رجل الهامش
1 - أبو جلدة والعرميط
2 - المغنية توحيدة فخر
3 - الفيلسوف ديوجنس
4 - اللورد إدوارد جراي
5 - المحامي القومسيونجي المغني الصوفي
6 - شارل جيد
7 - عمانوئيل الحديدي والخواجا مانولي
8 - الأستاذ محمد خليل راشد
9 - عبده حسن خضر
10 - محمود خاطر بك
11 - العالمان سميكة وعكوش
12 - إسماعيل شيرين
13 - الملاك ميخائيل
14 - الأستاذ براشيا
15 - وليم شكسبير
16 - اللورد كتشنر
17 - الزجال عزت صقر
18 - الأب جريجوار
19 - البرنس أمير الشعراء
20 - أسعد خليل داغر
21 - الأستاذ حسن حسين
22 - المطران جرمانس فرحات
23 - عبد الرحمن الكواكبي
24 - الصحافي جميل فهمي
25 - يوسف آصاف بك
26 - ويصا واصف
27 - علي الغاياتي
28 - عدلي يكن باشا
29 - محمد مسعود
30 - الكتبي يوسف إليان سركيس
31 - توفيق مكرم
32 - مرقس حنا باشا
33 - السيد محمد الساسي المغربي
34 - فرنسوي كوتي
35 - الصحافي نجيب هاشم
36 - اللورد جورج لويد
37 - مصطفى فهمي باشا
38 - ريمون بوانكاريه
39 - سنية هانم
40 - سلطان باشا
41 - الرقاصة شفيقة القبطية
رجل الهامش
1 - أبو جلدة والعرميط
2 - المغنية توحيدة فخر
3 - الفيلسوف ديوجنس
4 - اللورد إدوارد جراي
5 - المحامي القومسيونجي المغني الصوفي
6 - شارل جيد
7 - عمانوئيل الحديدي والخواجا مانولي
8 - الأستاذ محمد خليل راشد
9 - عبده حسن خضر
10 - محمود خاطر بك
11 - العالمان سميكة وعكوش
12 - إسماعيل شيرين
13 - الملاك ميخائيل
14 - الأستاذ براشيا
15 - وليم شكسبير
16 - اللورد كتشنر
17 - الزجال عزت صقر
18 - الأب جريجوار
19 - البرنس أمير الشعراء
20 - أسعد خليل داغر
21 - الأستاذ حسن حسين
22 - المطران جرمانس فرحات
23 - عبد الرحمن الكواكبي
24 - الصحافي جميل فهمي
25 - يوسف آصاف بك
26 - ويصا واصف
27 - علي الغاياتي
28 - عدلي يكن باشا
29 - محمد مسعود
30 - الكتبي يوسف إليان سركيس
31 - توفيق مكرم
32 - مرقس حنا باشا
33 - السيد محمد الساسي المغربي
34 - فرنسوي كوتي
35 - الصحافي نجيب هاشم
36 - اللورد جورج لويد
37 - مصطفى فهمي باشا
38 - ريمون بوانكاريه
39 - سنية هانم
40 - سلطان باشا
41 - الرقاصة شفيقة القبطية
أبو جلدة وآخرون
أبو جلدة وآخرون
تأليف
توفيق حبيب
رجل الهامش
أنت إذا دلفت إلى دار الكتب المصرية، أو إلى دور الآثار العامة، أو قصدت بيوت الوراقين المنبثة في نواحي القاهرة؛ لرأيت رجلا يمشي مزورا متأرجحا كأنما تدهمه ريح قوية تلفه لفا.
أو لو طالعت وجه هذا المتردد لرأيته خليطا بين صفرة فاقعة ودهمة قاتمة.
فلو بعث رمسيس الثاني المندرج في تابوته الزجاجي الذي كان يشاهد من أعوام قليلة في دار الآثار المصرية، لما كان غير صحافينا العجوز.
وإنك لفي حيرة من أمر هذا العجوز المتصابي، إذا جلست في مجالس الخاصة وقد طرقها بصيحة مكتومة تسمعها قبل أن تراه، وكان حديث القوم في التاريخ وعبره وقد استغلقت على المتناظرين شعبة من شعبه حتى نفضوا أيديهم، وعلتهم السكتة التي تصيب المناظر عقب إعيائه.
فهناك يتدفق رجل الهامش، ويفتح المستغلق، ويربي على ما تريده الجماعة.
وإذا كنت من أصحاب السماع والمشغوفين به، وقد ملك عليك حواسك صوت منيرة المهدية أو أم كلثوم أو المرحومة توحيدة أو بمبة كشر أو الحاجة السوسية أو ألمظ أو غيرهن من أهل الفن حديثا وقديما، وأردت أن تتقصى سيرهن ومنشأهن، ومن هن ولمن ينتسبن؛ لم تجد من يشفي لك هذه الغلة الحادثة إلا هذا القديم العجوز كأنه كان قابلة لكل منهن.
وإن أنت أيضا ساقتك الحاجة إلى حارة السقايين، أو درب الميضة، أو الهياتم، أو ما شئت من الأحياء القديمة المندثرة، ثم لمحت هناك طللا قائما ينبئ عن عز قديم، أو مجد فارط مندثر، وأردت أن تستفسره؛ لأجابك بلسان هذا الرجل الذي يعدد لك ساكنيه الذين حلوه، وكيف كان طعامهم، وشرابهم، ومراكبهم، ونزههم، ومجالس لهوهم.
وإذا راعتك حادثة المنشاوي باشا، وكيف سجن هذا العين من أعيان القطر، لحدثك عنها كأنه أحد المجلودين بسوطه.
وإن أردت أن تستطلع طلع مأساة دنشواي لسرد لك من دقائقها وخفاياها ما يبهرك، حتى تخاله أنه كان من حملة آلات الصيد الذين رافقوا الضباط في هذه الواقعة، أو أحد هؤلاء البؤساء الذين دافعوا عن قوت يومهم فكان نصيبهم الشنق!
فهو في كل مكان، وفي كل شيء، ومع كل حادثة، كأنه رسول القدر أو بريد الزمن.
رافق المكاري في حادثة المالطي يوم حريق الإسكندرية.
وصاحب عرابي يوم سكنه قصر النيل.
وزامل المفتش في نكبته.
وتغدى مع المماليك في القلعة.
وحمل المشاعل في أفراح الأنجال.
وحضر مقتل عباس الأول في بنها.
عاشر الأباظية في الزقازيق، وخالط عائلة حمودة في برما، ونزل على بيت أبي حسين في المنوفية .
ورحل إلى محفوظ في الحواتكة.
وتوثق من ولد سليمان في ساحل سليم.
وحمل عدة الختان للمطاهر.
وعرف ما يعرفه باعة اللب أين يسهر عبده وعثمان.
واعتلى خشبة المسرح مع القرداحي.
وحمل عصا الفتونة لمحمود الحكيم.
وطيب لألمظ.
وضرب النقرزان مع أهل الصهبة.
ورافق المجاذيب في الدوسة.
يعرف بوظة الشجرة ومنشأها، وحانة العنبة ومنبتها، وبار السلسلة وزبائنه.
فهو رجل غريب حقا وضع أنفه في كل شيء، ومشى مع كل حادثة، مرة في السعادية بإسطنبول، وأخرى في كامب يوغسلافيا، وثانية في حلقة للذكر، وثالثة في حفلة جابنيوت. •••
وها هو الكتاب، الذي نقدمه إلى قراء العربية، لسان يصيح بما سطرناه آنفا، جال فيه صحافينا العجوز بين مواضع كثيرة وراد مجالس لم تخطر لأديب أو لمؤرخ على بال.
وأعجب العجب لهذا الخاطر الذي تراه يتنقل في كهوف اللصوص وراء أبو جلدة والعرميط، ويقتص الأثر بخبرة كلب الصيد الذي ربما جاوز خبرة كلاب اسكتلنديارد التي فشلت في مطاردة هذين اللصين الخطيرين.
والذي يدخل بك بعد ذلك في أخص حياة المغنية توحيدة بلبل ألف ليلة من سنين مضت.
ويروعك هذا الفكر العجيب عندما يطالعك بدقائق حياة اللورد جراي الخصوصية، ويبسط أمامك كيف أن هذا الرجل السياسي العظيم كان مولعا بالطير والحيوان وإن قد شغف بهما أيما شغف.
ولم يلبث فكر هذا الصحافي العجوز الذي يشبه رياح الموسم في مارس وأبريل أن يتنقل بك إلى التاريخ اليوناني في حياة ديوجنس وقنديله.
وعند تصفحك هذا الكتاب العجيب الذي يجمع النقيضين ويضم بين الحار والبارد، والماء والنار، والفسيخ والشربات، على حد تعبير هذا العجوز؛ تعجب وهو يدخل بك في ظلة للمرحوم عزت صقر، وقد جلس للمنادمة مع عصبة الزجالين والأدباء وأهل النكتة من ظرفاء الأدباء؛ كيف أن هذا الرجل كان دقيق الوصف حلو السياق!
ولم تقعد السن بمؤلفنا عن زيارة حلوان، وقد جلس إلى مائدة الأستاذ محمد خليل راشد، ولم يثنه العيش والملح عن التشنيع بالرجل والهزء بخلوته العلمية الهادئة.
وما أظرف النكتة التي غلبت صحافينا العجوز، وهو يعرض سيرة المرحوم حسن حسين الموظف السابق بقلم المطبوعات، والذي أصبح اليوم في غير هذه الدنيا، كيف يدس السم في الدسم! فبينما هو يعلو بالرجل في عصاميته إلى الذروة العليا إذا به ينحدر بخبث الظريف الماكر إلى شح كان يلازم صاحب الترجمة جاوز أبطال الجاحظ في بخلائه.
وفي الحق أن صاحبنا منصف الإنصاف كله، إذا كتب عن رجل مثل محمود خاطر بك أو المرحوم شيرين بك، فقد وفى هذين الرجلين الكريمين حقهما من الثناء والتنويه.
وأنا جد عاجز لو جلوت كل طرف هذا الكتاب النادر، واستعجلت القارئ على أن يستوعب محتوياته في هذه التقدمة المتواضعة.
وللكتاب، كما لكل ما يسوقه صحافينا العجوز من قصص وأخبار، أسلوب فريد وحده لا أظن أنه ينسج فيه على منوال متقدم أو معاصر.
فإذا تصفحت بعض ما يكتب هذا الرجل في أي صحيفة سيارة وكان المقال غفلا من الإمضاء، لما عدوته بالظن ولو كانت الصحيفة أم القرى.
وهو أسلوب يجمع بين جزالة كبار الكتاب، وبين العامية المستملحة التي تجري مجرى الأمثال، والتي كادت تندثر إلا من أفواه جداتنا في القرى والحواضر، وهو محتال ماهر في دسها في مناسباتها وسوقها في مواضعها.
وهنا أيضا ظاهرة عجيبة تأخذك بالدهشة والحيرة، وتملك عليك مناحي تفكيرك، وتسد عليك المخرج؛ وهي سرعته الفائقة في رثاء ميت أو ذكر حي لغطت به الناس أو نعته الصحف.
ولو أن هذا الرثاء وذاك الذكر كانا مجرد سوق الحديث السطحي لهان الخطب، ولكنه استقصاء تحليلي تعجز عن مظانه المتشعبة، التي تلف المترجم له من مبدأ حياته إلى منتهاها. وإن هامش الصحافي يطلع على الناس قبل أن ترد شهادة الوفاة على أهل المتوفى المؤذنة بالدفن.
وعندي أن صاحب الهامش هو ابن خلكان هذا العصر، ولكن على الطريقة الأميركانية في السرعة والكياسة وحسن السبك.
دار الكتب المصرية
أحمد محفوظ
الفصل الأول
أبو جلدة والعرميط
تنفست فلسطين الصعداء وهدأ روع حكومتها، باعتقال الشقي المشهور «أبو جلدة».
رجل روع الحكومة وأقلق بال رجالها سنتين.
عبثا حاولت القبض عليه مستعينة بالرجال والنساء والكلاب والراديو، فكان يحاربها تارة معتصما بشريكه العرميط، ويزوغ من وجهها تارة ملتجئا إلى الجبال والكهوف التي يضل فيهما الجند من إنكليز وغير إنكليز.
وكان هذا الرجل عنوانا لفشل الحكومة وسقوط هيبتها واعتبارها بين الأهالي. فإذا قامت يوما لتشتيت مظاهرة سلمية أو فض اجتماع وطني، وقف أعداؤها يعيرونها بقولهم: اتشطري انتي على أبو جلدة!
وأصبح أبو جلدة علما، بل علم الأعلام، وتناقلت أخباره صحف أوروبا وأمريكا مكبرة معظمة.
قال أحد كتاب سيرته:
أبو جلدة كنية، واسمه أحمد المحمود، وهو من أهل قرية طحون، ولكل واحد منهم كنية. يبلغ عمره اليوم الستين.
بدأ أعماله في الحياة الدنيا حمالا، ثم صار رئيسا للحمالين.
وفي أيام الحرب الكبرى طلبت الحكومة التركية ابنه للخدمة العسكرية، فأبى تسليمه بحجة أنه وحيده والقانون لا يسمح بتجنيد الوحيد، فأصرت الحكومة، وأصر أبو جلدة وأعلن عليها العصيان، واعتصم بجبال الخليل وجبال نابلس، وقاتل الجيش التركي وقتل كثيرا من رجاله.
وبعد أن خرج الترك والألمان من سوريا وفلسطين عاد أبو جلدة إلى بلده، واشتغل بالزراعة.
وحدث منذ سنتين نزاع بينه وبين بعض أقاربه فقتل ثلاثة منهم، فحاكمته الحكومة، وحكمت عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة. ولكنه لم يلبث في سجنه طويلا، إذ بحث السجانون عنه فلم يجدوه. وطلبته الحكومة فلم تعرف له محلا من الإعراب.
وإلى القارئ بعض ما قالته عنه مجلة «لو» الفرنسوية:
تجاوزت شهرة أبو جلدة حدود ما أحرزه مفتي فلسطين الأكبر، وأصبح معروفا أكثر من مدير المهاجرة والباسبورت المستر جامسون.
والقارئ العربي المتوسط الذي هو أقرب إلى الأمية لا يريد إلا سماع تفاصيل بطولة أبي جلدة، وما تقوم به عصابته من أعمال وما ترتكبه من آثام.
وأبو جلدة شبيه بلصوص كورسيكا، في استعصاء القبض عليهم وتجنبهم إراقة الدماء وإزعاج الآمنين.
فهو موجود في كل مكان، وليس له مكان. فبينما تقول عنه البلاغات الرسمية إنه ظهر في الشمال، وارتكب كذا وكذا من الأعمال، وصال وجال في قنن جبال الجليل وسطوحها، إذا به يظهر بغتة قرب البحر الميت ويوقع ببعض السياح البريطانيين ويسلب مالهم ومتاعهم، ثم يشاهده المسافرون على مقربة من غزة، حيث يوقف سيارة موظفين إنكليز ويأخذ كل ما يملكونه، وبعد ذلك بقليل يسمع أهالي بئر سبع أنه وصل إليهم واجتاز الصحراء التي تفصل فلسطين عن قنال السويس.
وكان أبو جلدة ورجاله حكومة داخل الحكومة يصدر البلاغات الرسمية، وتنشرها الصحف، وفيها بيانات عن مشاغباته للحكومة، ومداعباته لرجالها، وتكذيبات لما عزي إليه من أعمال غير مشرفة.
وقد نشرت له جريدة «الجامعة الإسلامية» يوما نداء حارا بالدعوة إلى مقاومة حكومة الانتداب.
وكان يساهم من حين إلى آخر في قوائم الاكتتابات التي تفتح لمقاصد وطنية.
وشعار أبو جلدة هو: «رمي الإنكليز في البحر»، فكانت الحرب بينه وبينهم سجالا.
جاءوه يوما بعشرة من كلاب «سكوتلاند يارد»، ثمن الكلب الواحد ألف جنيه، وأجرته في الشهر خمسون جنيها، وذهبت «تشمشم» عليه وتهاجمه فقتل أكثرها، وغرمت حكومة فلسطين ثمنها لدائرة الأمن العام في لندن.
وأراد الإنكليز أن يدسوا له السم في الدسم، واتفقوا على ذلك مع إحدى نسائه، وأدرك الدسيسة فأرغمها على أن تأكل من الطعام، وقبل أن يفعل فيها السم فعله قتلها بمسدسه.
ومنذ أشهر هاجم أبو جلدة وزميله العرميط قوة من جنود الحكومة، ثم تركها ولجأ إلى أول تليفون وطلب إدارة الأمن العام في حيفا، وسأل مديرها أن ينجد رجاله لأنهم وقعوا في مأزق ...
هذا هو الرجل أو العفريت الذي داعب جون بول وناوشه وناغشه، ولم تقو عليه السيارات ولا دوريات البوليس والكلاب إلى أن كبسه الجماعة وكان للكبسة أثرها في القبض عليه. وفرحت صحف لندن بالتخلص منه ومن معرة تغلبه على حكومة الدولة التي لا تغيب الشمس عن أملاكها.
وحوكم وحكم عليه بالإعدام شنقا، فسار إلى المشنقة رافعا رأسه كأنه ذاهب إلى معركة يداعب فيها أصدقاءه الإنكليز الذي أقسم بأن يلقي بهم البحر!
الفصل الثاني
المغنية توحيدة فخر
عرضت على الدائرة الثانية في محكمة مصر المختلطة القضية التي رفعها أولاد نقولا فخر مطالبين فيها بنصيبهم في ميراث «لطيفة فخر».
وهذه القضية هي إحدى قضايا أخرى معروضة على المحاكم الأهلية والشرعية والملية.
