الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Page inconnue
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Page inconnue
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
Page inconnue
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
Page inconnue
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
Page inconnue
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
أبو السعود
أبو السعود
تأليف
نقولا رزق الله
Page inconnue
هذا يعيش وذا يمو
ت ضنى ولم يدرك فطامه
النحس صير عزه
ذلا وكان له علامه
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا عتاب ولا ملامه
الفصل الأول
صاحب الكلب الأسود
كانت الرياح شديدة، والعاصفة تثور هابة من الغرب إلى الشرق، وقد تلبدت الغيوم في السماء واقتم بها الجو فحجب نور القمر.
وهناك رجل يوسع الخطى ويقاوم الزمهرير، وقد التف بوشاح كبير، ولبس قبعة تغطي معظم وجهه، فلا يبدو منه غير لحيته التي وخطها الشيب، وعيناه اللتان كانتا تتقدان كعيون النمورة.
Page inconnue
وكان معه كلب كبير بجانبه، وهو طويل الأذنين أسود الجلد، وله عينان تضيئان كعيني صاحبه، يوافق صاحبه، فيسير لسيره ويقف لوقوفه، وكلاهما ساكتان ينظران إلا الأفق المربد، ويهبطان من قمة عالية إلى واد ضيق.
وما زال على سيره حتى خرج من ذلك الوادي، وظهرت له عن بعد أنوار قصر فخيم، وبجانب ذلك القصر نور ضعيف كانت نسبته إلى تلك الأنوار المتألقة كنسبة شمعة الجنازة إلى أنوار المراقص.
فسار الرجل بكلبه إلى مكان ذلك النور، وفيما هو سائر رآه أحد الرعاة، فهلع قلبه من الخوف واستعاذ بالله، وحاد عن طريقه مسرعا.
أما الرجل فإنه هز كتفيه، وأسرع في سيره إلى جهة ذلك النور غير مكترث لما رآه، حتى انتهى إلى ذلك القصر الفخيم، وسمع أصوات الضحك منه، ولكنه سمع أيضا صوتا يشبه الأنين، استرعى كل سمعه.
وكان هذا الصوت خارجا من منزل حقير في حديقة القصر، وهو المنزل الذي كان يضيء فيه النور الضعيف، فتكتف الرجل، ووقف بجانب ذلك المنزل يصغي إلى ذلك الصوت.
الفصل الثاني
وقد سمع صوت امرأة تقول وهي تبكي: «أيتها العذراء الطاهرة، يا نصيرة الضعفاء وغوث الأطفال، أترضين أن يموت ولدي وليس لي سواه؟
إنه أول ثمرة من ثمرات حبنا، وإنه عزاؤنا الوحيد في أعمالنا الشاقة، فزوجي السيئ الحظ يشتغل من الفجر إلى المساء في سبيل رزقنا، وأنا لم أسئ إلى أحد بالفعل أو بالقول، حتى ولا بالضمير، وما خالفت وصية من وصايا الله.
أيتها العذراء، إننا فقيران ولا ثروة لنا إلا هذا الطفل، وهو يفضل عندنا كنوز الأرض، أتأذنين بغروب شمسه وأنت تعرفين قلوب الأمهات؟»
وكانت تستغيث هذه الاستغاثة بصوت يقطعه البكاء، وهي لا تزال في سريرها من تأثير الولادة، تعض يديها من الجزع، وتنظر إلى طفلها في مهده نظرات ملؤها الحنو والشفقة، ثم تنظر إلى زوجها وهو جاث يهز المهد، فتقول: «لقد نذرت، يا حنا نذرا، أرجو أن تتمكن من وفائه، وهو أنه إذا شفي ولدنا ذهبت وإياك حافيين لزيارة مقام السيدة.»
Page inconnue
فسالت دمعتان من عيني زوجها، وقال: سنفعل إن شاء الله. •••
كان أثاث الغرفة التي جرت فيها الحادثة يدل على الفقر، ولكنه لا يدل على الشقاء، وكانت مادلين والدة الطفل من أجمل فتيات القرية، وهي في مقتبل العمر، وكذلك كان زوجها، وقد تزوجا منذ عام، وعرف الزوج بالجد، وعرفت المرأة بالصلاح والتقوى.
