فقالت جلنار : «تذكرت هذا الاسم الآن، وأذكر أيضا أنه جاءنا مرة ومعه الهدايا والأحمال، وفيها الحلي والجواهر. وكان والدي - رحمه الله - يحبه.»
فقالت ريحانة: «وأنا أعرف امرأة من نسائه أصلها من مرو، بينها وبين والدة مولاتي الدهقانة - رحمها الله - قرابة، وسيدي الدهقان والدك زوجه إياها، وكنت واسطة بينهما.»
فقال صالح: «لقد هان الأمر الآن. فالذي أراه أن نحمل مولاتنا إلى الكوفة ننزلها في مكان تقيم فيه في أمان ريثما أذهب لقضاء المهمة الأولى في الشام، ثم آتيكم إلى الكوفة ظافرا غانما.» ثم التفت إلى الدهقانة كأنه يستطلع رأيها، فرآها صامتة وفي وجهها ملامح الاستسلام، فقال لها: «كوني مطمئنة؛ فإني لا أتركك حتى أتحقق من راحتك وسلامتك، وأترك عندك ريحانة وسعيدا وأبا العينين، واصطحب الحلبي فقط؛ لأنه يعرف الشام؛ لعلي أحتاج إليه في شيء. والآن لا بد لنا من الإسراع في الرحيل؛ لئلا يعرف أبو مسلم مكاننا، فيذهب كل سعينا هباء، ولا غرابة في اطلاعه على سرنا وهو يكاد يطلع على خفايا القلوب.»
فتنهدت جلنار ولم تجب، فأدرك صالح أنها تتأسف على خيبة أملها في أبي مسلم، لكنه تجاهل ووقف لتدبير أمر السفر إلى الكوفة.
الفصل الثامن والخمسون
مروان بن محمد والناسك
فلنتركهم في تدبير شئونهم، ولنذهب بالقارئ إلى دمشق الفيحاء؛ دار الخلافة الأموية؛ فإن الأمويين اغتصبوا الخلافة من أهل البيت، كما تقدم، ونقلوا عاصمة المسلمين من المدينة إلى دمشق؛ لأن أهل الحجاز متفقون مع علي وأولاده، ودمشق من المدن العظمى التي كان لها شأن كبير في التاريخ القديم، فجعلها الأمويون مقرا للخلافة، ومركزا لقوة المسلمين، حتى حدثتهم أنفسهم أن ينقلوا منبر النبي
صلى الله عليه وسلم
من المدينة إليها؛ ليضيفوا إلى عصبيتهم العربية أعظم أثر إسلامي يفاخرهم به أعداؤهم المقيمون في الحجاز، فلم يتيسر لهم ذلك، واكتفوا بالعصبية، فحكموا المسلمين نحو مائة سنة، وامتد سلطانهم إلى معظم العالم المعمور في ذلك الوقت. وفي أيامهم بلغ العرب أسمى درجات العز.
والدولة الأموية أقوى دول العرب وأشدها بطشا، وهي وحدها (بعد الخلفاء الراشدين) دولة عربية خالية من شوائب العجمة؛ لأن أمراءها عرب، وعمالها عرب، وكتابها عرب، وهي التي نقلت دواوين الحكومة إلى اللغة العربية، ونصرت العصبية العربية، لكنها بالغت في ذلك واحتقرت غير العرب، واستبدت بالفرس وغيرهم ممن دان لسلطانها حتى نقموا منها وساعدوا أهل البيت على حربها؛ لإخراج البلاد من أيديها.
Page inconnue