قل من يعرف من هي «لطيفة فخر».
ولكن إذا قلنا إنها «الأسطى توحيدة، مغنية ألف ليلة».
قال الكل: اسم الله!
مانولي، توحيدة، ألف ليلة!
عناصر ثلاثة متفقة مؤتلفة، لبثت خمسا وعشرين سنة نقطة دائرة الطرب والرقص في أزبكية القاهرة المحمية.
وفدت لطيفة فخر إلى مصر لثلاثين سنة إثر موقعة كانت تذكرها لطيفة كلما أرادت تعليق الحلق في أذنيها.
ولم تلبث أن اعتلت عرش «ألف ليلة»، وهي فتاة مياسة القوام، لدنة المعاطف، هيفاء، دعجاء، تقطر شفتاها رحيقا.
وكان للرقص البلدي دولته، فأتقنته لطيفة، وفازت في ميدانه.
كانت مغنية ألف ليلة السيدة بهية، وكبيرة الراقصات أختها نظيرة، وتأتي معهما من حين إلى آخر أختهما فاطمة.
ولاحظ الخواجا مانولي أن محاميا وطنيا كبيرا، رحمة الله عليه، اتصل بالسيدة بهية فارتاب الخواجا، وبث عيونه وأرصاده، فجاءوه بالخبر اليقين وهو أن المحامي يفاوض المغنية في ترك ألف ليلة بعد انتهاء الكونتراتو على أن يفتح لها ولأختها قهوة خاصة.
واحتاط مانولي للأمر، فخلع عن لطيفة حزام الرقص وسلمها إلى أساتذة الفن محمود البولاقي رحمه الله، وعطية محمد، وعوض الجرجاوي، فلقنوها ما تيسر من مبادئ الغناء والعزف على العود.
وظهرت بعد ستة أشهر «الأسطى توحيدة»، يحيط بها عطية بالعود، والبولاقي بالرق، والجرجاوي بصوته الصبا، وأبو غنيمة بالكمنجة، وخمسة من السنيدة المعروفين.
وصبر السميعة الأصوليون سنوات حتى شبطت توحيدة في الفن وعرفت كيف تحرك أوتار العود وتهز الرق، وتخرج الآهات سليمة.
وقيد الخواجة مانولي السيدة توحيدة بشروط، وتعاقد معها على أجرة الغناء ونصيبها في «الفتح»، وأركبها عربة فخمة خاصة يجرها جوادان كبيران.
وكانت ليالي «الفتح» في عزها.
كل ليلة عشرات من زجاجات الكونياك والأستوت والشمبانيا تفتح للسيدة توحيدة، وتأخذ من كل زجاجة قيراطا، وترشف من كل كاس شفطة، وثمن كل زجاجة جنيه نقدا وعدا.
وذهبت ألوف الجنيهات في سبيل «الفتح»!
وتوحيدة تأخذ أجر غنائها، وتأخذ نصيبها من الفتح، وتتناول من هذا ومن ذاك باليمين واليسار، لها حسابها الخاص وللخواجا مانولي حسابه الخاص.
والشغل شغل، على ما يقول الإنكليز.
أما السيدة بهية فقد خرجت من ألف ليلة، وأنشأ لها المحامي قهوة راقصة في شارع وجه البركة، ولكنها لم تعمر طويلا فتزوجها المحامي الكبير.
وبقيت السيدة توحيدة تغني، وإلى جانبها الرقاصات. كل شهر راقصة جديدة، ومغنية ألف ليلة لا تتغير ولا تغيب عن التخت إلا ساعات معدودة في ليال معدودة، هي الليالي التي كانت تحييها في الأوبرا لبعض الجمعيات الخيرية.
وكانت تذهب مع تختها لإحياء هذه الليالي بدون أجر، وتقدم في آخر الليلة مبلغا معاونة للجمعية مساهمة منها في عمل الخير.
وفي هذه الليالي كان ينوب عن السيدة توحيدة في ألف ليلة بعض كبار المغنين مثل: سيد الصفتي ومحمد سالم العجوز وداود حسني.
وأخذت دولة الرقص تدول في أيام الحرب الكبرى، إذ قيدت السلطة العسكرية حركات الراقصات وسكناتهن وملابسهن بقيود شديد، وعطلت عدة قهوات راقصة، ولم يبق غير ألف ليلة ومغنيتها المشهورة. •••
ومات الخواجا مانولي لسبع سنوات خلت.
وقفلت قهوة ألف ليلة، ثم أعاد ورثته فتحها ولكنها لم تنل شهرتها الماضية.
وهكذا كان أمر توحيدة، فقد لزمت الحداد زمنا على الخواجا مانولي، ثم مالت نفسها إلى العودة للتخت، فانتقلت من ألف ليلة إلى شارع عماد الدين.
وكان «للصبا نجم أفل» على ما يقول ابن الوردي.
فلم تقو حنجرة توحيدة على منافسة حناجر نجاة علي وبثينة وفاطمة سري، ولم يقو جسمها على محاربة الأجسام الألامود.
وعرفت أن الله حق فلزمت بيتها.
ثم انتقلت إلى رحمة الله.
وكاد الناس ينسون اسمها حتى ذكرتنا به مرافعة المحامين في محاكمنا المختلفة.
الفصل الثالث
الفيلسوف ديوجنس
ظهر في مدينة براج أخيرا رجل زري الهيئة، رث الثياب، يحمل قنديلا من الزجاج كتب عليه «أبحث عن العدالة والفضيلة».
فاجتمع الناس حوله حتى كادوا يعطلون «حركة المرور» فألقى البوليس القبض عليه، واستاقه إلى السجن وحقق معه، ثم أطلق سراحه فعاد إلى تجواله.
قالت الصحيفة التي روت الخبر: ولا جدال في أن هذا «الديوجنس العصري» سيقضي زمنا طويلا وهو يبحث وينقب دون أن يصل إلى غرضه.
والله أعلم بسر صاحبنا، وما دعاه إلى تشرده الفلسفي وبحثه مقتفيا أثر ذاك الفيلسوف الكلبي.
وديوجنس الأصلي فيلسوف ولد وعاش ومات في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد.
كان أبوه صرافا في مدينة سينوب، واتهم الأب والابن بتزييف النقود، فقبض على الأب وسجن، ومات في السجن.
وطفش الولد، وأتى إلى مدينة أثينا مهبط العلم والحكمة والفلسفة في ذاك الحين، وتتلمذ لأنتينيوس الفيلسوف.
واشتهر ديوجنس بالتقشف والزهد في الحياة، فلم يكن له من المتاع سوى عصا وخرج وقدح من الخشب، فلم يكن يمشي بدونها. وكان لا يتوكأ على عصاه إلا إذا رحل إلى خارج أثينا، أو كان مريضا.
واتخذ برميلا وجعله مسكنا له يأخذه معه أينما سار وحل، وعند اشتداد الحر يتدحرج على الرمال الساخنة، وفي الشتاء حينما يشتد البرد يلصق جسده بالرخام، قاصدا بذلك تعويد نفسه على تحمل مشاق الحر والبرد.
وكان يأكل وينام ويتكلم في أي مكان صادفه، وكثيرا ما كان يقصد هيكل الشمس للخطابة والنوم.
وكان يعجب لعلماء الأدبيات؛ لأنهم يبذلون الجهد للوقوف على بعض الوقائع الخرافية الهزلية التي لا طائل تحتها.
ويسخر بالموسيقيين لتحملهم المشاق في ضبط الألحان وتنسيق الأنغام.
ويذم الفلكيين لتلهيهم برصد الشمس والقمر وبقية الكواكب، في حين أنهم لم يعرفوا حقيقة ما تحت أقدامهم.
سأله رجل عن الوقت الذي يأكل فيه، فقال له: إن كنت غنيا فكل في الساعة التي تعجبك، وإن كنت فقيرا فكل في الساعة التي تجد فيها أكلك.
وسئل: ما أسوأ الحالات؟ فقال: الهرم مع الفقر.
وسئل: ما أحسن شيء في العالم؟ فقال: الحرية.
وسئل: لماذا يتصدق الناس على العمي والعرج ولا يتصدقون على الفلاسفة؟ فقال: لأن سائر الناس معرضون للعمى والعرج وليس منهم من يحلم بأن يكون فيلسوفا.
وسئل: لماذا لقبوك بالكلبي؟ فقال: لأني أتملق من يعطيني، وأنبح على من يمنع عني بره، وأعض من يؤذيني.
وسئل: ماذا ربحت من فلسفتك؟ فقال: لو لم تنفعني إلا في التجلد على تحملي المشاق لكفى بذلك سرورا .
ومن أقواله المأثورة: إن الحياء من ضعف النفس. ولذلك كان لا يستحيي من صنع أقبح الأشياء أمام الناس.
ومنها: أنفع الأشياء أقلها ثمنا. فالصورة قد يبلغ ثمنها ثلاثة آلاف دينار، ومد الدقيق يباع بدراهم معدودة.
ومنها: حب الظهور ليس إلا فخر المجانين.
وشوهد يوما يسير ظهرا وهو يحمل مصباحا، فسئل في ذلك، فقال: لعلي أبصر رجلا. •••
ومات ديوجنس، ونسيه الناس ونسوا فلسفته، ولكن «فانوس» ديوجنس لا يزال مشهورا مذكورا.
وقد ذهبت أيام الفلسفة الرواقية، والفلاسفة الحفاة، والجامعات الخلوية، وتغيرت الدنيا وما عليها، وتبدلت طرق البحث والتنقيب.
وإذا كان بوليس مدينة براج لم يعتقل مقلد ديوجنس، فلا بد أن يطبق عليه يوما قانون التشرد.
فليدرك ذلك كل من تحدثهم أنفسهم أن يكونوا يوما فلاسفة على مثال سقراط، وشيلون، وأفلاطون، وأرستيب، وأبيقور، وزيتون، وديوجنس كذلك.
لأن الفلسفة العصرية ليست بالحفاء، ولا العري، ولا النوم في البراميل، بل بأشياء أخرى يعرفها أساتذة كلية الآداب في الجامعة المصرية بالجيزة.
الفصل الرابع
اللورد إدوارد جراي
نعي إلينا اللورد إدوارد جراي أوف فالدورن.
وفي يوم النعي حملت إلينا أمواج الأثير خبر افتتاح مجمع العلوم البريطاني وفقرات من خطبة رئيسه، وقد جاء فيها:
إن رجال السياسة والإدارة الذين يعالجون مشكلات لا يجدون متسعا من الوقت ولا يملكون قسطا من المعرفة، يمكنانهم من التصرف في قوى الحياة التي تطلقها معامل البحث العلمي.
وليس معنى هذا القول إن رجال الإدارة والسياسة بعيدون كلهم عن البحث والاستقصاء لمشاغلهم وانصرافهم لمعالجة المشكلات، بل قد عرفنا - وعلى الأخص في إنكلترا - غير واحد كانوا يجمعون بين السياسة والعلم والأدب.
لما بلغ اليونان والرومان قمة مجدهم السياسي الأدبي، كان معظم مناصب الدولة وقفا على العلماء والأدباء.
وتقلبت الدنيا وإذا بنا نراهم في أمريكا لا ينتخبون رؤساء الجمهورية والحكام والقضاة وغيرهم إلا من مديري الجامعات وأساتذتهم.
وأنت تقلب أسماء أعضاء الوزارات الإنكليزية، فلا تجد فيهم غير خريجي أوكسفرد وكمبريدج، ومن كان لهم ماض مجيد في الفوت بول والتنس والكريكت. وقل منهم من لم يكن أديبا له من المؤلفات القيمة في السياسة والعلم والأدب.
وقد عنيت صحفنا بتفصيل نشأة اللورد إدوارد جراي حتى يوم وفاته، سياسيا، ولعبه أكبر الأدوار في سياسة إنكلترا الخارجية والتطورات العالمية الدولية.
وغفل الكاتبون عن ناحية أخرى من حياة اللورد جراي لها مكانتها، وهي حياة اللورد الفنان الأديب واللاعب الرياضي المعروف.
كان اللورد كاتبا أديبا، وكان «معلمة» في الطيور والحيوانات والأزهار، فكتب بقلمه الساحر كتابه المشهور «خمس وعشرون سنة من 1892 إلى 1916»، وضمنه تاريخ الحوادث والشئون السياسية في بريطانيا العظمى والعالم وعلاقة ممالك أوروبا وجمهورياتها ببريطانيا في هذه الحقبة التاريخية.
وله كتاب آخر موضوعه «الثورات»، بحث فيه أهم الثورات العالمية وأسبابها ونتائجها السياسية والاجتماعية. وكتاب آخر نشر في سنة 1920 عنوانه «أريكسون مكتشف أمريكا».
أما كتبه عن الطبيعة ومباهجها والطيور والأسماك فهي: وثائق فالدون، وفنون الطيور، وصيد السمك بالسنارة.
وتعد هذه الكتب من عيون الأدب الحديث يقدمها الآباء للأبناء، والأساتذة للطلبة، هدية للمطالعة وقضاء الوقت في التلذذ بأبلغ أسلوب رقيق دقيق.
ولم يكتف اللورد جراي بالكتابة عن الطير، بل جمع منها في داره عددا كبيرا مختلف الأنواع. وكان خير الأوقات عنده ما قضاه في رعاية هذه الطيور وتدجينها ومراقبة أطوار حياتها.
ولما زار الرئيس روزفلت إنكلترا خصص آخر أيامه فيها لزيارة اللورد جراي في ضيعته بفالدون، وقضى اليوم إلى جانب أعشاش الأطيار ممتعا نظره بألوانها، مشنفا أذنيه بسماع:
صوت صفير البلبل
هيج قلب الثمل
هذا هو اللورد جراي الذي أضاف صفحة جديدة إلى تاريخ الأدب الإنكليزي، مقتفيا أثر غير واحد من الوزراء الإنكليز ورؤساء الوزراء العلماء الأدباء.
الفصل الخامس
المحامي القومسيونجي المغني الصوفي
الأستاذ ... عرفناه محاميا، وعرفناه قبل ذلك وبعد ذلك «ألف صنف وصنف» أو «الدنيا مجتمعة في واحد»، فهو في أيام الشباب مثله في أيام الكهولة لا تهدأ ثائرته، ويأبى البقاء على حال واحدة.
كان قبل الهجرة كاتبا في وزارة ... وعني بدراسة الحقوق حتى أحرز شهادة الليسانس، واشتغل بالمحاماة.
وما كادت أقدامه تثبت فيها حتى ملها أو مل العمل فيها كما كان يعمل الحسيني والهلباوي واللقاني.
فاخترع أو ابتدع لنا ما سماه الاستشارة القضائية أو الاستفتاء، فإن كانت لك قضية يتسلمها منك مقابل أجر معين بحسب أهميتها ليقول لك هل هي ناجحة فتسير فيها، أم خاسرة فتطرق غير باب القضاء والمحاماة.
ومع أن لهذا العمل أهميته ونجاحه في دوائر الأعمال بأوروبا وأمريكا، فإن قومنا لم يهتموا به أو هم لم يفهموه، وكادت صناعة الأفوكاتو ... تبور.
فالتفت إلى الصحافة، وأنشأ مجلة ... وعني بتحريرها وتضمينها المبادئ القانونية. ولكنه لم يلبث كذلك حتى أخذ في تحوير شكلها وتبديله حتى أسقطها وقفلها.
والتفت إلى المسائل المالية فعالجها ردحا من الزمن، وانصرف إلى الاشتغال بالبناء والتعمير في مدينة ... فابتلى الله هذه المدينة بكراهة الناس السكنى فيها. وانقلب الأفوكاتو «بروباجنديست» لمدينة ... يؤلف اللجان للدفاع عن كيانها، وينشط الناس لسكناها، ويخاطب الوزارات المختلفة والمصالح في شأن تعميرها وإصلاحها.
ثم مل الماديات من دفاع أمام المحاكم ونظر في قضايا واستثمار لملك في مدينة ... وعمارة. وارتفع إلى قمة الفنون فجمع بين الشيخ حسن الحويحي وبمبة كشر وشفيق النونو وعديلة حسن، وألف لهم ما سماه «معهد الموسيقى الشرقي» للعمل لترقية الموسيقى الشرقية، وهدم نادي الموسيقى الشرقي. وكان في عمله ناطح صخرة، وأدرك بعد فترة من الزمن أن قوما من جماعة «زارني باهي المحيا» لا يصلحون لاجتماع أو تعاون فتركهم.
وعاد إلى العمل، وكان عمله في هذه المرة قومسيونجيا للبضائع المختلفة من حديد وخردوات وقمصان وجوارب. ومن الأسف أن الله لم يفتح عليه بقليل أو كثير، فحول مكتبه الجديد في شارع ... إلى مكتب للمحاماة.
وكان قد علق بالموسيقى وأهلها، فأعلن عن حاجته إلى صبيان وصبايا من الأبرار الأطهار يؤلف منهم جوقة لإنشاد مزامير داود و«بانت سعاد»، وانتظر وانتظر فلم يلب له أحد سؤالا.
وأخيرا انقلب أستاذنا موحدا صوفيا يوافي الصحف بنشيد الروحانيات فيقول:
هو الأول المبدي بغير بداية
وآخر من يبقى مقيما مؤبدا
سميع بصير عالم متكلم
قدير يعيد العالمين كما بدا
وليس كمثل الله شيء ولا له
شبيه تعالى ربنا أن نجددا
فهنيئا تكية المولوية بخير من يذكر الله في السر والعلن!
الفصل السادس
شارل جيد
كان للعرب، أيام العز والبغددة، عناية بفروع العلم والأدب كلها.