وكان الزوج ينظر إلى ولده، وقد أقتم وجهه باليأس، فقالت له امرأته: أرى يا حنا أن بكاءه قد خف.
قال: هو ذاك.
قالت: عسى أن تكون العذراء رثت لي، وأصغت إلى توسلاتي، فكفى تهز سريره، واجتهد أن تسقيه الدواء عساه يشربه الآن.
قال: سأجرب ذلك.
ثم قام إلى زجاجة الدواء، فوضع شيئا منها في إناء، وسقى الطفل، فشرب دون أن يبكي، وصاحت الأم قائلة: يا لله من عجائب العذراء! فقد أصغت إلى توسلاتي!
وقال لها زوجها: نامي الآن يا مادلين، فإنك في أشد حاجة إلى الرقاد، فألقت رأسها على الوسادة مطمئنة، ولم تكد تغمض عينيها حتى استرسلت إلى سبات عميق، وبقي الأب يهز برفق سرير الطفل، وهو يحسبه من النائمين ...
وكانت العاصفة في الخارج لا تزال ثائرة، ومع ذلك فإن أصوات الضحك كانت ترتفع من القصر إلى مسامع حنا فيقول: «هنيئا للبارونة، فإنهم يحتفلون الليلة بتنصير ولدها الذي ولد ليلة مولد ابني، ولكن شتان بين حظ هذا وحظ ذاك ...»
وعند ذلك طرق الباب، فقال في نفسه: ترى من هذا الطارق، لعله الطبيب؟!
Page inconnue
وقام إلى الباب ففتحه، فدخل منه ذلك الرجل الأشيب وكلبه الأسود، فقال لحنا: لقد بلغ مني الجوع يا سيدي، وأنا شديد الظمأ والتعب، فهل لك أن تضيفني عندك هذه الليلة؟
قال: يعز علي ألا أجيبك إلى ما طلبت، ولكنك ترى غرفتي، فلا يوجد فيها غير سرير واحد تنام فيه امرأتي، وهو كل بيتي، ثم إن ولدي مشرف على الموت، وقد شغلني ما هو فيه عن إحضار طعام في هذا اليوم، فاقصد إلى هذا القصر فإن صاحبه يحتفل بتنصير ولده، وهو فاضل كريم، فعساك تنال حظا من الوليمة. فنظر الرجل وكلبه محدقين إلى الطفل في مهده، ثم قال له الرجل: ولكن الظمأ يكاد يقتلني، فهلا تغيثني بشربة ماء؟
قال: حبا وكرامة، فلا نبخل بما عندنا. وسقاه فشكره الرجل وودعه وانصرف.
جرى كل ذلك ومادلين نائمة، فلما انصرف الرجل، عاد حنا إلى الجثو بجانب سرير ولده، وتمعن به فوجده بلا حراك، فأخذ يده الصغيرة بين يديه فألفاها باردة، فوضع يده على قلبه، فوجد أنه لا ينبض، وقد ازرقت شفتاه واصفر وجهه، فوقف وقد وهنت ركبتاه، وجحظت عيناه، فإذا الولد قد مات وأمه لا تزال نائمة!
الفصل الثالث
ولنعد الآن بالقارئ الكريم إلى ذلك القصر الفخم الذي كانوا يأدبون المأدبة فيه، فقد وضعوا الطفل في مهد من الحرير الأبيض، وأرخوا فوقه ستائر وردية، وأقبل المدعوون يداعبونه بأقوالهم المختلفة، وهو يبتسم لهم كأنه يعلم أن هذه الحفلة أعدت من أجله.
وقد اجتمع المدعوون حوله في قاعة عظيمة، واقترح واحد منهم أن يدعو كل من الحاضرين دعوة للمولود الجديد، ويقول ما يتمنى أن يكون، فوافقوا على اقتراحه، ووقفت عرابته، وهي فتاة حسناء، فقالت: إني أتمنى أن يكون جميلا، ونهض فتى من الضباط وقال: وأنا أتمنى أن يكون باسلا، وقالت امرأة من العجائز: وأنا أتمنى أن يكون محبوبا، وقالت امرأة أخرى: وأنا أتمنى إذا كان محبوبا أن يكون محبا، فلا أسمج في عيوننا - نحن النساء - من فتى لا تنفذ إلى قلبه أشعة الغرام، وقالت أخرى: وأنا أتمنى له ألا يحب غير مرة واحدة، فقال عظيم من المدعوين، وكأنه يعرض بقول المرأة: وأنا أتمنى أن يكون له جواد للصيد يغيره كل عشرة أعوام، وأن يكون له كلب واحد أمين لا يغيره مدى الحياة.
