فشق على جلنار أن تعود إلى بيت والدها وتبعد عن مقر حبيبها، فقالت: «ولماذا ذلك؟ ألسنا على مقربة من مرو؟ وقد كان أبو مسلم يؤجل أمرنا حتى يقتل ابن الكرماني ويفتح مرو، وقد تم له ما أراد؛ فهل تظنين عنده سببا آخر يدعو إلى التأخير؟»
قالت: «لا أعلم يا سيدتي، ولكن لو كان هذا هو قصده وهو يعلم بمقتل ابن الكرماني؛ لوجب أن يرسل إليك من يحملك إليه الآن.» قالت ذلك وأطرقت.
فرفعت جلنار نظرها إلى ريحانة وتفرست في وجهها؛ لعلها تفهم شيئا مستترا وراء تلك العبارة، فرأت ريحانة مطرقة وفي وجهها ملامح الارتياب، فقالت لها: «وماذا تعنين بذلك؟»
قالت: «لا أعني شيئا، ولكني أقول ما يجول في خاطري، وأنت تعلمين أني أرغب الناس في حفظ كرامتك. وعلى كل حال، فإن زفاف الفتاة من بيت أبيها أحفظ لكرامتها، غير أني لا أشك في مقاصد أبي مسلم في شأنك، ولكنني أحسبه مشتغلا الآن بتدبير شئونه بعد هذا الفتح؛ فذهابك إلى بيت أبيك والانتظار ريثما يفرغ أبو مسلم من مهام الدولة لا يقلل شيئا من حبه لك، أو رغبته فيك.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعتا نحنحة في وسط الخباء فأجفلتا، ثم عرفتا أنها نحنحة الضحاك، فهرولت ريحانة وهي تتعثر في أذيالها من البغتة والفرح، وظلت جلنار جالسة في الفراش وقلبها يكاد يطير من شدة الخفقان، ثم رأت ريحانة عائدة ورجل يتبعها بقيافة غير قيافة الضحاك وقد تنكر في ثوب آخر - هو عبارة عن قلنسوة طويلة بدون عمامة، وجبة سوداء طويلة مثل زي أهل خراسان، وقد قص لحيته وأطراف حاجبيه وقطبهما، فذهبت من وجهه أمارات المجون وأبطل التضاحك بحيث لا يراه أحد إلا أنكره. فلما عرفته جلنار هشت له - كما تهش لأقرب الناس إليها - وابتسمت وهي تقول: «لقد صدق ظني. إنك لا تتركنا في هذه الحالة. ما الذي أصاب ذلك الرجل؟ هل تظنه يموت؟»
قال: «أظنه قد مات؛ لأني رأيت أهل فسطاطه في هرج واضطراب.»
قالت: «فما العمل الآن؟»
قال: «أرى أن ترجعي إلى بيت سيدي الدهقان.»
فلما سمعت ريحانة قوله التفتت إلى سيدتها ولسان حالها يقول: «ألم أقل لك ذلك؟»
فقالت جلنار: «وكيف نذهب؟»
Page inconnue