وكان «الاقتصاد السياسي» أحد العلوم التي عالجوها ووضعوا فيها الكتب والرسائل، ومنها كتاب «آداب الحسبة» الذي وضعه أبو عبد الله محمد بن أبي محمد السقطي المالقي محتسب مدينة مالقة، في زوال القرن الحادي عشر. وقد عني به أخيرا أستاذان من الفرنسويين فطبعا متنه مصححا مشروحا على ما وصفه الأديب «بشر فارس» في المقتطف. وهذا الكتاب مثال لما وضعه القوم من مصنفات أضعناها ولم نحفل بها.
ثم تطور العلم وازدهر وتشعب، ولبثنا نائمين لا ندري عنه شيئا حتى وضع المرحوم «خليل غانم» كتابه الوجيز في الاقتصاد لنحو خمسين سنة، وعقبه المرحوم «رفله جرجس» فوضع مختصرا آخر للعلم لأربعين سنة.
ثم كان ما سميناه النهضة الأدبية العلمية. وأنت إذا حملت «مصباح ديوجنس» وسألت عن كتاب عربي للاقتصاد فلا تجد إلا نحو سبعة أو ثمانية كتب مترجمة كلها.
فلا غرابة إذا نعت إلينا أسلاك البرق والراديو أشهر كتاب العصر وعلماء الاقتصاد وهو شارل جيد، ولم نر في صحفنا فصلا عنه أو عن مؤلفاته ومباحثه في الاقتصاد والتعاون. •••
توفي شارل جيد عن 85 سنة من حياة حافلة بالجد والاجتهاد والدرس.
تلقى مبادئ العلم في مسقط رأسه «مدينة أوزيه بمقاطعة جارد»، ثم قدم إلى باريس ودرس الحقوق في كليتها، وانصرف إلى علم الاقتصاد. وعين أستاذا في كلية الحقوق وكوليج ده فرانس ومدرسة الهندسة المعروفة باسم «الجسور والكباري».
وتولى رياسة تحرير «مجلة الاقتصاد السياسي» الفرنسوية، وهي من أشهر المجلات العالمية في هذا الموضوع، وعمل فيها بهمة وخبرة أربعين سنة متوالية.
وكانت لشارل جيد اليد الطولى في حركة التعاون وتنظيمها في فرنسا، واستفاد بآرائه المتعاونون في أنحاء الشرق والغرب.
وللرجل مؤلفات عدة في الاقتصاد السياسي، وتاريخ المذاهب الاقتصادية، والتعاون، منها: كتاب مبادئ الاقتصاد، وهو معروف يدرس في المدارس الثانوية والسنة الأولى بمدارس الحقوق، وقد ترجم إلى كثير من اللغات الأجنبية، ما عدا العربية.
ولما وضع الإنكليز يدهم على مدرسة الحقوق الخديوية لخمس وثلاثين سنة لم يجدوا في كتبهم ما يسد مسد كتاب «المبادئ» لجيد، فاستأذنوا الناشر في ترجمته إلى الإنكليزية، ودفعت الحكومة المصرية حق النقل ومصاريف الترجمة وطبعته في «مطبعة بولاق المحمية» باللغة الإنكليزية.
وللمسيو جيد كتاب بديع في الإصلاح الاجتماعي اسمه «مؤسسات التقدم الاجتماعي»، كان في الأصل تقريرا كتبه عن نظام هذه المؤسسات تلبية لطلب إدارة معرض باريس سنة 1900، ثم نقح التقرير وفصله وبوبه ونشره كتابا لا يزال يعاد طبعه حتى اليوم. وقد ترجم إلى البولونية والإيطالية واليابانية.
ومع وفرة ما وضع من الكتب في هذا الموضوع، فإن كتاب المسيو جيد لا يزال النبراس الذي يهتدي به المشتغلون بحركة العمال، ودراسة حقوقهم، وعلاقاتهم بأرباب المال، وحياتهم خارج العمل، وتدبير شئونهم في العطلة والشيخوخة والمرض.
لقد كان شارل جيد رجل علم وعمل، يكد ويكدح لخدمة بلاده والعالم أجمع، ولم تقعده السن عن الجد فلبث يعمل حتى ناداه عزرائيل، فاختفت بموته صورة الله أعلم متى يجد عالم الاقتصاد صورة مثلها.
الفصل السابع
عمانوئيل الحديدي والخواجا مانولي
أنزلت إلى ثغر سوثمبتن البريطاني أول باخرة مخرت البحار منذ ألفي سنة، وجميع بحارتها يهود، وقد رفع عليها العلم الفلسطيني، واسمها «عمانوئيل»، وستستخدم للملاحة على ساحل فلسطين.
وروت تلغرافات روتر أن الراية الصهيونية التي كانت تخفق على الباخرة قد سرقت أو فقدت، ولا يعلم هل سرقتها أو فقدها لسبب سياسي أو هو لعبة.
وقد شرع البوليس في التحقيق.
ذكر اسم «عمانوئيل» في العهد القديم مرة، وفي العهد الجديد مرة أخرى في موضوع واحد هو البشارة بمجيء السيد المسيح.
قال أشعيا النبي في الإصحاح السابع من نبواته التي كتبها بالعبرية: «ها العذراء تحبل وتلد ابنا. ويدعى اسمه عمانوئيل».
وقال متى البشير، في إنجيله الذي كتبه بالآرامية (العدد 32 من الإصحاح الأول): «هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره (الله معنا).»
ليست البهدلة، والشحططة، والتعذيب، والتشريد، جديدة على «شعب الله الخاص».
فقديما كان سبي بابل غير مرة، ثم كان الإبعاد عن بيت المقدس وتخريب الهيكل.
وفي العصور الحديثة كان النفي والطرد من روسيا، ومن رومانيا، ومن إسبانيا.
وأخيرا حركة هتلر النازي.
ورحم الله «أوجين سر» ومؤلفه المعروف «اليهودي التائه»! لقد أكلها إخواننا على أم ناصيتهم غير مرة.
وعانوا الأهوال والمشاق قديما وحديثا، ولكنهم كانوا أفرادا وجماعات عنوان المثابرة والكفاح والجهاد ومكافحة الشدائد بسلاح العلم والمال والحنكة والسياسة.
وهم في كل حال لم ينسوا دينهم، ولم يفتروا عن ذكر «إله إسرائيل».
وتسمية باخرتهم الجديدة «عمانوئيل» دليل جديد على تلك العقيدة الراسخة في قلوب الجماعة. •••
كان «عمانوئيل» اسم غير واحد من الملوك والأمراء الذين لعبوا أدوارا في التاريخ.
ومنهم عمانويل السعيد ملك البرتغال (من سنة 1495 إلى سنة 1532)، وله في كتب الجغرافيا صفحات مجيدة لما بذله من المال في تشجيع فاسكو دي غاما على اكتشاف الهند، وإرساله الحملة الحربية بقيادة الفارس كابرال لفتح البرازيل.
ومنهم عمانوئيل الحديدي الرأس أمير سافوي، ولد في شامبيري سنة 1528، وتوفي في تورينو سنة 1580. واتصل بشارل كنت. وحارب الفرنسويين وانتصر عليهم. وتزوج مارغريت ده فرانس ابنة فرنسوي الأول.
ويعرف البريمة والسهرتية من أهل الخمسين والستين في مصر «عمانويل يوانيدس» المشهور باسم «مانولي» صاحب ألف ليلة وليلة، وقد وطد في مصر دعائم «الرقص البلدي»، وأمضيت في مسامرته والتمتع بعذب حديثه ومسامرته وشربه ومغانيه خمسا وعشرين سنة ونيفا، كانت أطيب أيام العمر وأهنئها، غفر الله له وعفا عنا وعنه.
كانت الحرب بين اليهود والعرب «برية» في تل أبيب وحيفا وصفد.
وأصبحت اليوم بحرية بمواقع منتظرة بين الباخرة عمانوئيل والبحارة العرب.
وغدا تكون جوية بطيارات عبرية بأسماء شمشون وجليات ورحبعام وسارة ودبورة وإستر، ترفرف على بيت لحم وقانا الجليل.
ولكل دولة رجالها، ولكل ميدان أسلحته، والدنيا جهاد، والحرب سجال.
الفصل الثامن
الأستاذ محمد خليل راشد
تعرفت منذ أسابيع إلى الأستاذ محمد خليل راشد المدرس في مدرسة حلوان الثانوية للبنات.
والأستاذ راشد مدرس ومؤلف وصنايعي معا، يصدر في كل شهر تقريبا كتابا أو كتيبا أو رسالة في الكيميا والطبيعة والاقتصاد والأدب .
ويعالج صناعات كثيرة، من الكهرباء إلى دباغة الجلد إلى صنع العطر.
دعاني يوم الجمعة إلى تناول الطعام على مائدته في حلوان، فأدركت سر هذه الحركة الدائمة.
عشرات من خزائن وأدراج ورفوف للكتب والدفاتر والدوسيهات والفيش، مرتبة محكمة، في لمحة بصر يخرج منها الأستاذ ما يشاء للفحص أو المراجعة أو إضافة أشياء جديدة.
ومن المدرسة إلى البيت، ولا تبعد المدرسة عن البيت إلا نحو مئة متر، فالأستاذ الشاب لم ير محطة حلوان إلا أربع أو خمس مرات، ولم يسر في شوارع المدينة ولم يغش قهواتها أو كازينها.
لا يعرف القهوة ولا الدخان، ويشارك الصديق العزيز الأستاذ غلوش في مقاومة المسكرات ومحاربتها، فهي لم تدخل فمه يوما ولا يطيق أن يرى «مجالس الشريبة» وأمامهم أنواع الكوكتيل.
كل هذه أشياء طيبة ما عدا السجن الانفرادي، وهجران الشوارع والميادين والقهوات.
قال اللورد أفبوري في كتابه «مسرات الحياة» ما معناه: لماذا تحزن أيها القارئ وأمامك الشوارع الواسعة والحدائق الزاهرة والأنوار اللامعة، أينما سرت تستمتع بها مجانا؟
وأنا أرى أن العلم غير محصور في جلود الكتب وغلافاتها، فلا بد من اللف والبرم والسياحة ومخالطة الناس ومعاشرتهم والاقتباس من صغارهم وكبارهم.
أضف إلى ذلك فائدة المشي وقطع المسافات الطويلة كل يوم موتورجل.
من المصادفات الغريبة أنني بعد انصرافي من بيت الأستاذ راشد وقعت بين يدي صحيفة قرأت فيها نبذة عنوانها «هل تفقدنا المدنية فائدة أقدامنا؟» جاء فيها: لا شك في أن للسير على الأقدام لذة كبيرة ... وله أيضا نفعا عظيما.
ولكن كثرة وسائل المواصلات في هذه الأيام، وسهولتها، وسرعتها مع رخص أجورها جعلتنا نغفل رياضة السير على الأقدام، ولا مبالغة إذا قلنا إن المدنية الحديثة ستفقدنا الفائدة الجميلة التي وجدت من أجلها أقدامنا.
بل إن كثيرين منا الآن لكثرة استعمالهم وسائل النقل في كل مكان يقصدون إليه سواء كان قريبا أم بعيدا؛ فقدوا لذة المشي من جهة، ومن جهة أخرى لا يعرفون كيف يمشون المشي الصحيح.
ويصرح الأطباء الآن بأن المشي الرديء أو بعبارة أخرى المشي غير الصحيح يسبب لأصحابه العلل والأمراض الخفية.
وكما أن الأسنان و«اللوز» في الحنجرة تسبب كثيرا من الأمراض التي يظن في بادئ الأمر أن لا علاقة لها بها، فكذلك المشي الرديء يسبب للمرء كثيرا من الآلام والأمراض.
وإن رصف الطرقات وتمهيدها قد أفسدا على القدم فائدة النط، والوثب، والخطوة، وهذه العمليات الثلاث كان لا بد منها لتنشيط مفاصل الدم والساق، والآن وقد عطلت المدنية هذه العمليات فإنا ندفع الثمن غاليا، ندفعه باضطراب أعصابنا، وبعض أعضائنا.
ويعالج الأطباء الآن مرض الأقدام والسيقان الذي ينشأ عن عطلها عن تأدية واجبها الطبيعي بالكهرباء والمكمدات.
وبمناسبة الحديث عن الأقدام والسير عليها، نذكر أن أحد مصانع الأحذية المشهورة في أوروبا صرح بأن الطلبات انهالت بكثرة على الأحذية الكبيرة في الأيام الأخيرة.
ولكن الأطباء يقولون بأن قدم المرء محال أن تكبر بعد بلوغه سن الرشد، وأنها في هذه الحالة مثل أنفه ويده وسائر الأعضاء البارزة.
وصرحت إدارة أحد مصانع الجوارب بأن السيدات في الأيام الأخيرة بدأن يفضلن الجوارب الحريرية على غيرها، وليس ذلك لبدانة «سمنة» أرجلهن وإنما لأن الجورب الحريري يعطي الطول المطلوب المريح للقدم، وترى السيدات أنه كلما كان الجورب طويلا واسعا كان ذلك أدعى لراحة أقدامهن. •••
يقول الدكتور محمد حسين هيكل بك في المقدمة التي وضعها لكتاب «برسوم العريان وآخرون»:
لكن هذا الكتاب يصف الصحافي العجوز أدق وصف.
يصف هذا الجسم الطويل النحيل، وهاتين الساقين اللتين لا تملان من ذرع أنحاء القاهرة، وتتوقان لو أتيح لهما أن تذرعا أنحاء العالم طرا.
فأنا مغرم بالمشي، أعرف فائدته ولذته. وقد آلمتني شكوى الأستاذ محمد خليل راشد، وتخوفه من السكون، واعتياده الركود وسط كتبه وأوراقه وفيشه.
ولكن هذه الآراء والملاحظات إن أرضت الناس كلهم فإنها لا تدخل عقل أخينا صاحب «ما قل ودل»؛ لأنه لا يستهوي لبه إلا أن يسوق سيارته بأقصى سرعة ولو أزعج الألوف من المارين، ولو كان الأمر بيده لصرع كل يوم شخصا أو أكثر؛ لأنهم يمشون وهو يركب.
الفصل التاسع
عبده حسن خضر
مئة وثمانون ألف جنيه ...
ثروة ولا كل الثروات، جاءت سافرة لم تتبرقع، منقادة تجر أذيالها إلى السيد حسن عبده خضر نزيل إصلاحية الرجال بقناطر الدلتا.
بشره بها مأمور السجن، وقال إنه قد أوصى له بها ابن عمه الذي توفي أخيرا بجنوب أفريقيا.
ومهما يكن من قوانين مصلحة السجون وشدة مدير السجون، فلا جدال في أن السجين الثري «على سن ورمح» أصبح موضع تكريم السجانين ورؤساء السجانين، وقد يتقدم إليه هذا وذاك بعرض «أية خدمة تلزم» في دائرة القانون.
والسجين المحترم ليس غريبا عن قراء الصحف وإن نسيه بعضهم، وهو صاحب قضية شركة تصدير الخضر إلى أوروبا، التي اشتهر خبرها منذ سنتين، واتهم فيها صاحبنا بالنصب على فئة من التجار والشبان طالبي الاستخدام في هذه الشركة الفالصو.
وهذه الشركة هي إحدى المحاولات الجريئة التي حاول بها صاحبنا الوصول إلى العز والمراتب العالية.
وإلى القراء بعضا من كل من تاريخ هذه الشخصية الغريبة:
حسن عبده خضر من أولاد الناس الطيبين في مدينة المنصورة.
تلقى دروسه الابتدائية في المنصورة.
ثم أرسله أهله إلى الإسكندرية فدرس في إحدى مدارسها الثانوية، وامتاز على أقرانه بالتفوق في اللغة الإنكليزية ومعرفة اللغتين الفرنسوية والإيطالية.
وقضى ثلاث سنوات بين إيطاليا وإنكلترا، وعاد إلى مصر في سنة 1912.
ونال شهادة البكالوريا، وسافر إلى إنكلترا للتخصص في التربية والتعليم.
وقضى ثلاث سنوات بين إيطاليا وإنكلترا، وعاد إلى مصر في سنة 1912.
وعين سكرتيرا لجورج موريس بك مدير قسم الضبط في نظارة الداخلية.
وأحيل موريس بك إلى المعاش، وأوصى بسكرتيره فأبقي سكرتيرا للمرحوم محمد بدر الدين بك.
واصطحبه بدر الدين بك في رحلته إلى إستانبول وسويسرا وإيطاليا للتحقيق في قضية الاعتداء على صاحب السمو الخديوي السابق في سنة 1914.
ثم نشبت الحرب العظمى، واشتبهت السلطة العسكرية في أمر حسن عبده خضر فأقيل من خدمة الحكومة المصرية.
ولطشت الدنيا به، فارتكب جريمة احتيال بكوم الدكة في الإسكندرية، وحكمت عليه محكمة العطارين بالسجن ستة أشهر.
وأعقبها بتزوير شيك في المنصورة فحكم ابتدائيا بسجنه سنة، ثم عدلت محكمة الجنح المستأنفة الحكم فجعلته ستة أشهر.
واستخدم مدرسا في مدرسة الرشاد الأهلية في المنصورة أيام وزارة محمد محمود باشا.
وأخذ يناصر الوزارة بمقالات يكتبها في جريدة الإجبشيان ثم مقالات كان يرسلها إلى التيمس.
فلما تغيرت الوزارة أبى تلاميذ مدرسة الرشاد أن يتلقوا درسا على الأستاذ حسن عبده خضر، وهو الرجل الذي يعادي الوفد والوفديين.
وأوصى عليه أحد أصدقائه من الإنكليز فعين في سنة 1930 سكرتيرا عربيا للقنصلية البريطانية في جدة، ولكن الحياة في هذه المدينة القاحلة لم ترقه فغادرها.
