قال صالح: «أرى أن تنتقل إلى المدائن؛ لتوسطها بين البلدين، ولأنها المدينة التي هزم فيها الفرس في أول الإسلام، وسيهزم فيها هذا الفارسي أيضا، بإذن الله.»
فأعجب المنصور بهذا التعليل وتفاءل به وقال: «سأفعل. ومتى عدت وافني إلى هناك.»
ثم ندم المنصور على الإذن بذهاب الزاهد لئلا يفلت منه ثم لا يراه، أو أنه يطلب الفرار خلسة، فقال: «ولكنك كفيف البصر، فينبغي أن أرسل معك من يتولى خدمتك في الطريق.» فلم يسع صالحا إلا القبول، وأخذ في التأهب، فخرج المنصور من عنده، وأمر الحاجب أن يعد له فرسا ويرسل معه رجلين من الخدم يكونان في ركابه حتى يعود.
الفصل السادس والسبعون
من القلب إلى القلب
وكان صالح ينوي الذهاب إلى جلنار؛ ليطمئنها وينصحها بالبقاء في الدير ريثما تهدأ الأحوال؛ لأنه تذكر قلقها ورغبتها في مرافقته، حتى إنها هددته إذا أبطأ عليها أن تلحق به كأن قلبها قد دلها على أن أبا مسلم قد بدأ يحبها، فأحست بما يجتذبها نحوه. وهذا هو الذي يخشاه صالح على نفسه؛ لأنها إذا أتت إلى دار الخلافة وعلم بها خالد أو إبراهيم أخبروها برسالة أبي مسلم، فتسعى في إنقاذه، فإذا نجحت بقي أبو مسلم حيا فيقتله، فضلا عما في ذلك من إخفاق مسعاه.
وخرج المنصور فكتب الكتابين كما أشار صالح، وبعث إلى العراف حاييم «إبراهيم الخازن»، فلما دخل عليه دعاه إلى الجلوس، فجلس وهو خائف من تلك الدعوة - ويكاد المريب أن يقول: «خذوني.» - وخاصة بعد علمه بوجود الزاهد «صالح» في دار الخلافة، فلما دعاه الخليفة خشي أن يكون صالح قد وشى به، فيقتله المنصور على التهمة. فلما جلس بين يديه لاحظ المنصور خوفه فقال له: «لا تخف يا حاييم؛ لأني دعوتك لتساعدني على إقناع أمير بني العباس (أبي مسلم) أننا لا نريد به شرا؛ لأننا كاتبناه غير مرة ندعوه إلينا وهو يأبى، مع أنك تعلم حسن ظننا به، كما تعلم صدق توبته ورجوعه إلى الصواب؛ فاكتب إليه كتابا اذكر فيه صدق نيتنا في ترقيته، وأن ليس له عندنا ما يكرهه.»
فعلم إبراهيم أن المنصور لم يكلفه بذلك إلا لعلمه بصداقة أخبره بها صالح، فقال: «وما الفائدة من كتابي إلى جانب كتاب أمير المؤمنين؟»
فقال: «إنه نافع، بإذن الله.» وكان المنصور قد أمر الكاتب فأعد كتابا يرغب أبا مسلم فيه بالحضور، ويؤكد له حسن ظن الخليفة، فدفعه إلى إبراهيم وقال له: «هات خاتمك.»
فارتبك إبراهيم في أمره، ولم ير مندوحة عن الطاعة، فمد يده إلى منطقته وأخرج كيسا صغيرا من جانب الدواة دفعه إلى الكاتب، فأخرج الكاتب من الكيس خاتما طلاه بالمداد وختم به الكتاب ودفعه إلى المنصور، فقرأه فإذا هو «إبراهيم»، فلم يبد ملاحظة، ولكنه ضحك وقال: «يظهر أنك ذو اسمين: اسم داخلي، واسم خارجي. لا بأس عليك.» وتلطف المنصور معه لعله يحتاج إليه في كتاب آخر، ولكنه أبقى الخاتم عنده، وأقام الأرصاد على إبراهيم لئلا يخرج من الأنبار. وذهب المنصور في اليوم التالي إلى المدائن مع جماعة من خاصته، وترك سائر الجند في الأنبار، ولم يظهر غرضه لأحد، واصطحب بعض العرافين، ولبث ينتظر مجيء الجواب من أبي مسلم، ويود مجيء الزاهد قبلا ليستعين برأيه إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
Page inconnue