وقال أبو الطفل: أتمنى أن يكون قوي الجسم سليم البنية والأعضاء، وتمنى له عمه أن يرث كثيرا من الناس، وقد تمنى له كل من الحاضرين أمنية على نسق ما تقدم، حتى إذ فرغوا تنهدت أم الطفل وقالت: إنكم تمنيتم له كل أنواع الخير ما خلا أمرا واحدا أغفلتموه، قالوا: ما هو؟
قالت: السعادة! ولكن لم يبق أحد بينكم لم يقل قوله، فيتمنى له هذه الأمنية.
فقال أحدهم: ولكننا لا نزال في أول الليل، ولا بد أن يجيئنا زائر جديد، فنقترح عليه أن يتمنى له «السعادة».
Page inconnue
ولم يكد صاحب هذا القول يتم جملته حتى قرع جرس الباب الخارجي، فصاحت الأم قائلة: قد أتى زائر جديد.
وبعد هنيهة دخل رئيس الخدم فقال لصاحب المنزل: إن بالباب يا سيدي الكونت مسافرا يلتمس الضيافة ، فأدخلته دائرة المطبخ، وأتيت أسأل سيدي إذا كان يأذن له بزجاجة خمر يشربها داعيا لابنك الفيكونت.
فقال له الكونت: لقد تسرعت، فأخطأت بإدخاله المطبخ، فأدخله في هذا المكان، فإننا في يوم عيد، أتمنى أن يشترك به معنا جميع الناس.
قال: ولكنه يا سيدي زري الملابس، ويصحبه كلب.
قال: أعطه ملابس غيرها، وليدخل مع كلبه، فإننا نتفاءل خيرا بالكلاب.
فخرج الخادم ممتثلا، وبعد هنيهة دخل الرجل وكلبه في تلك القاعة التي كانت تتلألأ بالأنوار، ووقف عند بابها، فخيل لجميع الحضور حين رأوه أن تلك الأنوار قد اصفر شعاعها، وداخل قلوبهم شيء من الرعب لم يعرفوا سببه.
الفصل الرابع
غير أن الأعجب من ذلك أن الخادم حين ذهب بالملابس الجديدة إلى ذلك المسافر وجد أن ثيابه التي كانت المياه تقطر منها قد نشفت، وأن الثقوب التي كانت في ثوبه قد سدت كأنها رفئت، فنظر المسافر إلى الخادم نظرة احتقار، وقال له: أعد هذه الثياب إلى موضعها، فإن ملابسي تفضل ملابس مولاك، ثم تركه وذهب إلى القاعة التي كانوا ينتظرونه فيها.
فلما رآه صاحب المنزل نهض لاستقباله، وقال له: أهلا بك من قادم يا سيدي أيا كنت.
قال: إني رجل فاجأتني العاصفة في الطريق، فلم أجد فندقا أأوي إليه، وقد رأيت أنواركم المتألقة، وسمعت صوت ضحككم، فعلمت أنكم في حفلة أنس، ففكرت في التطفل عليكم كي أأمن شر العاصفة، فقال صاحب المنزل: حسنا فعلت، وقد أتيت على الرحب والسعة، فإن أبواب منزلي مفتوحة للأضياف.
Page inconnue
فلبث الرجل واقفا على العتبة، وجعل ينظر إلى المقصف (مائدة الطعام والشراب) والناس من حوله، فقال: أرى أنكم في وليمة، وما أخطأت فراستي بهذه الأنوار.
قال صاحب المنزل: هو ذاك، فإننا نحتفل بتنصير ولدي، وليس له من العمر غير بضعة أيام، فتعال واشرب نخبه معنا.
فخلع الرجل وشاحه ودخل، فتبعه الكلب، وذهب توا إلى حيث كان مهد الطفل، وجلس صاحب الكلب على كرسي مع المدعوين.