ورجع إلى مصر، وعلق بغانية إيطالية فطلق زوجته، وكان له منها ولد اسمه عبد الفتاح وبنت اسمها سعاد، وتزوج صاحبته الإيطالية بعد أن أعلنت إسلامها.
واستخدم في شركة نترات الشيلي براتب أربعين جنيها.
ثم كان ما كان من أمر شركة الخضر، وكانت لعبة على المكشوف، مثل كثير من الشركات المالية التي تؤلف في مصر وغير مصر دون رأس مال، وتصيب مبلغا كبيرا أو صغيرا من النجاح.
نرجع بعد ذلك إلى ابن عمه، الذي ورثه المال، فقد اقترف جريمة لعشرين سنة خلت، وكان حسن عبده خضر حينذاك سكرتيرا لموريس بك فسهل له بحكم وظيفته الهرب من مصر.
وحفظ ابن عمه الجميل فورثه هذا الميراث الفخم الذي طرب له غير واحد من أصدقاء الوارث الجليل وعملائه ودائنيه وضامنيه.
ومن هؤلاء الضمان صديقنا الأستاذ أنطون يعقوب (مكاتب شركة إيتمو التلغرافية)، وكان يضمن الوارث في ثلاثين جنيها، وتنقلت الكمبيالة من البنك إلى المحامي إلى المحكمة فصارت قيمتها الآن 47 جنيها.
مئة وثمانون ألفا، قد تصل إلى المليون، تتبخر وتصبح صفرا مفردا ما دام السيد خضر من طلاب المجد ولو على مشنقة إذا كان الخبر صحيحا والمبلغ بالقدر الذي عدوه ولم تكن الرواية مختلفة من أولها إلى آخرها.
والآن ونحن أمام الأمر الواقع أحيي صاحب المئة والثمانين ألفا، وأناديه من راديو شكمبري مغنيا مع الآنسة بثينة: «مليكي أنا عبدك!»
الفصل العاشر
محمود خاطر بك
كان الأستاذ محمود خاطر بك، مدير مطبعة مصر، قد اقترح على جمعية المواساة الإسلامية أن تجيز تسمية كل غرفة من غرف الدرجة الثالثة في مستشفاها باسم من يتبرع لها بمبلغ ثلاثمئة جنيه عن الغرفة الواحدة، على أن تتعهد الجمعية بإبقاء أسماء المتبرعين ثابتة على تلك الغرف ما دامت الجمعية ودام مستشفاها.
قال: فإذا راق الجمعية هذا المقترح وعملت به، أرجو أن تعدني متبرعا بمبلغ ستمئة جنيه مصري لغرفتين إحداهما باسمي في قسم الرجال والأخرى باسم زوجتي في قسم السيدات.
فتقبلت الجمعية الاقتراح.
وافتتح خاطر بك وزوجته «المشروع».
ثم تلاه آخرون.
وفي المستشفى الآن 18 سريرا تبرع الخيرون بنفقاتها.
وحركة «الأسرة» هي المبرة الثانية التي يقوم بها الأستاذ خاطر بك. أما المبرة الأولى فعمارة أنشأها في عين شمس ووقفها على أن تكون مدرسة مجانية. •••
ليس خاطر بك نكرة، ولكنه رجل يعمل في هدو وروية، قليل الأصحاب، بعيد عن الظهور، لا تكاد تراه في المجالس أو في القهاوي.
سمعت اسمه لأربعين سنة تامة.
كان ذلك في سنة 1894، وقد بدأت قطارات الترام تدرج في العاصمة، فنشر الطالب محمود خاطر كتيبا عنوانه «صيحة الترامواي، أو صوت الويل للحمير والخيل»، قال فيه عن لسان الترام يخاطب جماعة الحمير والخيل:
رأينا من سائقيكم قلوبا غلاظا لا توقفها رهبة، ولا تصدها عن خشونة طبعها رغبة، ولقد رأينا بأعيننا ما أدركه آباؤنا وحدث به تاريخنا، أن أعناقكم وظهوركم كانت ولا تزال مبتلاة بالقروح القتالة، مسلسلة بأغلال الذل والهوان، يمتطيكم رجل أو اثنان أو ثلاثة كأنهم الجبال الرواسي، يجهدونكم فوق الاستطاعة جريا وسباقا ... إلخ.
وكان لأستاذنا «شيخ العروبة» فضل التعارف بيني وبين الأستاذ خاطر بك سنة 1898، وأهدى إلى شيخنا يومذاك نسخة من كتابه «تاريخ المشرق» الذي ترجمه عن ماسبيرو.
وأقرأني في غلافه البيت الآتي لمحمود خاطر:
تاريخ أسلافنا في الشرق مشرقة
يا حبذا لو عملنا مثلما عملوا
قضى الأستاذ خاطر بك حياته العملية في خدمة الحكومة ووظائفها، مبتدئا بالأموال غير المقررة، تحت يد سعادة قليني فهمي باشا، ثم مجلس إسكندرية البلدي فوزارة المالية للمرة الثانية، فوزارة المعارف فوزارة الزراعة. وكان مديرا للتعاون فوضع الأنظمة الإدارية لجمعيات التعاون الحاضرة. ثم نقل إلى القسم التجاري. وأحيل إلى المعاش فاختاره بنك مصر مديرا لمطبعة مصر.
شغف الأستاذ خاطر بك منذ حداثته بالطباعة والكتابة والأدب، فانتدب مساعدا لسكرتير لجنة إصلاح وتحسين الحروف العربية في مطبعة بولاق، التي ألفت سنة 1904 برياسة المرحوم إبراهيم نجيب باشا وكيل وزارة الداخلية يومئذ، وعضوية شيلو بك مدير المطبعة الأميرية، والشيخ حمزة فتح الله، وأمين سامي بك (باشا) ناظر مدرسة المبتديان الناصرية ومدرسة المعلمين، وأحمد زكي بك شيخ العروبة السكرتير الثاني لمجلس النظار. وظل خاطر بك يعمل في هذه اللجنة إلى أن أتمت مهمتها، واستنبطت حروف الطباعة الحاضرة بمطبعة بولاق. وازداد خاطر بك شغفا بالحروف والطباعة.
وعني بقاموس «مختار الصحاح»، فهذبه بوضع مواده على أوائل الحروف مع إفراد مشتقاته التي يصعب على الطالب ردها إلى أصلها مثل «اتأد» ومثل «ايم الله»، وأشار إلى أصلها الذي تطلب فيه وهو «وأد» و«أيمن».
وكتاب «مختار الصحاح» هو الكتاب العربي الوحيد الذي ضرب الرقم القياسي في عدد ما طبع منه، فقد ظهرت منه الطبعة الحادية والعشرون، ومتوسط ما يطبع منه كل مرة حوالي عشرة آلاف نسخة. وكان ينافسه كتاب «الدروس النحوية» لحفني ناصف وطموم وعبد المتعال، ولكن هذا الكتاب كاد يموت، أما مختار الصحاح فلا يزال متداولا وطبعاته متوالية.
وكان نجاح خاطر بك في «مختار الصحاح» مشجعا له على وضع «مختار القاموس» الذي استخلصه من قاموس الفيروزبادي، وقرأ ما حرره منه على شيخ اللغويين المرحوم محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي. واطلع المرحوم إسماعيل صبري باشا على شيء من هذا المختار، فقال فيه:
أخي هذا هو القاموس مختصر
ضمت جوانبه في طيها عجبا
يجاور اللفظ فيه اللفظ ينفحه
معنى يكون له أن ينتسب نسبا
ولا يزال الأستاذ خاطر بك مجدا في ترتيب هذا المختار وطبعه.
وانتهز فرصة وجوده في وزارة الزراعة وتدريسه الحساب الزراعي في مدرسة الزراعة العليا، فوضع عدة كتب ورسائل، أذكر منها: مسك الدفاتر للزارع والتاجر، كراسات التمرين على مسك الدفاتر، البورصة وبيع القطن، نهضة التعاون الزراعي بمصر، التعاون طبيعة في الخليقة، التعاون الزراعي وحساباته ... إلخ إلخ.
وللأستاذ خاطر بك شعر رائق دقيق.
زار صاحب الجلالة الملك فؤاد مدرسة الزراعة العالية، وكان الأستاذ خاطر مدرسا فيها للحساب، فاستقبل جلالته بقوله:
علم الحساب أطال فيك جهادي
ما بين عد ومكارم وأياد
لم يحص فضلا حاسب إلا رأى
من بعد فضل الله فضل فؤاد
وأنت تزور مطبعة مصر فترى كيف يكون المدير الفني الحازم، الواقف على الصغيرة والكبيرة من شئون عمله العظيم.
وهكذا يكون الرجال العاملون لخدمة بلادهم وإلا فلا.
الفصل الحادي عشر
العالمان سميكة وعكوش
أنعمت الحكومة البريطانية بنيشان الإمبراطورية من رتبة كومندور على صاحب السعادة مرقس سميكة باشا أمين المتحف القبطي.
ودعاه جناب المستر بيترسون إلى دار المندوب السامي، وقلده النيشان، وخاطبه بعبارة رقيقة قال فيها: «إن جلالة الملك تفضل فأنعم على سعادتكم بهذا الوسام جزاء الخدمات الجليلة التي أديتموها مدة سنين طويلة للمتحف القبطي الذي أنشأتموه، وما بذلتموه من الخدمات في مستشفى ذكرى اللورد كتشنر.»
ومنحت وزارة المعارف الفرنسوية رتبة أوفيسيه دا كادمي إلى الأستاذ محمود عكوش المعيد في المعهد العلمي الفرنسوي لآثار الشرق بالقاهرة.
والإنعامان دليل على تقدير حكومتين عظيمتين لمجهود علمي وأدبي يقوم به رجلان مصريان كلاهما قدير في الفن الذي تخصص له. •••
مرقس سميكة باشا خير مثال لقول المرحوم قاسم أمين: «الوطنية الحقيقية تعمل كثيرا، وتتكلم قليلا».
بل هو الرجل الذي يعمل ولا يتكلم.
خدم بلاده في مناحي الفنون والآداب والإنسانية والتربية والتعليم.
ولم يترك أو يبتعد إلا عن شيء واحد هو السياسة.
بعد أن أتم علومه الابتدائية، وحذق اللغتين العربية والفرنسوية، دخل في خدمة سكة الحديد المصرية، وترقى من أصغر درجاتها إلى أعلاها.
كان في عمله صغيرا وكبيرا مثال الجد والاجتهاد والمثابرة والقيام بالواجب.
عشق صغيرا الآثار المصرية عامة، والآثار القبطية خاصة.
فكان يختلط بجماعة السياح، ويرافقهم في زياراتهم لهذه الآثار، ويرشدهم إلى ما لا يعرفه جماعة المترجمين والأدلاء.
فارتبط بعدد من كبار السياح برباط الصداقة، وبينهم غير واحد من نخبة العلماء والباحثين في الآثار والوزراء والأسرياء.
واشترك في شبابه في الحركة الملية القبطية، وكان من الأعضاء المؤسسين لجمعية التوفيق القبطية والعاملين على نفي البطريرك السابق إلى ديره لاثنتين وأربعين سنة خلت.
واشترك في المجلس الملي الذي ألف عقيب نفي البطريرك.
وكان موضوع ثقة أبناء الطائفة فكرروا انتخابه لعضوية المجلس الأعلى غير مرة.
وعلى أثر خروجه من خدمة الحكومة انتخب عضوا في مجلس شورى القوانين.
وفي الجمعية العمومية وقف وقفته المشهورة مخالفا الأعضاء في رفض تجديد التعاقد مع شركة قنال السويس، وأبى إلا تسجيل أقواله كلها في محضر الجلسة.
وفي الجمعية التشريعية وقف وقفة أخرى في مشروع قانون «مدارس معلمات الكتاتيب»، فطلب أن تكون للمصريات كلهن بدون فرق في الدين، فوعده المرحوم سعد زغلول باشا باسم الحكومة المصرية أن يساعد أية مدرسة من هذا النوع ينشئها الأقباط.
وانتخب عضوا في مجلس المعارف الأعلى، فكانت له آراء قيمة في إصلاح برامج التعليم.
واشترك في لجنة مستشفى كتشنر، ولا يزال عاملا فيها.
ودعا إلى إنشاء كلية لبنات الأقباط، وبذل مجهودات تذكر في الحصول على أرض الكلية ووقفيات للصرف عليها. وما زال يتعهد المشروع بنفوذه وسعيه حتى أثمر الغرس. وعرف المصريون فضل هذه الكلية وفضلوها على المعاهد الأجنبية.
وانتخب لعضوية لجنة الآثار العربية، ويتولى الآن رياستها الفنية، ويديرها بخبرة أقر بها الأجانب قبل المصريين.
على أن أكبر أعمال سميكة باشا وأجدرها بالإعجاب المتحف القبطي الذي ربط به سلسلة المتاحف المصرية، وصار حلقة الاتصال بين متحف الآثار اليونانية الرومانية ومتحف الآثار العربية. وما زال يجد ويسعى حتى وضع هذا المتحف تحت رعاية الحكومة وجعله متحفا وطنيا ينفق عليه من مال الدولة.
ووضع أخيرا دليلا عربيا لهذا المتحف، هو الكتاب العربي الوحيد الذي يعرف القارئ بالفن القبطي وتطوراته وذخائره. •••
والأستاذ محمود عكوش ابن المرحوم مصطفى عكوش باشا مفتش جفالك الخديو إسماعيل.
كان جده من أهالي قوله الذين أتوا مع محمد علي.
وتربى الأستاذ عكوش في مدرسة الأنجال التي أنشأها الخديو توفيق لولديه الأميرين عباس ومحمد علي ، ولم يبق من تلاميذها إلا أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، وقفلت سنة 1886.
ومن مدرسة الأنجال تنقل الأستاذ عكوش بين المدرسة الخديوية ومدرسة محمد علي.
وقد بدأ حياته بالخدمة في الدائرة السنية كاتبا في قسم القضايا، تحت رياسة صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا.
ثم أبقي في وظيفته بعد تصفية أملاك الدائرة.
ودخل في امتحان عقد سنة 1905 لوظيفة مترجم في لجنة الآثار العربية ففاز بالوظيفة، وكان خير مساعد للمرحوم علي بهجت بك في مباحثه فأعجب به.
واحتاج المعهد الفرنسوي للمباحث الأثرية إلى أستاذ معيد، فانتدب بهجت بك الأستاذ عكوش لهذه المهمة.
وقضى الأستاذ عكوش في لجنة الآثار 25 سنة مترجما وسكرتيرا منتدبا.
وكان لرجال اللجنة وكبار موظفيها، وفي مقدمتهم سعادة سميكة باشا، ثقة تامة بالأستاذ عكوش ومباحثه، وما ينقله من اللغة الفرنسوية إلى العربية وبالعكس، ويحرره في اللغتين.
ولم يقتصر الأستاذ عكوش على عمله الإداري، بل عمد إلى الدرس والاستقصاء فتجد اسمه في مؤلفات الكابتن كريزول والسيدة ديفونشير.
ومن أعماله الفنية:
كتاب الجامع الطولوني.
ترجمة كتاب حفريات الفسطاط.
ترجمة رسالة القبة والطير.
ترجمة سلسلة تاريخية للآثار العربية.
رسالة في الآثار الإسلامية.
تاريخ العمارة في الإسلام.
بحث في عمل ماسبيرو (ينشر في مجموعة للمعهد الفرنسوي).
ولا يذكر اسم واحد من علماء المعهد الفرنسوي للآثار في مصر إلا مقترنا باسم الأستاذ عكوش، فعليه يقرأ هؤلاء العلماء بعض الكتب العربية، فيفسر لهم غامضها ويشرح متنها ويرشدهم إلى ما يرجعون إليه في إتمام مباحثهم.
وقد كان لهذه الخدمة الجليلة أثرها في نفس العالم الكبير المسيو بيبر حوحيه مدير المعهد، فطلب الإنعام عليه بوسام الأكاديمي ولبت وزارة المعارف الطلب.
وأقيمت في المعهد حفلة شاي خاصة أهدي فيها الوسام وبراءة الرتبة إلى الأستاذ عكوش.
ويقضي الأستاذ عكوش يومه في التدريس بالمعهد العلمي صباحا، والتأليف والدرس بعد الظهر، ثم النزول إلى شارع عماد الدين أو شارع فؤاد الأول لمسامرة بعض إخوانه في إحدى القهوات، والتقاط بعض المؤلفات والمصورات من الباعة المتجولين.
فإذا كانت الساعة السابعة عاد إلى داره في مصر الجديدة، لمعاودة البحث والدرس وتحميض بعض أفلام الفتوغرافية. •••
لقد اشترك سميكة باشا والأستاذ عكوش سنوات في خدمة الآثار العربية، ويقضيان الآن حياة متشابهة في الدرس والاستقصاء. وهكذا يجب أن تكون حياة العاملين.
الفصل الثاني عشر
إسماعيل شيرين
مات إسماعيل شيرين، فانهار صرح من صروح المجد والكرامة والأدب والنبل والإحسان.
كان إسماعيل كريم المحتد، أبوه حسين رمزي باشا قومندان الركايب الخديوية.
وجده لأمه شيرين باشا ناظر البحرية في عهد الخديو إسماعيل.
قبل أن تنشأ الأندية الأدبية ورابطات الأدب كان سلاملك دار المرحوم إسماعيل شيرين بك وإخوته في أول حارة الزير المعلق؛ مجمع أدباء العصر من كتاب وشعراء وصحافيين، يأكلون ويشربون ويتحادثون في شئون الأدب القديم والحديث.
