، والمعرفة كما ذكرنا، فنعوذ بالله من الخذلان ونسأل الله أن ينصرنا على عدونا نصرًا عزيزًا ويجعله ذليلًا مقهورًا كما هو محسور مدحور ويجعلنا أن نتخذه عدوًا كما هو عدو وأن نتعظ وأن نتذكر بما وعظنا ربنا وحذرنا في تنزيله فقال: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يلقون إليهم بالمودة)، وقال: (لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني)، وقال: (لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، وقال: (الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم)، وقال: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والمنكر والله يعدكم مغفرة منه)، فنسأل الله أن يجعلنا من أهل المغفرة وعدته إنه ملك كريم وإله عظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله ﷿: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا)، فالبلد النفس المطمئنة يريد الذي غلب عليها ماء الرحمة والملك بأعوانه فاستولاها، وقهر العدو والنبات الثمرات وهي الأعمال الصالحة وقوله ﷿: (والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا) فالذي خبث ما غلبها السبخة والعدو فاستولاها لا يخرج ثمراتها أي أعمالها إلا نكدًا فالقلب مستقر ماء الرحمة ومعدن النور العطف والمعرفة والنفس أرض منبتة منها ذات سباخ فيه الجوارح والأشجار وما يخرج من الجوارح من العمال الحسنة الثمرات فمتى ما كانت السبخة فيها ذائبة فيها متلاشية كانت أنهارها تجري بمياهها من المستقر إلى أشجارها ومن المستقر إلى المدينة وهي النفس سبعة أنهار على كل نهر أنهار شتى من بين صغير وكبير، قيل له: ما السباخ التي ذكرت؟ قال: نصفه في موضعه إن شاء الله، فإذا كانت أنهارها جارية صافية كانت المدينة ساكنة طيبة مطمئنة والملك عليها أميرًا فرحًا مستبشرة وأشجارها غضة طربة مونقة مزدهرة تؤتي أكلها كل حين بأمر ربها والأكل والثمرات وإذا ظهرت السباخ في أنهارها وغلبت عليها غلبت الماء وامتزجت به فإذا لم يجر الماء في أنهارها وانتشفت أشجارها تغيرت ألوانه وانقبضت وانزوت أوراقها واصفرت وتناثرت وسلبت منها الطراوة والغضاضة ولم تخرج ثمراتها إلا في كد وشدة وما أخرجت أخرجت من بين مر وحامض وحلو لغلبة السباخ عليها وامتزاجها بمياه الرحمة فذا دام ذلك وطال تكدرت المياه كلها وغارت وتلاشت وذاب سقياها من ذلك الشرب فسدت عروقها وغضت ويبست أشجارها أصلًا فلم تثمر ولم تخرج ولم تتورق فحينئذ يغضب الجليل فحظر عليها الماء وسد أفواه أنهار القلب فلم يدع أن يجري إلى المدينة ولا أن يمده فخربت المدينة بما فيها وماتت ثم سلب ماء الرحمة من القلب وقسا فمات فحزن القلب وخربت النفس ويبست الأشجار وصار كما قال تعالى: (وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن موضعه)، وقال: فإذا مات القلب وماتت النفس ويبست الأشجار أثمرت الشوك وهو الكفر والشرك وذلك أن السبخة هي أصل النفس وجوهرها وخلقتها وهي الهوى "والهوام والكفر" وذلك أنه من الهاوية فإذا نزع ماء الرحمة من مستقره وسلب أبدل مكانه الكفر فصارت الأنهار تجري بمياه الكفر وصار سقياها من مياه الكفر فإذا جرت المياه من ماء الكفر تشابكت أشجارها وأثمرت ثمرات الكفر والشرك كما قال الله: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا) . فالبلد الطيب النفس إذا كانت قد غلب عليها ماء الرحمة وأنهارها فصارت حية طيبة وصارت أشجارها طرية غضة مونقة مزدهرة، والذي خبث أي خبث بغلبة السباخ
1 / 39