وقد أجفلت والدة الطفل لدنو الكلب من مهد طفلها، وانتهرته، فحول نظره عنه إليها ، وشغل الحضور عن ذلك بالزائر الجديد، فقد كان له تأثير عظيم فيهم، فكانوا يضطربون حين ينظر إليهم، ولا يطمئنون إلا حين ينصرف نظره عنهم إلى مائدة الطعام.
وكانوا كلهم على وتيرة واحدة في اضطرابهم، لا يجسرون على مبادأته بحديث، ما خلا والدة الكونت صاحب المنزل، فإنها نظرت إليه وقالت له: لقد كنا نبحث قبل قدومك يا حضرة الضيف بشأن مولودنا الجديد أبحاثا ذكرتني بالكونت كاليوسترو، فقد عرفته في عهد شبابي، قال الزائر: وأنا كذلك يا حضرة الكونتس، فعجبت الكونتيس لقوله، وقالت له: كيف ذلك، وكم لك من العمر؟
فلم يجبها الرجل على سؤالها، وقال: لقد علمت بما كنتم تتحدثون به، فقد تمنى كل منكم أمنية للطفل حسبما أوحى إليه قلبه، قالت: هو ذاك، ولكن فاتنا أن نتمنى له أمنية لا بد منها.
قال: نعم، فقد نسيتم أن تتمنوا له السعادة.
فوقف الجميع منذهلين لما سمعوه! وقال واحد منهم: ما هذا الذي يبدو منك يا سيدي؟! لعلك من السحرة؟
قال الزائر: في بعض الأحيان، وعند اللزوم.
وقالت له الكونتيس: أحق أنك ساحر؟!
Page inconnue
قال: نعم يا سيدتي.
قالت: إذا كان الأمر كذلك، فستكشف لنا أسرار المستقبل، فقد ألفت ذلك في صباي في بلاط لويس الخامس عشر، فإن الملكة كانت تأتي بكثير من المتكهنين، وأذكر أن واحدا منهم تنبأ لها عن الثورة فصدقت نبوءته، وقد كنت أحسب أن عهد السحر قد انقضى، فإن فتيات هذا العصر باتوا يعدونه من الخرافات، فلو ذكر الكونت كاليوسترو أمام ولدي الآن لهزأ به وبسحره.
قال الزائر: لست يا سيدتي ساحرا بالمعنى الذي يفهمه الناس عن السحر والسحراء، ولكنني أتنبأ عن الحوادث المستقبلة.
قالت: وإن السحرة اليوم يتنبئون عن المستقبل؟!
أجاب: نعم، غير أن الفرق بيني وبين هؤلاء الذين يكشفون البخت أنهم إذا سألهم سائل عن مستقبله لا ينبئونه إلا بمستقبل سعيد طمعا بالمكافأة.
قالت: وأنت؟ ألعلك تنذر بالشقاء؟
أجاب: على الأغلب الأعم يا سيدتي، فإني ما نظرت إلى هذا المستقبل إلا رأيت جوه مكفهرا ملبدا بالغيوم السوداء ؛ ولذلك أمتنع عادة عن إجابة السائلين.
قالت: أما أنا فإني جريئة، ورجائي أن تكشف لنا الحجاب عن هذا المستقبل الخفي كيفما كان.
قال: أية فائدة من هذا يا سيدتي؟
أجابت: لقد صدقت، فلا فائدة لي من ذلك؛ لأني في أواخر أيامي، ولكني أرجوك أن تتنبأ لنا عن مستقبل هذا الطفل النائم في مهده.
Page inconnue
فرعبت أم الطفل وقالت: كلا!
فقالت لها حماتها: لا ترعبي يا ابنتي، فإنه سيقول خير الأقوال عن ولدك، فهز الساحر رأسه.
فقالت له الكونتيس: هل تريد يا سيدي أن نأتيك بورق اللعب كما كان يفعل الكونت كاليوسترو؟
أجاب: كلا، فإني أكتفي بأن أرى خطوط الكف، فأعرف الطالع ...
قالت: إذن انظر في كفه.
فساد السكوت التام بين الجميع، حتى إنه لو طارت ذبابة لسمع حفيف أجنحتها، وعاد الساحر إلى الحديث فقال: أية فائدة يا سيدتي؟ ألم أقل لك إني لا أرى في جو المستقبل غير العواصف؟
فقال له والد الطفل: لا بأس يا سيدي، ما زالت أمي تلح عليك، وفي كل حال فإني أرجو ألا تجد في كف ولدي إلا ما يدل على الخير مراعاة لحق الضيافة ولما نحن فيه.
