وظلت نائمة حتى استيقظت على ضوضاء الخدم عند الغروب، ففتحت عينيها وهي تحسب نفسها في الصباح، فنهضت فرأت ريحانة جالسة بجانب فراشها، فمسحت عينيها وتلفتت حولها فانتبهت إلى الوقت ساعة الغروب، فلما رأت ريحانة قالت لها: «لقد أبطأت وغلب علي النوم.»
قالت: «تخلفت عنك لتستوعبي سرك، ثم جئت فرأيتك نائمة.»
فقالت جلنار: «ما هذه الضوضاء التي أسمعها؟»
قالت ريحانة: «إن الضيوف في القاعة مع مولاى الدهقان، والخدم في خدمتهم.»
فلما سمعت ذلك أجفلت وأحست بميل شديد إلى رؤية أبي مسلم، وأدركت ريحانة غرضها فقالت: «إن مولاي الدهقان سألني عنك، فأخبرته أنك نائمة، فهل تريدين الذهاب إلى القاعة؟»
قالت: «وماذا يفعلون هناك؟»
قالت ريحانة: «أظنهم جاءوا للوداع، وهم على أهبة السفر في صباح الغد.»
فوقفت ودنت من المرآة المعلقة بالحائط لتصلح من شأنها، ولم تصبر على ريحانة لتصلحها، فأسرعت هذه إلى المشط فسرحت شعرها وضفرته، وأتتها بزجاجة الطيب فتطيبت، ولبست ثوبا سماوي اللون، والتفت بشال موشى بالحرير وهي تضطرب من التأثر، وترتعد رعدة الحب، وتتظاهر بأنها إنما ترتعد من البرد، فجاءتها ريحانة بمطرف من الخز التفت به فغطى معظم ثيابها.
ومشت ريحانة بين يديها حتى دخلت القاعة من بابها السري وتنحت ريحانة، وأشرفت جلنار على الجلوس بحيث تراهم ولا يرونها، فرأت والدها جالسا على وسادة في صدر القاعة وبين يديه محجن فيه مسك، وهو يتشاغل بتفتيت المسك بين أنامله، وقد فاحت رائحته حتى تضوع المكان بها، ورأت أبا مسلم جالسا وقد بدل ثياب السفر التي رأته بها بالأمس، فجعل على رأسه قلنسوة من خز أسود، وفوق ملابسه قباء أسود، فتذكرت ما سمعته عن الشعار الأسود الخاص بأصحاب هذه الدعوة، ورأت خالدا بجانب أبي مسلم بمثل لباسه، وقد جلسا على وسادتين مثنيتين دلالة على علو منزلتهما عند صاحب الضيافة، فوقفت هنيهة وهي لا تمتلك نفسها من الرعدة، فانتبه لها والدها، فناداها وأشار إليها أن تجلس إلى بعض الأساطين، فجلست ولم تتكلم، ولكنها كانت متوجهة بكل جوارحها نحو أبي مسلم لترى ما يبدو منه بعد ما سمعته عنه، فلحظت منه التفاتا لم تعهده من قبل، فانشرح صدرها. وكانوا قد أخذوا بأطراف الحديث قبل وصولها، فخاطبهم والدها بالفارسية قائلا: «أراكم مسرعين في الرحيل عنا! لعلكم لم ترتاحوا إلى ضيافتنا!»
فقال أبو مسلم: «كلا يا حضرة الدهقان، بل نحن لا ننسى حسن وفادتكم، ونتمنى أن يكون سائر الدهاقين مثلكم.»
Page inconnue