غر الشباب ولا من يجهل الأدبا
ولا الأراذل إلا من يوقرني
من السقاة، ولكن أسقني العربا
وهكذا راح أبو نواس يفخر اليوم بما ازدراه أمس، ويمدح لهذه المناسبة أو تلك ما ذمه لمناسبة أخرى، ويلهج بهذه المفاخرات والمهاترات في مطالع القصائد؛ لينعي على العرب طلولهم وبواديهم ويؤثر عليها التغني بالمدامة والمنادمة، أو يلهج بها في المدائح ليقدح في كل نسب غير نسب الممدوح، أو في الأهاجي ليعيب من يقصده بالهجاء، وكانت هذه النغمة هجيراه لا يكاد يسكت عنها في باب من أبواب المعصية.
ومن اللغو أن تؤخذ هذه المهاترات مأخذ الدعاوى الجدية التي يحققها مدعيها، ويعول على تحقيقها، فإن المرء لا يلهج هذا اللهج بشيء إلا أن يكون له مساس بهوى دفين يغريه باللغط فيه على غير مشيئته، والمساس بالهوى الدفين هو الذي يسميه العصريون بالعقدة النفسية، وها هنا عقدة نفسية على متناول اليد لا تعنت السائل عنها من قريب، ولا تلجئه إلى سر غير مكشوف.
فليس في نفس النرجسي عقد آلم لها من تلك التي تمسها في فتنتها بذاتها، وتمسها من ثم في شهوة العرض والمعارضة، ونزوة التحدي والاستثارة.
ومشكلة النسب تمس أبا نواس في هذه وتلك، أي أنها تمس فتنته بذاته، وشهوة العرض والمعارضة في دخيلة طبعه.
فليس أثقل على الفتى المغمور النسب في أبويه معا من المفاخرات، التي تتعالى بها الأصوات من حوله، ولا يسمع له بينها صوت.
وقد كان العصر عصر المفاخرة بين الشعوبيين والعرب أجمعين، وكان عصر المفاخرة بين القحطانيين والعدنانيين، وكان عصر المناجزة والمعاجزة بين العلويين والعباسيين، ولم يكن أبو نواس قصير اللسان منزويا عن الناس فيسكت وينزوي، ولم يكن صغيرا عند نفسه فيعترف عليها بالصغر والمهانة.
ونخالها العقدة الوحيدة التي شقيت بها نفس أبي نواس؛ لأن العقد النفسية لا تعيش في دخائل الإباحيين، إذ كانت العقدة بطبيعتها كبتا وكتمانا، وكانت الإباحية مجاهرة بما يكبته الناس ويكتمونه، ولكن مشكلة النسب شيء لا يباح به ولا يكشف إلا على المغالطة والتحدي، وهذا ما فعله أبو نواس.
Page inconnue