أجاب: هذا الذي أتمناه ... ثم نهض وذهب إلى مهد الطفل النائم، فأحدقت به الأبصار كالنطاق، وهو يفحص كفه فحصا دقيقا، ثم قال: إن خطوط الكف لم تتكامل بعد.
فقالت له الكونتيس: إذن لا تستطيع أن تعلم شيئا؟
أجاب: هو ذاك، غير أني رأيت أمرا جليا.
Page inconnue
قالت: ما هو؟
أجاب: إنه سيكون لولدكم قوة إرادة لا تغلب.
قالت: إنها كل النجاح في هذا الوجود، ولكن هل تكون له سعادة؟ فأطرق الرجل هنيهة ثم قال: «إن الإرادة تنوب أحيانا مناب السعادة، وتتغلب على الشقاء ...»
وقد قال هذا القول، وقام إلى النافذة، فأطل منها، ثم عاد فقال: لقد سكنت العاصفة، وخمدت البروق، وصفا أديم السماء، فأستأذن بالانصراف، واقبلوا امتناني لهذه الضيافة التي لا أنساها ما حييت.
فقال له الكونت: كلا، إني لا أدعك تنصرف قبل أن تشرب نخب سعادة ابني ...
قال : يعز علي أني لا أستطيع الشرب، وفوق ذلك فخير لكم ألا أشارككم في شرابكم، فإني شؤم على من أنادمهم. وقد تركهم ومضى دون أن يخطر لأحد أن يستوقفه، فتبعه كلبه.
فقالت الكونتيس بعد انصرافه: لقد خيل لي حين رأيت هذا الرجل؛ أني رأيت الكونت كاليوسترو، فقد عرفته كثيرا، وقالت إحدى السيدات: أما أنا فقد خفته كثيرا.
وقالت أم الطفل: أما أنا فقد أثرت في نظراته ونظرات كلبه تأثيرا عظيما، حتى إنها كادت تنومني. •••
وبعد ذلك ببضع ساعات تفرق الناس، وأطفئت أنوار القصر، ونقلوا مهد الطفل إلى غرفة أمه، وقد نامت الأم نوما عميقا لتأثرها بنظرات الساحر، ولم تكد تستغرق في رقادها حتى فتح باب تلك الغرفة، ودخل منه رجل، فمشى إلى مهد الطفل مشية اللصوص.
الفصل الخامس
Page inconnue
كان هذا الرجل - ولا شك - من الذين ألفوا الدخول في هذا المنزل، وإلا لما تمكن من الوصول إلى هذه الغرفة لكثرة الخدم ولانتشار الكلاب في الحديقة، وكان قد دخل من الحديقة إلى الردهة الكبرى، وصعد السلم، فانتهى منه إلى قاعة المائدة التي كانت تتألق فيها الأنوار في أول الليل، فوقف عند عتبتها مترددا، وقد جمد الدم في عروقه وأصيب بدوار.
غير أن هذا الدوار لم يطل، فمشى إلى قصده وهو يقول في نفسه: إن لهم من ثروتهم عزاء!
وكان قد ستر تحت وشاحه جسما لم يظهر للعيون، وجعل يدخل من قاعة إلى قاعة كأنه من أهل المنزل.
حتى إذا وصل الغرفة التي كان فيها الغلام وأمه عاد إلى ما كان عليه من التردد، ثم مشى خطوة وأردفها بأخرى إلى أن انتهى إلى مهد الطفل، وهناك رأى الأم نائمة في سريرها، وقد برزت يدها من تحت الدثار، وامتدت إلى جهة طفلها كأنها تريد أن تحرسه وهي نائمة.
وعند ذلك أخرج الرجل هذا الجسم الذي كان تحت وشاحه، فإذا به جسم طفل ميت، وقد حمله فوضعه في مهد الطفل الحي، وأخرج الحي من مهده بملء الرفق، فلم يستيقظ من رقاده، وخرج به من تلك الغرفة ، فسار في الطريق التي جاء منها حتى وصل الحديقة، وكان الليل مشتد الحلك، غير أن الفجر قد بدأ ينبثق كأنه يراقب ذلك اللص ويقول له: اتق الله في سرقة الطفل!