لم يكن إسماعيل شيرين يكتفي بضيافة هؤلاء الأدباء، بل كان يملأ أيديهم وجيوبهم ذهبا عشرات ومئات، وينفق بسخاء على ما يريدون طبعه من مؤلفاتهم ومترجماتهم.
كان إسماعيل شيرين يقدر الأدباء ويعنى بأمرهم ويصادقهم لأنه كان أديبا، ولكن قل من كان يدرك مكانته الأدبية.
ثم كانت رسائله «الإخوانيات» التي نشرها بعضهم في مجلة سركيس خير برهان على علو كعبه في الأدب.
أما أدبه الخلقي فقد تجلى وأشرقت شمسه عندما كان سكرتيرا خاصا للمرحوم محمد سعيد باشا وزير الداخلية ورئيس الوزراء لاثنتين وعشرين سنة.
كان مثالا كاملا للجنتلة والظرف والقدرة على تصريف الأمور واستقبال الزائرين وتحيتهم.
يحدث هذا بما يرضيه، ويصرف ذلك بما لا يغضبه.
دخل عليه المرحوم السيد علي يوسف صاحب المؤيد، وطلب منه الاستئذان له بمقابلة سعيد باشا. فقال له: انتظر شوية لما يخرج المستشار الداخلي.
وشرب السيد علي يوسف فنجانا ثم آخر من القهوة، ومل الانتظار فقال: يا شيرين بيه مش قادر تزحلق لنا المستشار ده.
أجاب شيرين بك على الفور: ده انتم ألف محرر بقى لكم تلاتين سنة قاعدين تهاتوا وتنادوا مش قادرين تخرجوا عسكري إنكليزي واحد، أقوم أنا أخرج المستشار، قوم يا عم قشش على ميتك تسخن، الوقت راح والبياعين عايزين يسرحوا بالجورنال.
وحدث في أيام الجنايات السياسية أن وجد جندي إنكليزي قتيلا في شارع المبدولي على مقربة من دار شيرين بك، فوجهت التهمة إليه، وقبض عليه، وفتش بيته. وكان ما بدا للضباط الإنكليز المحققين من أدب شيرين بك ودماثة أخلاقه أقوى الأسباب على إبعاد الجريمة عنه، فأطلق سراحه مع الاعتذار له.
لم ينل إسماعيل شيرين حقه في وظائف الحكومة.
وكانت أخلاقه الطيبة هي الجانية عليه، فإنه لم يكن من طبائعه الملق أو التزلف أو التلون السياسي أو النفاق، وغيرها من صفات أصبحت في هذه الأيام من أقوى الوسائل للوصول إلى أكثر المناصب العالية في الدولة.
فأقران إسماعيل شيرين أصبحوا وزراء ووكلاء وزارات ومديرين ومحافظين.
أما إسماعيل شيرين فأبعد عن خدمة الحكومة، ولزم بيته، ثم أعيد إلى الخدمة وكيلا لمحافظة مصر، ثم مديرا لإدارة المطبوعات.
وكان وجوده في إدارة المطبوعات نعمة وبركة لكتاب الجرائد عامة والضعفاء منهم خاصة، يلاطفهم ويعطف عليهم ويبعد الشر عنهم جهرة وخفية.
وكان في سرائه وضرائه موئل أهل الحاجة والمتعطلين من العمل، فيفك ضيقتهم بماله، ويسعى بنفسه لتفريج أزماتهم وفتح أبواب العمل لهم.
وينفق في وجوه البر مستترا عن سعة غير طالب أجرا ولا شكورا، وغير مبال بمال يذهب في سبيل الله.
قابلته في الصيف الماضي بإستامبول في فندق «يكي كوي بالاس» على شاطئ البوسفور، وكان يشكو المرض، ولكنه نزل إلى الصالون لاستقبال الأستاذ السيد أبو الوفا الشرقاوي وهارون سليم أبو سحلي باشا، وجاء بولده وهو لا يبلغ الثامنة فتلا من محفوظه ما تيسر من آي الذكر الحكيم.
وقال شيرين بك موجها كلامه إلى السيد: إن القرآن الشريف هو خير ما أعلمه لأولادي ذكورا وإناثا.
وسأل السيد أن يبارك الصبي، فقبله وباركه ودعا له بالخير.
ولم ينفع هواء إستامبول في رد الصحة والعافية إلى شيرين بك، فعاد إلى مصر عليلا سقيما. ولكنه لم يكن يحس بتحسن صحته حتى يأتي سراعا إلى إدارة المطبوعات لمزاولة عمله والإحسان إلى طالبي رفده.
الفصل الثالث عشر
الملاك ميخائيل
قل إن كنت تغشى، في شهر نوفمبر، بيتا من بيوت الأقباط الأرثوذكس حتى يقدم إليك «فطير الملاك» إلى جانب فنجان القهوة.
وفطير الملاك هو قربان زحل القديم أو بسطة النيل، إذ كان قدماء المصريين يعتقدون أن زحل هو الذي بيده زيادة النهر وما يتبع هذه الزيادة من خير.
وكان يوم 13 بئونة هو اليوم الذي تنتهي فيه تحاريق النيل، ثم تأخذ مياه النهر في الفيضان، فكان الآباء المحترمون يتقربون إلى زحل في هذا اليوم بالقرابين والذبائح ليبارك النهر ويزيد ماءه.
وتنصر قسطنطين ملك الروم في القرن الرابع للميلاد فأباح لأهل مملكته، ومنها مصر، أن يعلنوا نصرانيتهم ويستولوا على هياكل الأوثان؛ فعمد السكندروس بطريرك الأقباط التاسع عشر إلى هيكل السرابيوم في الإسكندرية وحوله إلى كنيسة، وحطم صنم زحل القائم أمامه، وجعل عيده عيدا باسم ميخائيل رئيس الملائكة، وأمر بأن ترفع باسمه القرابين التي كانت ترفع باسم زحل.
ومن ذلك العهد عرف عيد الملاك ميخائيل، واتخذه الألوف من الأقباط شفيعا لهم وحاميا يصنعون الفطائر باسمه في كل سنة ويقدمونها إلى الفقراء، ويهدونها إلى الأصدقاء والأقرباء.
وبنيت باسم الملاك ميخائيل كنائس لا يزال بعضها قائما، منها كنائس طوخ طنبشا بجوار بركة السبع، وكنيسة سبرباي بقرب طنطا، والملاك البحري عند مدخل حدائق القبة، والملاك القبلي بقرب المعادي.
فعيد الملاك عيد مصري قبل أن يكون عيدا دينيا.
وعن هذا العيد روى ابن عبد الحكم روايته المشهورة عن «عروس النيل» التي قال فيها:
ولما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلها إليه حين دخل بئونة من أشهر العجم (كذا)، فقالوا له: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر من أبويها فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله ... إلى آخر القصة المعروفة.
وقد تناقل المؤرخون الرواية كأنها حقيقة ودونت في كتب التاريخ المقررة في وزارة المعارف ، إلى أن نهض بعض المحققين فأثبتوا أن الرواية خرافة، ووافقتهم وزارة المعارف على ما رأوا، وأمرت بحذف خبر العروس من كتب الميري منذ بضع سنوات.
وقال المقريزي في علاقة عيد الملاك ميخائيل بالنيل:
ومما اشتهر عند أهل مصر وجربته أيضا فصح، أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم في وقت الظهر من الطين الذي مر عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهما، وتوضع في إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل وتوزن، فما زاد على وزنها من الخراريب كان مبلغ النيل في تلك السنة بقدر عدد تلك الخراريب، لكل خروبة ذراع.
ومن ذلك أخذ شيء من دقيق القمح وعجنه بماء النيل في إناء فخار عمل من طين مر عليه النيل، وتركه مغطى طول ليلة عيد ميكائيل. فإذا وجد بكرة يوم العيد قد اختمر بنفسه، كان النيل تاما وافيا، وإن وجد لم يختمر دل على قصور النيل في هذه السنة.
ثم ينظرون مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء، فإن هبت طيابا فهو نيل كبير، وإن هبت غير طياب فهو مقصر ... إلخ إلخ.
ولا بد أنك تسخر يا سيدي القارئ لغفلة الآباء والأجداد عندما تقارن بين تجاربهم هذه والطرق العلمية المتخذة قاعدة لمعرفة حالة النيل، والتوسل بالسلكي واللاسلكي لمعرفة درجات الفيضان من أعالي النيل حتى «الروضة والمقياس» يوما فيوما، ثم التحكم في المياه وحبسها وتصريفها وتوزيعها بالسنتي والملي ومنعها عن إغراق البلاد.
ولكن «الهندزة» لا تدخل عقول الكثيرين من المؤمنين السذج من أهل هذا العصر، الذين لا يزالون يعتقدون أنه لولا «النقطة» التي يلقى بها الملاك ميخائيل إلى النيل ليلة عيده فلا زيادة ولا نقصان!
الفصل الرابع عشر
الأستاذ براشيا
في رسالة أخيرة لمكاتب «الأهرام» في الإسكندرية أن الأستاذ براشيا، مدير المتحف البلدي، ينوي التقاعد إذا هو عومل بمقتضى التشريع الجديد.
والأستاذ براشيا أحد الشخصيات العاملة في خدمة الآثار المصرية دون ضجة أو تهويش أو إعلان.
ترى اسمه مقترنا على الدوام بكل بحث خاص بالإسكندرية اليونانية الرومانية وآثارها وتخطيطها ومكتشفاتها وجمعية الآثار اليونانية الرومانية ومتحف الإسكندرية البلدي.
بقيت آثار الإسكندرية القديمة مطمورة حتى جاء بونابرت إلى مصر، فعهد إلى العالم سان جنيس بالتنقيب والحفر في مدينة الإسكندر المقدوني.
ثم أهمل البحث حتى سنة 1863، ففي تلك السنة عني الإمبراطور نابوليون الثالث بوضع تاريخ لمدينة ذي القرنين، وسأل الخديو إسماعيل معاونته على إتمام هذا الغرض، فعهد الخديو إلى المرحوم محمود الفلكي باشا بالكشف عن آثار تلك المدينة العظيمة.
فكانت مباحث هذا العالم المصري العظيم فاتحة التنقيب العلمي عن آثار العصر اليوناني الروماني. وكثر عدد المشتغلين بالموضوع والمهتمين به، وأغلبهم من اليونان والطليان والإنكليز، فألفوا جمعية أطلقوا عليها اسم جمعية «الإثنيوم» للدرس والحفر.
وكان لهذه الجمعية اليد الطولى في إعانة مجلس الإسكندرية البلدي على إنشاء متحف الآثار اليونانية الرومانية، فاستأجر لذلك في سنة 1892 دارا ذات خمس غرف في شارع باب رشيد لم تلبث حتى ازدحمت بالآثار، فأفرد لها في سنة 1895 جناحا في الدار الجديدة للمجلس وعمد إلى توسيعها شيئا فشيئا، ومنذ سنوات رأى أن يقيم للمتحف سرايا خاصة، وأقام مسابقة لعمارتها.
وكان المسيو جوزيبي بوتي أول مدير لدار الآثار اليونانية، فنشط للجمع والترتيب والتنظيم، ووضع أول كتالوج علمي للمتحف في مجلدين.
وخلفه في وظيفته الدكتور براشيا، وفي أيامه اتسعت دائرة الكشف عن الآثار، فألف لذلك جمعية اشترك فيها غير واحد، ليس فيهم من المصريين إلا أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، وليس لهم شيء يذكر من مباحث الجمعية ومحاضراتها بالنسبة إلى غيرهم من الأجانب.
وللسنيور براشيا كتاب بديع اسمه «مصر والإسكندرية»، فصل في الثلث الأول منه حالة الإسكندرية أيام البطالسة، تقرؤه فكأنك تعايش القوم وتجول في مؤسساتهم العلمية والصناعية والأدبية والتجارية. وخصص الثلثين للكلام عن المتحف.
وطبعه في إيطاليا قبل الحرب طبعا فنيا؛ نسخة بالإنكليزية وأخرى بالفرنسوية.
وجرى ذكر هذا الكتاب في إحدى جلسات مجلس إسكندرية البلدي، فطلب أحد الأعضاء الوطنيين ترجمته إلى اللغة العربية، وعهد في ذلك إلى شابين مصريين، قضيا في العمل شهورا طويلة ثم ظهر أن الترجمة مليئة بالأغلاط، فكفوا «على الخبر ماجور» وحفظت الترجمة، ولا تزال حتى اليوم مقبورة في «الدوسيهات»!
وألف السنيور براشيا كتابا ثانيا عن حركة الآثار والمتحف من سنة 1926 إلى اليوم، وطبعه في إيطاليا.
مئات من الشبيبة المصرية المنورة تصطاف في الإسكندرية سنويا، وتنعم بمياه البحر في ذاك «البلاج» البديع و«الكابينات»، وتقضي سهراتها في «الكازينات» و«الكاباريهات» المختلفة مقامرة راقصة؛ فهل تظن أن هناك عشرة فكروا في زيارة المتحف أو الآثار أو قراءة كتب بوتي وبراشيا وريتي وجرانفيل والأب ملحه؟
الفصل الخامس عشر
وليم شكسبير
دعي الدكتور حافظ عفيفي باشا، وزير مصر المفوض في إنكلترا، مع سفراء دول كثيرة إلى حفلة افتتاح مسرح شكسبير في سترافورد أون أفون، ورفع العلم المصري على المسرح في الوقت الذي رفع فيه سائر السفراء المدعوين أعلام دولهم عليه إلى جانب العلم البريطاني.
ومسرح الشاعر الإنجليزي مؤلف هملت وروميو وجوليت والملك لير، صرح إنكليزي دولي اشتركت فيه دول الأرض وكثير من الهيئات الأدبية اعترافا بفضل شكسبير على الأدب والشعر و«المرسح». وكان لمصر نصيبها، إذ اشترك صاحب الجلالة الملك فؤاد بمبلغ مئتي جنيه في إقامة هذا الصرح الأدبي العظيم.
وليس شكسبير غريبا عن مصر وأدبها الحديث، فقد نالت رواياته في مدارسنا و«مراسحنا» ما لم تنله روايات غيره من كتاب المسرح وشعرائه.
وإذا كان العامة من المصريين لا يعرفون شكسبير والخاصة لا يدركون أسرار رواياته؛ فإن الكل يعرفون هملت وعطيل.
وكان الأستاذ إبراهيم زكي بك، من كبار الموظفين بوزارة المالية، أول من عني لسبع وثلاثين سنة ونيف بترجمة خلاصة ثمان من روايات شكسبير عن تشارلس لامب.
ولنحو عشرين سنة نشر الأستاذ إسماعيل عبد المنعم كتيبا في 120 صفحة صغيرة الحجم عنوانه «على مسرح التمثيل»، لخص فيه سبعا من هذه الروايات، قال في وصفها إن شكسبير سطرها من أنفاس العاشقين وعبرات البائسين، وأرانا فيها أشكالا متضاربة من الطبائع وصورا شتى من العادات، فهذب النفوس وقوم الأخلاق، وثل بها عروش الظلم، وقوض دعائم الاستبداد.
وأخيرا عني الأستاذ أمين الغريب صاحب مجلة «الحارس» في بيروت (والمحرر في جريدة الأهرام الآن)، بوضع كتاب «روايات شكسبير، للشاعر الإنكليزي الأكبر»، وصدره بمقال نقد بديع «في تاريخ حياة شكسبير، ودرس فيه، وفي شعره، وفي الأخلاق».
وقد جاء في خاتمة هذا المقال: «يوجد من يظن أن أول من فتح أعين العالم على أهمية شكسبير هم الألمان فقد ترجموه قبل سواهم إلى لغتهم. وقام نقاد كبار منهم يوضحون مزاياه الرائعة، ومراميه السامية، حتى انفتحت أعين الدنيا على معينه الفياض، وتجلى فضله وتفوقه للعيان. وهكذا تحول أعظم شاعر في إنكلترا إلى أعظم شاعر في العالم.»
وكانت رواية «أوتللو» أو القائد المغربي أول رواية لشكسبير مثلت على «المراسح» العربية في مصر، ترجمت بإشارة سليمان القرداحي، ومثل فيها دور أوتللو، ثم اشتهر بعده في تمثيله أحمد فهيم ومحمد بهجت.
ونقل المرحوم نجيب الحداد، أو على الأصح اقتبس، رواية «روميو وجوليت» عن الفرنسوية، وسماها «شهداء الغرام»، واشتهر بقصائده التي خلدها الشيخ سلامة بصوته العذب، ومنها القصائد التي مطالعها: عليك سلام الله يا شبه من أهوى، وسلام على حسن يد الموت لم تكن، وأجوليت ما هذا السكوت ولم أكن.
وترجم غير واحد روايات شكسبير، وشخص أكثرها. على أن أبلغها وأسماها وأرقاها ترجمات الأستاذ خليل مطران، وقد شخص بعضها جورج أبيض.
وهناك ترجمات كثيرة لروايات شكسبير مذيلة بشروح ليستعين بها طلبة المدارس على فهم الأصل الإنجليزي.
وقد «مسخ» الأستاذ أمين عطا الله رواية شهداء الغرام، ومثلها الشيخ سلامة حجازي ليلة 28 مايو سنة 1906.
ولم يسلم شكسبير من عبث صغار شارع عماد الدين، فقد أخذوا بعض رواياته وقلبوها مهازل باردة غنية.
ومع وفرة الأقلام التي عالجت روايات شكسبير ونقلتها إلى العربية، فإن الرجل لم يدرس بعد بالعربية دراسة تحليلية تعرفنا حقيقته ورواياته، وهو عمل نرجو أن يقوم به أحد رجال الجامعة المصرية خدمة للأدب العربي وتخليدا لذكرى ذاك الشاعر في لغتنا.
