98

Abou Nouwas

أبو نواس: الحسن بن هانئ

Genres

ولم تكن هذه الثورة يومئذ إلا إلى عودة، ولم تقمع بعد عودتها إلى أن حشد المأمون جيوشه بقيادته، ولم يعتمد في قيادتها على أحد من ولاته.

والذين زاملوا أبا نواس في هذا العصر كثيرون، منهم الشعراء والأدباء، ومنهم الظرفاء والندماء، ومنهم العلماء والحكماء، ولكن أحدا منهم لم يبتل بمحنة العصر كما ابتلي بها؛ وليس ذلك لأنه كان مستعدا للإباحة بتكوينه وتربيته وحسب؛ بل لأنه عاش في قلب التقلبات ولم يكن أثرها فيه مقصورا على المعية في الزمن، فأبوه كان من جند بني أمية وضاع رزقه في الجيش الأموي بقيام الدولة الجديدة، وأمه من الأهواز حومة القتال بين كل خصم وكل خصم ينازعه، ومن جراء هذه المنازعات، وحرمان زوجها الرزق الرتيب هاجرت من موطن قومها إلى البصرة، وهذه البصرة كانت حومة أخرى للدعوة السياسية جهرا وسرا وبالإقناع والإرهاب، فلما آن لوليد هذين الأبوين أن يفهم ويعقل فهم أن الدنيا كلها نفاق وشقاق، ولم يعقل من أحداثها وخلائقها إلا أنها إباحة ورياء.

العصر الثقافي

وتصطلح على الفتى محنة العصر الثقافي، ومحنة العصر السياسي في ضربة واحدة، فقد كانت مدن العراق يومئذ ملتقى كل ملة ومجتمع كل نحلة، وكان يغشى البصرة والكوفة مجوس وزنادقة، كما يغشاها أهل الهند والصين على اختلاف عاداتهم وشعائرهم، ومطالبهم في أوقات جدهم ولهوهم، وكان من حوله مشتجر المذاهب حتى في النحو والفقه بل في الفلسفة وعلوم الكلام، وما يجاورها أحيانا من حذلقة المتعالمين ودعاوى المتظرفين. وتعدى اللغط بالخلاف والجدال في هذه المسائل طائفة المتأدبين والمتحذلقين إلى سواد الناس ممن يطلع في الكتب الغريبة، أو يطلع في الكتب المأثورة، أو لا يطلع على هذه ولا تلك، ولا يرجع في اعتقاده إلى اطلاع.

فالإباحية التي نادى بها بابك الخرمي في السنة الأولى من القرن الثالث للهجرة لم تفاجئ العراق ولا جيرتها من البلاد الفارسية، ولكنها كانت نحلة يدين بها ألوف من العامة وسواد الناس في شمال العراق، ويتفلسف بها المتحذلقون من المتظرفين؛ ليجعلوا لها محلا من الفكر والطبيعة كأنها تبالي الحلال والحرام، وهي في جوهرها تستبيح كل محظور، وقد هزم «بابك الخرمي» جيشا بعد جيش من أقوى الجيوش العباسية، ولم يهزم قائد المعتصم الجبار إبراهيم بن مصعب جموع الخرميين إلا بعد أن قتل منهم ستين ألفا وشتت أكثرهم، فلبثوا في انتظار الفرصة إلى حين، ثم أغار عليهم جباره الآخر حيدر بن كاوس الإفشيني، فطاولهم وطاولوه حتى ظفر بزعيمهم، وساقه مع أهله أسارى إلى بغداد.

ولم يقض أبو نواس سنة واحدة بعد خروجه من البصرة والكوفة إلا حيث ينغمس كما أسلفنا في «قلب التقلبات»، ولا يلامسها ملامسة «المعية» في الزمن وحسب، فلما طلعت بوادر الثورة في مصر كان هو ضيف الخصيب ونديمه، ولما استفحلت الثورة في عاصمة الدولة كان هو ضيف الأمين ونديمه، ولما أقصاه الأمين عنه حذرا من وصمته كان ذو الرئاستين - داعية المأمون - يصف القوم جميعا فيقول: إنهم «أهل فسق وفجور وخمور وماخور.»

بل كان رهط الزندقة قاطبة يقيم حيث أقام أبو نواس.

ومن آفات الإباحة في العصر الثقافي ما يصيب أبا نواس وأضرابه خاصة، فيغريهم بالإباحة حيث لا يغرى بها كل نابت في ذلك العصر، أو مطلع على مذاهبه الثقافية.

فالهوس بالإباحة - احتجاجا على نفاق العلية وأرباب المقامات - إنما يعتري أبا نواس وأضرابه؛ لأنهم يرشحون أنفسهم بحكم ثقافتهم لأرفع المناصب وأشرف المجالس وأوجه المراسم، فهم أكفاء أهلها بالثقافة والدراية، أو أرجح منهم كفاءة وكفاية، ولكنهم يصدون عنها ويرون من أهلها الاحتجاز عنهم، والاعتزاز عليهم بسمتهم ومهابتهم، فلا يلعجهم شيء كما يلعجهم الولع بهتك ذلك الحجاز، وتلويث ذلك السمت واستباحة ذلك الذمار.

فلا يعاني الوضيع الجاهل مثل هذا الدافع العنيف إلى استباحة الوقار الذي يتدثر به سادة المجتمع، ولا يعاني الوجيه العالم دافعا مثله؛ لأن وقار المجتمع وقاره، وسيادة العرف سيادته. وإنما يعانيه أشد المعاناة وضيع يتسامى إلى الوجاهة بحقها، ولا يزال مذودا عنها، منظورا إليه بين أهلها من عل وإن ضارعهم في مراتبها ومراسمها.

Page inconnue