وفيما هو يسير رأى عينين تبرقان، فوجف قلبه من الرعب، وحدق إلى العينين، فعلم أنهما عينا الكلب الأسود؛ كلب ذلك الرجل الغريب الذي حسبوه ساحرا في القصر.
عند ذلك خاف وخطر له أن يرجع الطفل إلى أمه، لكن الكلب ابتعد عنه وتوارى عن نظره، فتشجع واستمر في سيره وهو يضم الطفل إلى صدره ويقول في نفسه: مهما يكن من الأمر، فإني أنقذ امرأتي من الموت؛ لأنها إذا علمت بموت ولدها تموت لا محالة.
ومشى في الحديقة حتى قرب من منزله، وهناك جمد في مكانه من الرعب؛ إذ رأى رجلا جالسا على حجر، وكان هذا الرجل صاحب الكلب الأسود الذي دخل بيته في أول الليل وسقاه ...
وكان ينظر إليه نظرات لا تشبه في شيء نظرات البشر، فهلع قلب حنا من الخوف، واستعاذ بالله وقد أطبق عينيه، فلما فتحهما لم يجد الرجل ولا كلبه، ودخل إلى بيته، فوضع ابن سيده الكونت في مكان ولده الميت ...
وفي صباح اليوم التالي صحا الطفل وهو يبكي، فحمله حنا إلى امرأته، فأرضعته وهي تحسبه ابنها، وشكرت الله والعذراء وغيرهما لشفائه من مرضه، ثم أخذت تداعبه وتلاعبه، وقد حانت منها التفاتة إلى زوجها، فرأته جالسا في زاوية الغرفة يبكي، فاضطربت وقالت له: ما هذا البكاء يا حنا؟
Page inconnue
قال: إننا نفرح وأسيادنا يبكون.
قالت: ماذا تعني؟!
أجاب: إن ابن الكونت مات في هذه الليلة.
ثم وضع رأسه بين يديه، وجعل يبكي ويقول في نفسه: ويح لنفسي مما جنيت! ويا ويلتاه! فسيعاقبني الله أشد عقاب!
الفصل السادس
ذكرى بهلوان
كان الاجتماع في قاعة فخمة في باريس عند مغنية نالت شهرة عظيمة في عهد قريب، بل إنها نالتها فجأة، فدهش الباريسيون لأمرها، ولم يعلموا من أين جاءتهم، كأنها هبطت إليهم من السماء، فكان بعضهم يقولون إنها إيطالية، ويؤكد آخرون أنها إسبانية، والحقيقة أنه لم يكن يعلم حقيقة أمرها أحد ...
وكانت هذه الفتاة قد أعدت في منزلها حفلة راقصة، وانتهت الحفلة، وتفرق المدعوون، فلم يبق منهم غير الأخصاء، وكانت هذه الممثلة - واسمها باكيتا - تحادثهم، فكان آخر خطابها قولها: «هذه هي حالتي أيتها السيدات والسادة، فقد كنت بهلوانة، أرقص على الحبل براتب لا يتجاوز فرنكين في اليوم قبل أن صرت مغنية في المراسح، وراتبي مائة ألف فرنك في العام!»
فصاح الرجال قائلين: هذا محال ... وقال النساء: إذن كم يبلغ عمرك؟
أجابت: خمسة وعشرين عاما، فقد بدأت بالرقص على الحبل، والغناء عند أبواب الحانات في التاسعة من عمري، إلى أن أتيح لي أن أتعلم فن الغناء على قواعده، فبلغت هذا المبلغ.
Page inconnue
وكان بين الحضور رجل من الصحافيين فقال لها: لقد أصبح الناس عندنا يترنمون باسمك يا «باكيتا المقدسة»، ولو عملت برأيي، ونشرت مذكراتك تباعا في جريدتي ...
فقاطعته الفتاة بابتسامة تشف عن السويداء وقالت: أية فائدة من نشر مذكراتي، وحوادثي لا تختلف كثيرا عن حوادث سواد الناس المألوفة؟! فقد شقيت، وأحببت، وجعت وبردت، ورجوت ويئست، وفرحت وحزنت، وليس في كل ذلك ما يثير لجدته، ولكن إذا شئتم ذكرت لكم مقدمة عن أيام حداثتي ... فهتف الصحافي لها، وأخرج من جيبه دفتر مذكراته؛ كي يكتب ما يروقه من حوادثها.