الفصل السادس عشر
اللورد كتشنر
في تلغرافات «الأهرام» الأخيرة أن كاتبا إنكليزيا شرع في كتابة رسائل عن حياة اللورد كتشنر لمناسبة ذكرى غرقه سنة 1916.
ويقول «المقطم» إن كاتب هذه الرسائل هو المستر ستورس الموظف المعروف في دار الوكالة البريطانية قبل الحرب.
وهذه الناحية من حياة اللورد كتشنر التي يكشف عنها المستر ستورس، لا تزال مجهولة مع كثرة ما كتب عن اللورد جنديا وفاتحا وقاهرا للدراويش والبوير والهنود في حملاته المعروفة.
ومع كثرة هذه الكتب، فإنك تبحث عن كتاب في اللغة العربية عن اللورد كتشنر فلا تجد إلا كتيبا صغيرا للزميل عبد الحليم الغمراوي المحرر في «البلاغ»، ثم ما ورد عنه في كتاب «تاريخ السودان» للمرحوم نعوم شقير بك، والمقالات المبعثرة التي نشرت عنه في بعض جرائدنا ومجلاتنا، وأخصها ما ظهر عقب حادثة غرقه التي لم يرفع الستار عن سرها حتى الآن.
على أن هناك أثرا سياسيا عربيا للورد كتشنر، هو تقاريره عن أحوال مصر والسودان لما كان معتمدا لبريطانيا العظمى من سنة 1911 إلى سنة 1914، حيث سافر قبل نشوب الحرب وبقي في بلاده يعمل لتقوية الجيش الإنكليزي بالتطوع والتجنيد لمحاربة الألمان وأشياعهم.
في هذه التقارير الثلاثة، اقتفى اللورد كتشنر أوف خرطوم أثر سلفيه السياسيين كرومر وغورست في تدوين أحوال البلاد، مقتبسة من التقارير والمذكرات التي كان يرسلها إليهم الإنكليز الموظفون في الحكومة المصرية.
وتساوي هذه التقارير في أحجامها تقارير السير ألدون غورست.
وتقرؤها في الإنكليزية فتجد الفرق بين لغة كرومر الدسمة البليغة ولغة كتشنر العسكرية ذات الألفاظ المحدودة، لكل كلمة معناها.
قال في فاتحة تقريره عن سنة 1911:
بعدما غبت إحدى عشرة سنة عن مصر، حيث خدمت مدة في وظائف عسكرية وشبيهة بالعسكرية، سررت سرورا عظيما عند عودتي إليها، بتجديد معاشرة كثيرين من المصريين الذين تقادم عهد الصداقة بيني وبينهم، وتيسر لي إدراك التقدم والتغير الذي تغيرته مصر أكثر - على ما يظن - مما يدركه الذين استمرت إقامتهم فيها تلك المدة.
فلا جرم أنه يحق لسمو الخديو ونظاره وسائر موظفي دواوين الحكومة ومصالحها قبول التهاني بنجاح سعيهم في تحسين حالة الأهالي وتوفير اليسر والخير لهم.
على أن بلادا كمصر لا تزال تحتاج طبعا إلى سعي كثير، وإن يكن ذلك أضحى الآن أسهل مما كان عليه من الماضي.
والفضل في هذا التسهيل لمشورات ذوي العقل والحكمة التي تقلبت على سواها، ووطدت مالية البلاد على أركان المتانة والفلاح.
فإن ما أبداه اللورد كرومر والسير ألدون غورست كلاهما من صحة الحكم ومضاء العزيمة في الأمور المالية، كان عظيم القيمة في توفير أسباب الخير وارتقاء البلاد في المستقبل.
لما عدت إلى مصر بعد غياب طويل عنها أثر كثيرا في نفسي أن الذين فارقتهم وهم معشر متجانس من عقلاء المسلمين المعدودين طائفة قائمة على قاعدة سنن اجتماعية ثابتة؛ قد انشقوا وانقسموا إلى فرق وأحزاب سياسية.
إن ترقية أخلاق الشعب وإعلاء سجاياه يتوقف معظمها على نمو ضبطه لنفسه وتسلطه على نزق طباعه، حتى لا يطاوع أول دافع له من نفسه، وعلى تعوده الاعتماد على نفسه بلا تطفل وفضول، وعلى ممارسة المثابرة والثبات والجلد، فجهاد الأحزاب في مناظرة بعضها البعض لا يفيد اكتساب صفة من هذه الصفات التي ينال بها التقدم.
نعم إن الاهتمام بالمسائل السياسية اهتماما مقرونا بالهدوء والتأمل نافع للهيئة الحاكمة.
وأما الاهتمام الكاذب الذي يبنى عادة على تحريف الأقوال عن مواضعها وتصوير الأمور بغير صورها، فلا خير فيه لتوسيع العقل وتربية الأخلاق في شعب من الشعوب الشرقية.
لقد عرفنا اللورد كتشنر، لأول عهده بمصر في مطلع أيام الاحتلال، مفتشا للبوليس في العاصمة يكسر «الدكك» ويقذف بالكراسي في الشوارع؛ لأن أصحاب القهوات كانوا يصفون هذه الكراسي وتلك الدكك بطريقة مخالفة للنظام ومعرقلة لحركة السير على الأرصفة.
ثم عرفناه ضابطا في المخابرات بالجيش المصري.
وأخذ يرتقي حتى صار سردارا للجيش.
وكانت أبرز حادثة له موقفه المعروف أمام سمو الخديو السابق في حلفا، محتجا على حاكم البلاد الشرعي لانتقاده الجيش، ثم كان فتحه للسودان وابتعاده عن مصر.
فعودته إلينا تلقي على أحزابنا السياسية الدروس، وتعلمهم واجباتهم بمثل الطريقة التي يكتب بها اليوم اللورد جورج لويد حذوك النعل بالنعل.
ربما لا يعرف المستر ستورس عن اللورد كتشنر أكثر مما يعرفه عنه ضباطنا الكبار الأحياء، أمثال محمد كامل باشا ، وأحمد كامل باشا، وعبد الرحيم فهمي باشا، وعبد المجيد فريد باشا، ومحمود عزمي باشا، وعلى أحمد باشا، وموسى فؤاد باشا.
ولكن ستورس إنكليزيا يعرف كيف يقسم وقته بين الأكل وشرب الشاي والويسكي ولعب الكريكت والبريدج ومطالعة كتب أوليفر لودج وشعر بايرون وكلوريدج. ثم يجد لديه الوقت الكافي لكتابة الفصول الممتعة عن الرجل العسكري السياسي الذي عاش حياته أعزب لا يعرف للحياة الاجتماعية والمعيشة البيتية طعما.
أما ضباطنا الكرام فإن حياتهم في المعاش سر لا يحبون أن يعرفه أحد، ولا يصح أن نقول لهم عندكم وقت لتدوين شيء عن ناسف قبة المهدي.
الفصل السابع عشر
الزجال عزت صقر
مات عزت صقر أمير الزجالين ومجدد فن ابن قزمان والغباري ومدغيس، وتلميذ القوصي والنجار وزميل إمام ونظير.
مات عزت صقر، فنعته صحفنا كما تنعي كل من لا يعرف إلا بذويه وعشيرته، وسكت الأدباء والشعراء والزجالون، كأن عزت نكرة تطوى صحيفته ولا تقال كلمة في أدبه وفنه الخالد.
قال المرحوم محمد دياب: «يجيء الزجل على أوزان الشعر والموشح، إلا أنه يخرج من بابيهما بكونه بلسان العامة حتى إنه يشترط فيه اللحن.»
فالزجل ضرب من شعر العامة يمتاز فيه الأديب وتتجلى قدرة الناظم ورسوخ قدمه في الأدب، إلى جانب حلاوة لفظه ومعرفته بلهجة أولاد البلد وأمثالهم ونكاتهم وتعبيراتهم التي لها بلاغتها وسحرها.
لخمسين سنة كان للزجل في مصر أبطاله وفرسانه، وفي مقدمتهم المرحوم محمد عثمان جلال، والسيد عبد الله نديم، والشيخ حسن الآلاتي.
ثم حمل علم الزجل بعدهم الشيخ محمد النجار صاحب «الأرغول»، وحفني بك ناصف، والشيخ أحمد القوصي، وعبد الباسط الجوي.
وعن الفئة الأخيرة أخذ المرحومان محمد توفيق صاحب «الحمارة» وإمام العبد، وخليل نظير وعزت صقر.
وكان لكل واحد من هؤلاء ميزته وعلمه وأدبه وعلاقته بالعامة.
وقد امتاز عزت صقر على زملائه بوجاهة عائلته وطيب أرومته.
كان أبوه المرحوم أحمد صقر كبير الكتاب في مصلحة سكة الحديد.
وعني بتربية ولديه عزت وحافظ.
فلما أتم عزت دروسه في مدرسة النحاسين الابتدائية أدخله معه في سكة الحديد.
ولكن ذاك الفتى لم يطق العمل في الحسابات أرقامها، والتذاكر وإحصائها، فهجرها وانصرف إلى الأدب والتاريخ، وارتمى في حظيرة الأدباء والزجالين والشعراء، وقضى بينهم نهاره وليله.
وليل أهل الأدب الخالص اللف والبرم وارتشاف الملاذ كلها بريئه وآثمه.
وفي هذه الليالي الملاح تأدب عزت صقر وتمرس، وعرف ما لم يعرفه أبناء البيوتات الكبيرة من شقاء الشعب وذلته، فكان خير مثال في رقة الطبع والعطف على الأدباء اليائسين والبر بهم.
وسجل صقر أول أزجاله في جرائد المرحوم محمد توفيق صاحب «الحمارة» و«الأرنب»، ثم في جريدة «سر الليل» التي أصدرها المرحوم إمام العبد، وغيرها من تلك الوريقات الطيارة التي كانت تذيع شعر العامة الكبار الخاصة بأسمائهم، ومنهم المرحومان أحمد عاشور وخليل نظير، وشعبان عوني، ولغيرهم بتوقيعات رمزية.
وحمل عزت صقر علم الزجل، وصار زعيم الزجالين بعد وفاة الشيخ النجار، وأدخل على الفن كثيرا من الأوزان والتفاعيل.
وكان لا يلذ له غير جلسة وسط هؤلاء الأدباء المفاليك يباسطهم، وكان نديمه المرحوم خليل نظير الأسود، ومن قوله:
املالي واشرب يا نظير ما أحسنك
من خمر صافي من بنات اليهود
وانهب زمانك قبل ما ينهبك
واترك سياسة الكون لرب الوجود
واتخذ أحد بيوته في العباسية مقرا له، وأنشأ وسط حديقته كوخا دعاه «عشة اليابان» يجتمع فيه وأصدقاؤه الأدباء، والزجالون يتنادمون ويتناشدون القديم والحديث من الشعر والزجل. وبين الكاس والطاس يبتكرون الأزجال ويهتفون بالدعاء لأميرهم عزت إعجابا بما يقرع به آذانهم من روائع الكلم.
وأزجال عزت صقر منثورة في الصحف والمجلات، ويحفظها غير واحد من أدباء العصر. ومن أطلاها وأحلاها زجله الذي عاتب فيه السيدة منيرة المهدية، لخروجها من دائرة الغناء والرقص إلى تمثيل أدوار الرجال.
ومطلع هذا الزجل:
يام العيون الدبل
هو انت قال بتمثلي
كان في البلد ناس تسمعك
ولحسن صوتك تعشقك
وليه تفوتي مشربك
هو على زيته غلي؟
ومنه:
وهان عليكي الساعة كام
وفتى سي محمد ينام
الساعة ستة بالتمام
كنتي عشانه بتنزلي
ومنها رثاؤه للمرحوم إمام العبد، ومنها مقطوعات صغيرة جمة تدل على الذكاء المتوقد والقريحة الفياضة، مثل قوله في رثاء المرحوم أحمد عباس صاحب جريدة الخلاعة:
قالوا شعار الحزن لبس السواد
وأنا لموتك صرت أحسد نظير
حبيت أكون زيه في لونه الحداد
مصبوغ طبيعي زي قلبي الكسير
إن موت عزت صقر نكبة أدبية، لا يعزينا فيها إلا الأمل في ابنه علي عزت صقر الذي ورث عنه الأدب والزجل، والبقية الباقية في زجالي مصر الأدباء رمزي نظيم، وحسين مظلوم، ومحمد عبد النبي، ويونس القاضي، وعيسى صبري، ومحمد عبد المنعم، وحسين الحلبي. أطال الله حياتهم، وأعز بهم دولة الأدب.
الفصل الثامن عشر
الأب جريجوار
بينما كان الأهالي والعامة والخاصة في إسبانيا هائجين على رجال الدين يقتلون الرهبان ويهينون الأساقفة ويحرقون الديارات، وبينما كانت الحرب ناشبة في إيطاليا بين الفاشيست والفاتيكان؛ رأيناهم في فرنسا يحتفلون بالعيد المئيني لوفاة راهب جليل هو «أبونا جريجوار».
و«أبونا جريجوار» أو «الراهب جريجوار» علم من أعلام الثورة الفرنسوية يعرفه أبناء المدارس كما يعرفون أسماء بقية أبطال هذه الثورة.
توفي في 28 مايو سنة 1831 بعد أن لعب دوره خطيبا، وثائرا، وناقما على زملائه حملة القلانس السوداء، وداعيا إلى تحطيم دعائم الملكية ودك حصون الاستبداد، فحفظ المفكرون للرجل جميله وخدمته، وألفوا جمعية أطلقوا عليها اسم «جمعية أصدقاء الأب جريجوار».
وبدءوا منذ يوم 28 مايو بإقامة الحفلات التذكارية له، وأولها حفلة حول جدثه في مقبرة مونبارناس، وثانية في قاعة السوربون اشترك فيها كبار رجال الحكومة والعلماء، ثم حفلة أمام تمثاله في لونفيل، وثانية في فينو لوضع لوحة تذكارية على المنزل الذي ولد فيه الراهب.
وفي يوم 28 يونيو أقيمت له حفلة عظيمة في المعرض الاستعماري بباريس.
واليهود الفرنسويون في طليعة المشتركين في هذه الحفلات التذكارية، كما أن مفكريهم وعلماءهم يقيمون حفلات خاصة في فرنسا وخارج فرنسا اعترافا بالشكر لذاك الراهب المسيحي الذي دافع عنهم، واستطاع بعد خطبته البليغة في الجمعية التأسيسية في سنة 1791 أن يرغم تلك الهيئة على منح اليهود سائر حقوقهم أسوة بإخوانهم الفرنسويين.
ولو لم تكن مصر رازحة تحت أعباء همومها السياسية، لدعوت إلى الاشتراك في تكريم «الأب جريجوار» بصفته من رسل الإنسانية، وأكبر بناء وداع إلى وضع مبادئ «حقوق الإنسان».
ولكن من يدرينا أن تكون هذه الدعوة سببا في نكبة؛ لأنه محكوم علينا أن لا نتمتع بحق الإنسان، ولأن رجال الدين في طليعة من يقاومون هذا الحق؟
الفصل التاسع عشر
البرنس أمير الشعراء
توجوا «البرنس» أميرا على الشعراء ورئيسا.
كانت مؤامرة حيكت في بعكوكة أدب معروفة.
لماذا يؤمرون فلانا على الشعراء، ويرئسون فلانا على الأدباء؟ ولماذا لا يكون «البرنس» أميرا مثلهم؟
وانتهت المناقشة بأن يحتفل بتأمير «البرنس» ليساوي في المجد فلانا وفلانا.
وكانت الحفلة مظهرا من مظاهر الأدب والدعابة والفكاهة و«القفش» معا.
اشترك فيها الهراوي والأسمر وبشاي والقاياتي وحسين شفيق والكيلاني، وغيرهم من نخبة الشعراء الظرفاء الذين يجمعون في شعرهم بين القديم والحديث.
وبايعوا البرنس برنسا، وثبتوا ذاك اللقب الذي منحه له أهله صغيرا، وأيده صاحب العظمة السلطان حسين كامل لما زار دار الكتب المصرية. «البرنس» وما أدراك من «البرنس»؟!
رجل مغربي الأصل مصري المولد والنشأة.
كان أبوه من رجال قاسم بك الحلو.
ودخل البرنس مكتبا أوليا ثم مدرسة القربية ومنها إلى الأزهر ومن الأزهر إلى دار الكتب نساخا.
ينسخ للدار وينسخ للزبائن.
وسواء جلس كاتبا أو مشى صامتا فهو «غرض الإكالة»، يداعبه القراء الملازمون والنساخون المأجورون وكبار الموظفين وصغارهم، ويتجاذب أطرافه الأساتذة أحمد محفوظ ورامي والهراوي ونسيم وعبد الله حبيب والشيخ زين والعم عبد الرسول والمدير برادة بك، ويعطفون عليه حينا ويجرون شكله حينا آخر.
وقد عني الأستاذ عبد الله حبيب بتصوير «البرنس» صورة شائقة بديعة في كتابه «المغفل ... وقصص أخرى»، فقال: ... قصير القامة، غليظ البطن، واسع العينين، يرتدي الجبة والقفطان والطربوش.
تراه في خطواته البطيئة ومشيته المتهالكة يتمتم ببعض الأدعية والأوراد.
ثم تراه أمام الضريح الزينبي يمسك بيده قلمه الرصاص القصير، ويكتب على ورقة صغيرة أبياتا من الشعر يبين فيها السبب الذي جاء من أجله:
لصبحي بك مسألة
سألتك أن تحليها
غدا يشري فدادينا
فهيا باركي فيها
وهو بعد قليل أمام ضريح الإمام الحنفي يكتب له أبياتا أخرى، ويضعها عند مقامه من أجل مسألة أخرى.