وقد التف الناس حولها شبه دائرة، ولم يخرج عن هذه الدائرة غير فتى في مقتبل الشباب يدعى چوفر، كان منزويا في القاعة يسمع الحديث ولا يشترك مع المتحدثين.
أما باكيتا فإنها قالت لهم: إني سأبدأ حديثي، فأروي لكم حكاية فتى يلقب بالسيئ البخت. فقال الصحافي: من هو هذا الفتى يا سيدتي؟ قالت: سوف تعلم، فاسمع!
لقد تقدم لي القول أني كنت أشتغل بهلوانة في أحد الأجواق المتنقلة، وقد سافرت مرة مع هذا الجوق إلى الرين، ولم يكن لي من العمر غير اثنتي عشرة سنة، فكنا إذا أعيانا التعب جلسنا للاستراحة في الحقول التي كنا نمر بها، فتشتغل امرأة صاحب الجوق بإعداد الطعام، ويربط زوجها حبلا بين شجرتين ، فيمرنني على الرقص عليه، وكان هذا الرجل كريم الأخلاق، وجدني طفلة فرباني، وعلمني صناعته حتى أصبحت عماد جوقه، وكان يدعى كوكليش، فكان يدعوني ابنته وأنا أدعوه أبي، وكذلك امرأته؛ فقد كانت تحسن إلي كثيرا.
وقد غابت الشمس يوما ونحن في الطريق، فلقينا غلاما صغيرا عائدا إلى القرية من الحقول فاستوقفناه، وسألناه إذا كانت القرية لا تزال بعيدة، فقال: إنها تبعد مرحلة أيضا - فركة كعب - وذلك يعني عشر مراحل في اصطلاح القرويين. قلنا: ألا يوجد منزل قريب أو مزرعة قبل القرية؟ قال: نعم، فإن منزل أبي يبعد ربع ساعة، وهو وراء هذه القمة.
فابتسمت له وسألته قائلة: هل لك أن تذهب بنا إلى منزل أبيك؟ فظهرت عليه علائم الخوف الشديد وقال: كلا!
فوضعت يدي على رأسه وعبثت بشعره وقلت: لماذا؟
قال: لأنه يضربك إذا ذهبت إليه، كما يضربني لأني أخذتك إلى منزله.
فأشفقت عليه، وجعلت أتمعن في وجهه الجميل، فرأيت في جبينه أثر جرح، فقلت له: من أين هذا الجرح؟ أجاب: لقد سقطت من فوق شجرة عالية أمس.
Page inconnue
قلت: ولماذا يضربك أبوك، لعله شرير؟ فعاوده الرعب وقال: احذري يا سيدتي أن تذهبي إليه، فقد قلت لك إنه يضربك.
فسأله كوكليش قائلا: ماذا يشتغل أبوك يا بني؟ قال: إنه يعمل في الأرض، قال: وهل المواشي التي يحرث بها الأرض ملكا له؟ أجاب: كلا! بل هي لصاحب المزرعة، وأنا أشتغل عنده مع أبي.
قال: هل يضربك صاحب المزرعة أيضا؟
أجاب: كلا، ولكن أبي يضربني دائما أبدا وبقسوة.
فاشتدت شفقتي عليه، وقلت له: ألا تدافع عنك أمك؟!
قال: إن أمي ماتت، ثم أخي يبكي، فجعلنا نلاطفه حتى انقطع عن البكاء.
فسأله كوكليش: أين هي المزرعة يا بني؟ أجاب: إنها تبعد قليلا عن بيت أبي. قال: أتريد أن ترشدنا إليها؟
أجاب: بكل سرور فإني ذاهب إليها. وأخذ يركض أمامنا، وأنا أركض في أثره، فأعجبت به كل الإعجاب.