ثم يعود إلى أصحاب الحاجات فيبلغهم أنه أوصل رسالتهم إلى الأولياء، وأنهم سيرون بعد أيام نفحات الإمام الحنفي والسيدة زينب والسيدة نفيسة. ... والبرنس شاعر، ولكنه ليس شاعرا متواضعا يعرف حقيقة منزلته بين الشعراء.
فهو شاعر متمرد الشيطان، لا يرى واحدا من الشعراء يفضله غير المتنبي.
فرامي شاعر الشباب أحد تلاميذه.
هكذا يزعم البرنس.
وبهذه العقيدة يخاطب رامي.
يدخل عليه مكتبه في بعض الأحيان غاضبا عاتبا: يا ابني يا رامي قصيدتك اللي منشورة النهارده في الأهرام نصها مسروق من شعري. - أهلا يا أستاذي البرنس، معلهش يا سيدي المسامح كريم. ويضحك رامي مع من حوله. ثم يعود البرنس إلى كراساته ينسخ فيها كتبه المخطوطة.
والبرنس عدا ذلك يعتبر نفسه شاعرا مجددا، أدخل على اللغة العربية كلمات جديدة. ويستشهد على ذلك بقوله: «شلن» برنسك إنه
أضحى فقيرا في الورى
ويريد بكلمة «شلن» أعطني شلنا.
وإذا انتقده رامي في هذا التعبير، فهو جاهل بأصول التجديد لا يعرف مصطلحاته. وتشتعل نار الجدال بينهما، فلم يكن يفصل فيها غير المرحوم حافظ بك إبراهيم، فيخرج «الشلن» فيذعن البرنس لرأيه ويرضى بحكمه. أما رامي، فله الويل تلميذ عاق، لا يرعى عهد تلمذته للبرنس، ولا يعرف التجديد.
يستطيع البرنس - دون مبالغة - أن ينظم في اليوم خمسين قصيدة، ففي الليلة الكبيرة لمولد الحنفي أو الإمام الشافعي ينتحي البرنس ناحية ويبدأ في نظم قصائده.
ولا نمضي غير ساعة أو ساعتين حتى يكون قد أعد عشرين قصيدة، يمتدح بها الأعيان النازحين من البلاد والتجار القائمين بإحياء المولد.
ثم يعود آخر الليل «يحصل» ثمن هذه القصائد الحسان.
وهو لجميع أفراح العاصمة الشاعر الذي لا يشق له غبار.
لم يكتف الأستاذ عبد الله حبيب بهذه «التصويرة» الحلوة، بل رأى أن يزيدها فقال إن لقب «برنس» عرف به صاحبنا منذ كان صبيا يقود أستاذا ضريرا يقصد سراي الجزيرة ليلقن سمو السلطان حسين دروسا في الفقه ... إلخ إلخ .
وهي رواية بعيدة عن الحقيقة؛ لأن «البرنس» لا تزيد سنه اليوم على الخمسين - حسب روايته - وهو يقول إنه لم يعرف السلطان حسين إلا عندما شرف دار الكتب فأنشده قصيدته التي مطلعها:
الكون من لألاء وجهك يشرق
وعلى الأريكة من سنائك رونق
والبرنس يعيش حتى اليوم أعزب، ويقطن غرفة في ربع لمواطنيه أولاد «بنونة» بأول العباسية.
هو بوهيجي أصلي تمام.
حياته يوما بيوم، يصرف كل ما يأتيه في نهاره، غير مفكر في ما يأتي به الغد.
يستيقظ مبكرا، ويذهب إلى المسجد الحسيني أو الزينبي أو السلطان الحنفي لصلاة الصبح، ثم يقصد دار الكتب للنسخ.
ويتناول طعامه في أحد مسامط الحسينية المعروفة.
لا يعنى في ثيابه إلا بحذائه، وهو «تغييرة فاسي» صفراء فاقع لونها، وهو يسميها بلفظه المعسول «بغلة».
ولو أنه ملك يوما عشرة جنيهات، لطار بها إلى الفحامين واقتنى بها أكبر عدد من البغال «شيالة الحمول».
ولا يقتني من الكتب إلا ديوان المتنبي.
ولما أحاط به الشعراء في حفلة التتويج وبايعوه أميرا عليهم، وقف وسطهم وأنشدهم قصيدة غراء قال فيها:
رجال المجد دمتم في المعالي
مدى الأيام سادات الرجال
لديكم قد حضرت ولا سواكم
أراه حائزا أحسن الفعال
فأنتم سادة الأدباء طرا
وأنتم كالفراقة في الجمال
وهذي حفلتي بكم أضاءت
بظرف علاكم إلى الكمال
فهنيئا للبرنس بإمارة الشعراء ورياسة الأدباء الذين أمروه عليهم، ورأسوه اعترافا بنبوغه وأدبه ورزانته وصبره على المكاره.
الفصل العشرون
أسعد خليل داغر
نعي أمس المرحوم أسعد خليل داغر.
مات الرجل الذي كان يجمع بين كثير من صفات وأخلاق وعلم وأدب قل أن اجتمعت لغيره من رجال القلم في هذا العصر.
اشتغل في شبابه بالتدريس في مدارس الأمريكان في صيدا بعد أن أتم علومه في كليتهم المشهورة في بيروت.
ولم يقتصر على التدريس، بل عمد إلى التأليف والترجمة.
وأنت تطالع قائمة مطبعة الأمريكان في بيروت، فتجد فيها أكثر من كتاب ورسالة بقلم أسعد داغر.
وله كتب كثيرة ترجمها ونشرت دون أن يذكر اسمه عليها.
ونشر وهو في لبنان تاريخ وليم الظافر، وكتاب «حالة الأمم وبني إسرائيل في سنة ميلاد عمانوئيل».
وأتى إلينا لخمس وثلاثين سنة للعمل في الصحافة.
وكانت مقالاته في المقطم عنوان النزاهة والأدب والدعوة إلى الأخلاق الكريمة، ولكنه لم يلبث في خدمة صاحبة الجلالة إلا ثلاث سنوات.
ودخل في وكالة حكومة السودان، فوجد لديه سعة من الوقت للعمل في الأدب والترجمة والتأليف ونظم الشعر، وله من المؤلفات نحو 20 كتابا ورسالة بين مترجم ومؤلف.
فمن مؤلفاته اللغوية: كتاب «تذكرة الكاتب في أغلاط الكتاب والمحررين وتصحيحها».
ومن رواياته: رواية «راسبوتين الراهب والمحتال» لوليم ليكيه، و«مذكرات اللادي اسكويث» التي ترجمتها بعده الآنسة منيرة صبري.
ومن قصائده الممتعة: «تاريخ الحرب الكبرى» شعر.
وأخيرا كتاب «مثلث الدمار في مساوئ الخمر والدعارة والقمار».
وتتسم مؤلفات الأستاذ داغر بطلاوة الإنشاء والتدقيق في اللغة مع بساطة العبارة وحلاوتها.
وصفة أخرى تعد اليوم نادرة في كتاب وأدباء العصر، فإن ما يسمونه الأدب المكشوف لم يعرفه أسعد داغر في كتابته، بل كل ما خطه قلمه كان مهذبا جديرا بأن تقرأه الفتيات والسيدات.
وقد ظهرت مقدرة الأستاذ داغر وفنه الصحافي في مجلة «المضمار» التي أنشأها بعد أن ترك خدمة حكومة السودان، وهي صحيفة عربية خدمت الفنون الجميلة والألعاب الرياضية وأذاعت أخبارها بعبارة رصينة ولغة مهذبة وصور أنيقة.
وخافها بعض الزملاء ولم يقووا على منافستها فعمدوا إلى محاربتها محاربة غير مشروعة، بأن اتفقوا مع باعة الصحف على ألا يحملوها فقضوا عليها، وهي في السنة الثانية من حياتها المباركة.
كان الأستاذ داغر من زبائن الاسبلندد بار عندما كان ندوة للأدباء ورجال القلم وكتاب الصحف.
وأخيرا عمد إلى بيته، فكان قليلا ما يزايله إلا إلى نزهة قصيرة أو زيارة عائلية أو الذهاب إلى إحدى المطابع أو المكتبات.
وكانت آخر صدمة أصابته وفاة السيدة قرينته، فرثاها بقصيدة تعد فريدة في بابها بين ما نظمه شعراء العصر في مراثي ذويهم.
وفي السنوات الأخيرة كانت داره مجمعا لبعض الأنسباء والأدباء مساء كل خميس.
كانت جلسات بريئة ليس فيها خمر ولا بوكر ولا بريدج.
لثلاثة أسابيع زرته حسب العادة، فقابلني ولداه وسألتهما عنه، فقالا لي إنه متوعك المزاج، فدعوت له بالشفاء.
إن سيرة أسعد خليل داغر من أعمر سير أدباء العصر وأحفلها بالمآثر الطيبة.
وهكذا يجب أن تكون حياة خدام الأدب والصحافة.
الفصل الحادي والعشرون
الأستاذ حسن حسين
نعت الصحف المرحوم حسن حسين أحد موظفي إدارة المطبوعات.
كان الفقيد كاتبا أدبيا وباحثا مدققا.
تلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدارس المرسلين الإنكليز، وأحرز فيها البكالوريا المصرية.
ثم اشتغل بالتعليم في المدارس الأهلية، وانتظم في سلك الجامعة المصرية في نشأتها الأولى.
واشتغل كذلك بالكتابة في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية.
ولم يلبث حتى عاف التعليم.
وكان كثير الاتصال والاختلاط بالمشتغلين بالحركات السياسية.
فلازم سنوات طويلة سيد أفندي محمد الذي انتهى به الأمر إلى الوقوف أمام المحاكم العسكرية والحكم عليه بالسجن.
وكان كثير الترداد على دار البرنسيسة ألكسندره أفرينوه بعد انتقالها من الإسكندرية واشتراكها في الأعمال السياسية والتجارية مع رجال السلطة العسكرية الإنكليزية.
ثم ألقى عصا التسيار في إدارة المطبوعات بواسطة صديقه وزميله في الدراسة بالجامعة الأستاذ فريد رفاعي.
ولم يكن قبل دخوله في الجامعة مقتصرا على الكتابة والتحرير في الصحف، بل وضع وترجم بعض كتب في مواضيع عدة بين تاريخية وفلسفية وعلمية، وساعد بعض المؤلفين والمترجمين البارزين في ما ظهر لهم من كتب ومباحث مؤلفة ومترجمة.
وقد امتاز على زملائه من الكتاب والمحررين بدراسة الفلسفة الهندية.
وترجم منها كتابا اسمه «الرجا يوجا» على ما أذكر.
ولم يكتف بالنظر في هذا الضرب من الفلسفة، بل كان يطبقها على نفسه تطبيقا عمليا.
فقد كان - رحمه الله - من العباد الزهاد.
يكره النقود، ولا يعرف كيف تصرف.
فكل ما كان يتناوله من هذا أو ذاك أجرة أو مكافأة لتحرير أو ترجمة.
وكل ما كان يأخذه مرتبا من إدارة المطبوعات كان يكتفي منه بأن يعده ثم يختزنه ولا يمس قرشا واحدا منه.
كان إذا مر بجماعة من إخوانه جالسين في قهوة أو بار يكتفي بتبادل التحية معهم، فإن أرغموه على الجلوس وتناول أي شيء من المشروب فلا يزيد ما يطلبه على ماء بارد أو فنجان قهوة.
وهكذا قل عن أكله، فهناك عزائم دورية منتظمة، وأكلات متقطعة عند هذا وذاك من موظفين، وتجار كتب، وأدباء، وعلماء، وأخصهم الشيخ طنطاوي جوهري.
وكان يكتفي عند هذا وذاك بأبسط أنواع الأكل وأقلها دسما.
كان يحمل تذكرة اشتراك في الترامواي، يأخذها من أحد أصحاب الصحف مقابل مقالات يكتبها له السنة بطولها.
ويحمل كذلك تذكرة من مصلحة التنظيم يدخل بها مجانا إلى حديقة الأزبكية وحديقة الحيوانات في الجيزة، حيث يتمتع بجمال الطبيعة وينصرف إلى القراءة والكتابة منفردا.
وأصيب بمرض عضال منذ سنوات، وأبت عليه فلسفته أن يقصد طبيبا أو يشتري دواء.
ومات فزالت بموته صورة الأديب الذي يجمع بين حب المال لجمعه وادخاره، وقضاء الحياة غير مشارك الناس في شيء من لذاتهم وشهواتهم الطبيعية.
الفصل الثاني والعشرون
المطران جرمانس فرحات
في منتصف الساعة الرابعة بعد ظهر يوم 20 مايو سنة 1934، احتفل بإزاحة الستار عن تمثال المطران جرمانوس فرحات في ساحة الكاتدرائية المارونية بمدينة حلب، تحت رعاية صاحب الغبطة البطريرك الماروني ورياسة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية.
وافتتح الاحتفال واختتم بالنشيد الوطني السوري، وألقيت فيه الخطب والقصائد، ورتل النشيد اللبناني والمارسلييز.
ولد المطران فرحات بمدينة حلب في 26 نوفمبر سنة 1680.
سليل بيت فرحات، وهو فرع من بيت مطر الذي يمت بصلة النسب إلى أسرة المشروقي الكبيرة من أهل لبنان الشمالي.
وتعد أكبر أسرة دينية، نشأ منها أربعة بطاركة و20 مطرانا و20 أسقفا ونحو 120 كاهنا.
تلقى العربية والسريانية صغيرا في كتاب للموارنة بمدينة حلب، ثم قرأ النحو على الشيخ سليمان المشهور بالنحوي، وعني بدراسة آداب اللغة والمنطق والفلسفة واللاهوت.
ثم أقبل على التاريخ وجد في حفظه حتى كاد - كما قال أحد مؤرخيه - يقال إن ذاكرته نسخة مشروحة لحوادث التوراة وأنساب العرب ووقائعهم وأيامهم وأمثالهم، وكتابا جامعا واضحا لأخبار المماليك وأقاصيص الآباء القديسين وكل ما يتعلق بالكنيسة من حدوث بدع واجتماع مجامع.
ولما بلغ العشرين صغرت الدنيا في عينيه فأعرض عنها ، واتفق مع 15 شابا من أخدانه وأصدقائه على الترهب، فقصدوا لبنان وعرضوا أمرهم على البطريرك أسطفان الدويهي الأهدني، فرحب بهم وأذن لهم بإنشاء الرهبنة الحلبية. وسكنوا دير اليشع النبي، ورتبوا فرائض رهبنتهم، ونذورها الثلاثة: الطاعة والعفة والفقر الاختياري.
وسافر إلى روما سنة 1711، فكان موضع إكرام الحبر الأقدس.
ولما عاد إلى لبنان انتدب لتهذيب كتاب «الدر المنتخب» ليوحنا فم الذهب المترجم عن اللغة اليونانية.
وفي سنة 1725 سيم مطرانا للموارنة في حلب، فلم ين عن الوعظ والتهذيب والبحث والتأليف إلى أن توفي إلى رحمة مولاه في 10 يوليو سنة 1722.
لم يكن جرمانوس فرحات رجل دين فحسب، بل كان دائرة معارف للعلوم المشهورة في زمانه، وقد امتاز على معاصريه بالشعر والمباحث اللغوية العربية.
أما الشعر فقد جمع في ديوان باسمه، وعني بتصحيح الطبعة الثانية له (سنة 1894) الشيخ سعيد الخوري الشرتوني صاحب قاموس «أقرب الموارد»، ولم يكتف بالتصحيح، بل ذيله بتعاليق «تقف عند التفسير لغرائب كلمه، ولا تجاوز كشف الحجاب عن مبهمه.»
وقال في المقدمة:
وأما بعض ما في شعره - رحمه الله - من الانحطاط، فله في ذلك أسوة بكل شاعر من فحول الشعراء، إذ ما من شاعر إلا له الغث والثمين، والجيد والرديء. وما وجدنا ناثرا ولا ناظما أحب إثبات كل ما شاءه من منثور ومنظوم، إلا رأيناه مختلف الكلام لا مستويه، واطلعنا على جيده ورديه. وما انفرد أحد بالجيد إلا من احتاط لمقامه واسمه، فأعاد النظر في نثره ونظمه، وأحكم تهذيبه وترصيفه.
وأشعار فرحات كلها في أغراض دينية وتقوية وروحية وأخلاقية.
أما جرمانوس اللغوي النحوي، فترى علمه متجليا في مؤلفاته، وتبلغ المئة، أذكر منها:
الأجوبة الجلية في الأصول النحوية (طبع للمرة الأولى في مالطا سنة 1832).
الإعراب في لغة الأعراب (وهو معجم لغوي عني بنشره المرحوم الكونت رشيد الدحداح، وطبع في مارسليا سنة 1849).
بحث المطالب في علم العربية (صرف ونحو).
الفصل المفقود. وقد حذا به حذو ابن هشام الأنصاري في كتابه «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب».
المثلثات الدرية. على مثال مثلثات قطرب.
فاحتفال الشهباء بذكراه ليس احتفالا دينيا لطائفة دينية، بل هو تكريم رجال الدين والعلم والأدب لرجل قضى حياته مجاهدا في سبيل الدين والعلم والأدب واللغة العربية.