وفيما هو يقمز قمزات الغزلان عثرت رجله، فوقع على الأرض منبطحا، وسال الدم من جرحه القديم، فصحت صيحة ذعر، وأخذت أبكي لما أصابه، ولكنه ابتسم لي وقال: لا تبكي يا سيدتي، فليس هذا بشيء بالقياس إلى ما يصيبني كل يوم، ولم يلقبني أهل القرية عبثا بالسيئ البخت أحيانا، وبالمنحوس أحيانا.
الفصل السابع
Page inconnue
وعند ذلك صاح الصحافي قائلا: لقد أحسنت يا باكيتا، فإنك تقصين علينا أحسن القصص.
قالت: إن خير القصص ما كان حقيقة كهذه الرواية، ثم عادت إلى إتمام حديثها، فقالت: وما زلنا نسير حتى تجاوزنا منزل أبيه فسكن رعبه، وعدت إلى محادثته فقلت له: لماذا لقبك أهل القرية بالمنحوس؟
قال: لأني منكود الطالع منذ خلقت، فقد ماتت أمي وأنا لا أزال طفلا، وأبي يضربني في كل حين، وما تسلقت شجرة إلا وسقطت عنها، وما وثبت من فوق حفرة إلا وقعت فيها؛ مع أني أمهر أترابي في الوثوب، ولكني منكود الطالع - كما قلت لك - وكل ذلك بسبب «صاحب الكلب الأسود.»
قلت: من هو صاحب الكلب الأسود؟
قال: هو رجل رآني يوم مولدي، فكتب لي الشقاء في هذه الدنيا، وهذا الذي يقوله أبي حين يكون غاضبا، وكذلك أهل القرية، فلا حديث لهم إلا عن صاحب الكلب الأسود.
وقد لبث الغلام يحدثني بهذه الأحاديث البسيطة إلى أن وصلنا إلى منزل خولي المزرعة، فأحسن الرجل استقبالنا، وأعد لنا فرشا من القش وذبح لنا أوزة، وبعد الطعام أخذنا نتحدث عن الغلام.
فتنهد الخولي مظهرا تأسفه عليه، وقال: من أعظم مصائب هذا المنحوس أن أباه لا يحبه، ولو لم يلجأ إلينا لما بقي إلى الآن في قيد الحياة. قلنا: لماذا؟
قال: إن لهذا الرجل حكاية غريبة لا تحتمل التصديق، ولكنه مختل العقل بدليل أنه أقام في مستشفى الأمراض العقلية مدة عامين، فلما خرج منه كان صوابه قد رجع إليه، ولكن نوبات الجنون كانت تعاوده أيضا، ومع ذلك فقد لبث هادئا ساكتا إلى أن ماتت امرأته، وكان اسمها مادلين، فظهر كرهه لولده، وجعل يقول: إنه ليس بولده بل هو ابن الكونت، فذهلنا لما سمعناه وقلنا: كيف ذلك؟
قال: إن حنا - والد هذا الغلام - وامرأته مادلين كانا بستانيين في حديقة الكونت، وقد ولدت الكونتيس ومادلين غلامين في يوم واحد، ففي ليلة العماد مات ابن الكونت، فاشتد وقع ذلك على حنا، وفي الليلة التالية احترق قصر الكونت، فأصيب حنا على أثر هذه الحوادث بالجنون، ونقل إلى المستشفى، وبعد أن خرج منه جعل يروي حكاية غريبة محصلها أن ابن الكونت لا يزال حيا، وأن ولده هو الذي مات، فاستبدله بولد الكونت الحي؛ كي لا يقتل الحزن زوجته مادلين. ولم يثق أحد بهذه الرواية بالطبع؛ لأن الرجل كان مجنونا ...
وكان الكونت قد باع قصره والأرض الملحقة به بعد نكبته، وسافر إلى باريس. فاشتدت نكبة حنا وامرأته؛ إذ لم يعد لهما عمل يرتزقان منه، ومرضت مادلين مرضا مبرحا أفضى إلى موتها، فبدأ كره حنا لولده من ذلك اليوم لاعتقاده أنه سبب كل مصائبه، وجعل يضربه دون رحمة كلما التقى به، إلى أن هرب يوما من عنده ولجأ إلينا فآويناه، ومع ذلك فهو يصاب كل يوم بأشد ما يصاب به الإحداث حتى لقبه الناس بالسيئ البخت، مع أنه يدعى ضد لقبه أي «فليكس» ومعناه «السعيد».
Page inconnue