الفصل الثالث والعشرون
عبد الرحمن الكواكبي
روت إحدى صحفنا المحلية أن صاحب السعادة محمود صدقي باشا محافظ العاصمة، قد اهتم اهتماما يشكر عليه بأمر قبر المرحوم العلامة عبد الرحمن الكواكبي بعدما اتصل به من أن القبر متداع إلى الخراب، فذهب مهندس لجنة الجبانات مع جماعة من أعضاء الرابطة الشرقية إلى جبانة باب الوزير وشاهدوا القبر، فاستقر رأي المهندس على وجوب نقل الرفات منه إلى جبانة المجاورين وأن توضع في مدفن مناسب ولائق.
لم يطق السيد الكواكبي الحياة في حلب، وهي مسقط رأسه، لما كان يشعر به من ظلم الأتراك، فتركها غير عابئ بالمنصب والجاه والمال، وطاف البلاد العربية، ثم ألقت به خاتمة المطاف إلى مصر فاستقر بها ونشر مقالاته التي جمعت بعد في كتابي «أم القرى» و«طبائع الاستبداد». وشارك إخوانه من أنصار الحرية في مصر في المطالبة بحقوق العرب وإنارة أذهانهم وشق طريق المجد لهم.
وتوفي لنحو ثلاثين سنة خلت، وكنت أساهره ليلة موته حتى منتصف الليل في سماع الموسيقى الإنجليزية بحديقة الأزبكية، وكان معنا في تلك الليلة ولده والأستاذ محمد كرد علي.
وفي صباح اليوم التالي نعاه إلي الأستاذ كرد علي.
وتناقلت الألسنة همسا أن الرجل مات مسموما، وأن قاتليه جماعة من أنصار المستبدين، وأعداء الحرية الذين يأبون أن يعيش الناس أحرارا كما ولدوا أحرارا.
وتوالت السنوات، وانقلبت حكومات، ووجدت حكومات، وتغيرت الدنيا ومن عليها، وكاد اسم الكواكبي ينسى، إلى أن فكر بعضهم في جثته وفي قبره.
وكان هذا التفكير من ثلاث سنوات، والمفكرون من أهل الوجاهة. وانتهى التفكير بكتابة مقالات على صفحات الجرائد.
وهكذا يخلد المتمدنون خدامهم، ونترك نحن رفات كبارنا ومفكرينا.
الفصل الرابع والعشرون
الصحافي جميل فهمي
انتقل إلى رحمة الله جميل فهمي أفندي المحرر في المقطم.
كان جميل محررا مخضرما.
قضى في خدمة صاحبة الجلالة نحو ثلاثين سنة.
كان مكاتبا بارعا ومخبرا نشيطا ، عاصر المرحوم سامي قصيري وعمل معه في المقطم، وكان زميلا للأساتذة نجيب هاشم وعمر منصور وعبد المؤمن كامل الحكيم وصالح شاكر.
وزامل بعد الحرب العشرات من الشباب الناهض الذين اتسع أمامهم مجال العمل في الأخبار المحلية، وأدخلوا بها كثيرا من التغيير والتبديل، فأصبح فيها تفصيل الجنايات، ومحادثة ذوي المقام، ومخالطة أهل شارع عماد الدين.
جرى ذكره يوما أمام النبيل إسماعيل داود فقال: هذا أخي.
قلت: إزاي يا أفندينا؟
قال: أخي في الرضاع، فقد رضعت من ثديي والدته طفلا، فله عندي مكانة الأخ.
برع جميل في جلب أخبار محطة مصر، وبرع كذلك في تدوين أخبار البوليس والنيابات والمحاكم، دون تهويش أو «زيطة» فارغة.
أرغمته الظروف أن يشتغل وهو في حاجة إلى الراحة بحكم السن والصحة، ولكن العيش القاسي المر الملح كان يدعوه إلى الجري والرمح. وقد كل بصره، فكان يملي على بعض الشبان.
في حياة جميل وموته عبرة للإخوان المتكالبين على الصحافة والعمل فيها، غير ناظرين إلى المستقبل الحالك الذي يسيرون إليه ببطء، وهم متهالكون في حياة «المراسح» وحفلات الشاي ومعايشة الوزراء وأشباه الوزراء.
رحم الله الفقيد، وعزى فيه أسرة الصحافة!
الفصل الخامس والعشرون
يوسف آصاف بك
أجازت وزارة الداخلية لصاحب العزة يوسف أصاف بك المحامي وصاحب جريدة «المحاكم» إصدار جريدته «المحاكم» يومية، بدلا من إصدارها ثلاث مرات في كل أسبوع.
الأستاذ آصاف بك شخصية تمثل لنا كيف كان يتأهب «أهل زمان» للدخول في معترك الحياة.
أرخ نفسه في كتابه «دليل مصر» المطبوع في سنة 1890 بما خلاصته قال:
إنه ولد في 15 أغسطس سنة 1859 في قرية الغيني من أعمال الفتوح بجبل لبنان. وتعلم اللغة السريانية والعربية على أساتذة مخصوصين حتى بلغ الثامنة فتوفي والده، وأدخلته والدته مدرسة «مار عبدا هرهريا» التي أنشأتها عائلته لتعليم أبناء الطائفة. فتلقى فيها العربية والسريانية والإيطالية واللاتينية والحساب والمنطق والفلسفة. ونظم وهو صغير الشعر في العربية والسريانية واللاتينية.
وفي سنة 1871 نال الشهادة من هذه المدرسة، وعين مدرسا في مدينة عكا. وأتم دروسه في الفلك والطبيعيات واللغة الفرنسوية ، وقرأ «الدر المختار» على الأستاذ الشيخ مصطفى محمد السمطي.
ولم يلبث في عكا طويلا حتى تعرف إلى شريف إسباني اسمه كارلوس دي ماريا، فصحبه إلى روما، ودخل إحدى مدارسها للتخصص في اللغة اللاتينية والتاريخ والقوانين الرومانية والفلسفة.
وترجم وهو في روما إلى اللغة العربية كتابا في الفلسفة لأنطونانشي، وقطعا لتيتوس ليفوس وشيشرون وفرجيل وهوميروس وديوجانس.
ثم سافر في سنة 1878 إلى تركيا للدخول إلى مدرسة الطب في إستامبول، ولكنه غادرها بعد أشهر لمناسبة قيام الحرب بين تركيا وروسيا، وقدم إلى مصر فاستخدم مترجما في الإسكندرية.
وتنقل بين دمياط والزقازيق مدرسا ومترجما، واشتغل في المحكمة المختلطة بالمنصورة.
وكان في أيام الثورة العربية وكيلا للبوستة في مجلة أبي علي، ولم ينجه من الموت إلا صديقه الشيخ عبد الرحمن الفار.
وبدأ عمله في الصحافة سنة 1886، فاشترى مطبعة المحروسة وجريدتها. وفي السنة التالية اشترك مع المرحوم سليم فارس في جريدة «القاهرة» الحرة ومطبعتها. ثم أنشأ المطبعة العمومية (في سنة 1888)، ولا تزال قائمة إلى الآن على ناصية شارعي الساحة وعبد العزيز أمام محل «أورزدي باك، عمر أفندي».
وفي سنة 1890 أنشأ جريدة المحاكم، وأدرج اسمه في جدول المحامين أمام المحاكم الأهلية بعد أن أدى الامتحان وفاز فيه بتفوق.
فإذا نحن «خصمنا» المدة الواقعة بين سنة 1859 وسنة 1890 وقدرها ثلاثون عاما، وجدنا أستاذنا يبدأ عمله في الصحافة والطباعة والقضاء منذ أربع وأربعين سنة بالكمال والتمام.
فمنذ سنة 1890 نسمع ونرى ونقرأ أسماء المطبعة العمومية وجريدة المحاكم و«الأفوكاتو» يوسف آصاف.
المطبعة تطبع الكتب والجرائد والمجلات، ويوسف بك آصاف يترافع أمام المحاكم ويقدم المذكرات، ويدير جريدة المحاكم ويحررها، ويؤلف ويترجم الكتب.
وأنت إذا رجعت إلى كتاب «معجم المطبوعات العربية» لمؤلفه المرحوم يوسف إليان سركيس، قرأت فيه تحت اسم آصاف (يوسف) أسماء المؤلفات الآتية:
أصول النواميس والشرائع سنة 93.
تاريخ سلاطين آل عثمان.
تاريخ عام لسنة 1887.
التعديلات القانونية التي أدخلت على القانون الأهلي من سنة 86 إلى 1895.
دليل مصر لسنة 89.
روضة الإنشاء سنة 1887.
شرح القانون المدني المصري.
شرح قانون العقوبات الأهلي المصري.
الطواف حول الأرض في ثمانين يوما.
الفريدة (مجموعة منظومات).
لقطة العجلان في أحوال جبل لبنان.
مجموعة مراثي المرحوم أحمد فارس الشدياق.
هذا هو الزميل القديم الجديد.
نشر «ترجمته» و«لستة» آثاره الأدبية بين تأليف وترجمة ذكرى لأبناء المدرسة الحديثة الذين قضوا سنوات في اللت والعجن في القديم والحديث والعمل على «هدم» غيرهم فانهدمت عليهم مدرستهم، ثم خلفتهم «شلة» أخرى يتبارى أفرادها في الدعوة إلى قتل «قدماء الكتاب والصحافيين» ليخلو لهم ولأمثالهم المكان.
إن آصاف وأمثال آصاف لم يهدموا ولم يبنوا وساروا باطمئنان، فخدموا اللغة والأدب، وبارك الله في عمرهم ومهد لهم سبيل العمل النافع.
فهنيئا لصاحب «المحاكم» عمله.
وجددي يا نفس حظك.
الفصل السادس والعشرون
ويصا واصف
احتفل بمرور سنتين على وفاة ويصا واصف.
ونقل جثمانه من مقابر الجبل الأحمر إلى المقبرة الخاصة التي شيدها له ذووه في جبانة الأقباط بهليوبوليس.
مضى ويصا كما مضى محمد عبده ومصطفى كامل وقاسم أمين ومحمد فريد وسعد زغلول، ولم يعن أحد بتدوين سيرته أو نشر ترجمته.
وويصا من الشخصيات البارزة النادرة.
ويصا الطالب الذكي، ويصا المعلم الحاذق، ويصا البار بأهله، ويصا المحامي البارع، ويصا السياسي الديمقراطي، وأخيرا ويصا محب الفنون وخادمها.
كان ويصا تلميذا في مدرسة النورمال التوفيقية في سنة 1887.
وكانت التوفيقية حينذاك في درب الجنينة، حيث توجد الآن دار محكمة الموسكي الجزئية.
وكان ناظرها المسيو بلتيه بك.
ومن تلاميذها الأحياء الوزير حافظ حسن باشا، وحسين طلعت بك، والأستاذ مرقس فهمي، وشقيقه الأستاذ يوسف صبري، وفهمي العمروسي، والمحامي رزق الله مكسي، ومحمد علي دولار بك، والأرخن جرجس فيلوثاوس، والأستاذ ميخائيل فرج، والأستاذ إسكندر سعد.
ولاحظ المسيو بلتيه بك أن التلميذ ويصا واصف أكثر إخوانه ذكاء واجتهادا، ولكن والده عاجز عن دفع مصاريف تعليمه، فسهل له السفر في بعثة حكومية إلى فرنسا، فأتم فيها علومه وحصل على شهادة أستاذ في العلوم من مدرسة سان كلو.
ولما عاد إلى مصر كان المستر دجلس دانلوب قد أنشب مخالبه في وزارة المعارف، وشرع يحارب اللغة الفرنسوية ومعلميها في مدارس الحكومة.
وكان ويصا ممن أصابتهم سهام دانلوب ومقذوفاته، فشمر عن ساعد الجد وحصل على ليسانس الحقوق الفرنسوية، وبدأ عمله في المحاماة بمكتب الأستاذ أنطون سلامة. ثم أتى إلى العاصمة، واشترك مع المرحومين مرقس حنا باشا وأنطون يزبك، ثم تفرقوا وعمل كل منهم منفردا.
جانب من جوانب ويصا لم يعرفه الكثيرون هو حبه للفنون الجميلة وشغفه بها.
كان كثير الألم لعدم قدرته على اقتناء التحف الفنية الثمينة، يذكر الفنون لأخصائه ممتعضا لجهل عامة المصريين وخاصتهم لها، والتمتع بسحرها.
وظهر حبه للفن وغرامه به في الجلسة التي عقدها مجلس النواب يوم 14 يونيو سنة 1924 تحت رياسة المرحوم أحمد مظلوم باشا.
في هذه الجلسة ألقى الأستاذ ويصا واصف خطبته المشهورة في الدعاية للفنون، ومطالبته بتقرير عشرة آلاف جنيه في ميزانية وزارة المعارف لتنشيط الفنون ونشرها.
قال الأستاذ النائب الفني:
لست في حاجة لأن أبين لكم أهمية الفنون الجميلة، ويكفي أن أقول إن الفنون الجميلة سواء كانت مصرية أو أوروبية نشأت ونمت في مصر، ثم أهملناها نحن واهتمت بها أوروبا، فأخذت تدرسها في مدارسها كما وضعها المصريون القدماء.
يقولون إن أحسن نحت في العالم هو النحت المصري، ومع ذلك نجد أن هذا النحت يدرس في أوروبا دون مصر. ولست في حاجة لأن أقول لكم إذا تركتم الحاضر ونظرتم إلى الماضي، فإنكم لا تجدون من أعمالنا شيئا دام على الدهر إلا الفنون الجميلة.
إننا نستطيع أن نقدم للتاريخ شيئا، وأن نتخذ فيه أثرا. ولذا أطلب من حضراتكم اعتماد عشرة آلاف جنيه لتنفق على الفنون الجميلة، وهذا مبلغ لا يكاد يذكر إذا قورن بما تنفقه البلاد الأوروبية على هذه الفنون، مع العلم بأن ميزانية المعارف في أكثر تلك البلاد قد ينفق نصفها أحيانا على تعليم هذه الفنون، وكثيرا ما تدفع الحكومات في شراء رسم جميل 20 أو 30 ألف جنيه. وحسبي أن أقول لكم إن النحات في أوروبا إذا ذاع صيته كانت له منزلة لا تقل عن منزلة رئيس الجمهورية، وإذا مات مشى الوزراء والسفراء في جنازته.
فاعترض الأستاذ حسين هلال بك مقرر لجنة المالية على هذا الطلب ببيان ختمه بقوله:
إن أمامنا طلبا، ولكن هذا الطلب غير مبني على برنامج، وكان يجب أن يقدم البرنامج إما إلى لجنة المعارف أو لجنة الميزانية لدرسه. وعلى كل حال إن هذا الطلب سابق لأوانه، ويمكن للمجلس أن ينظره بعد أن ينتهي من الطلبات التي ستقدم إليه من وزارة المواصلات بخصوص التليفونات، حتى إذا بقي شيء فإن اللجنة لا تعارض فيه.
فشرح الأستاذ ويصا واصف في إيجاز ما يقصد أن يصرف فيه المبلغ لتنشيط الموسيقى والتمثيل والرسم والزخرفة والفنون التطبيقية.
وانتهت المناقشة بأن وافق المجلس على تقرير المبلغ الذي طلبه المرحوم ويصا واصف، فكان نواة لما يقرر سنويا في ميزانية وزارة المعارف للفنون.
فإذا ذكر التلاميذ ويصا واصف معلما.
وإذا ذكر المحامون ويصا زميلا.
وإذا ذكر الوطنيون ويصا وطنيا مخلصا.
وإذا ذكر الدستوريون ويصا نائبا جريئا.
فحري بالفنيين ومحبي الفنون أن يذكروه فنيا مخلصا، أول نائب مصري قدر الفنون وعمل لترقيتها.
الفصل السابع والعشرون
علي الغاياتي
عرفت الصديق الغاياتي سنة 1906.
في هذه السنة سافر المرحوم إمام العبد وبعض إخوانه إلى دمياط.
وكان الغاياتي يعلم الصبيان القرآن الكريم واللغة العربية.
فما زال إمام به حتى أقنعه بأن يخرج من مقبرة دمياط ويأتي إلى القاهرة، حيث المجال واسع والدنيا عريضة لبناء مستقبله وإعلان علمه وفضله وأدبه وشعره ونثره.
فحضر الغاياتي إلى مصر، وتجرع كأس البؤس شهورا إلى أن دخل مصححا في جريدة اللواء، ومن اللواء إلى العلم في عهد المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش.
وفي أثناء عمله في التصحيح كان ينشر بعض رسائل أدبية وقصائد وطنية حماسية.
وبعد مقتل المرحوم بطرس غالي باشا (سنة 1910) جمع هذه الرسائل في ديوان باسم «وطنيتي»، وكتب مقدمته المرحوم محمد فريد بك.
وبينما كان الغاياتي مارا بشارع محمد علي قابل المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وقدم إليه نسخة من «وطنيتي» لتقريظه.
وكان صاحب المؤيد حانقا على جماعة الحزب الوطني فانتهز الفرصة لإيذائهم، فانتقى من الديوان كل «ما يودي في داهية » ونشره في مقالة بدأها بقوله: بعد استئذان قانون المطبوعات وقانون العقوبات نقتطف من كتاب «وطنيتي» للشيخ علي الغاياتي بعض أبياته إجابة لطلبه، غير محتملين مسئولية ما فيها.
وكانت هذه المقالة «ورقة اتهام» مهدت السبيل لمحاكمة الشيخ الغاياتي.
وأحس رجال الحزب الوطني بالخطر فهربوا الشيخ الغاياتي إلى إستامبول.
وحوكم المرحوم محمد فريد بك وحكم بحبسه ستة أشهر، وحكم على الشيخ الغاياتي غيابيا بالسجن سنة.
ولم ترق «دار السعادة» في عيني شيخنا الغاياتي، فركب قطار الشرق إلى جنيف، وبدأ حياة جديدة.
عاد إلى شظف العيش في الغربة، وذاق الأمرين في الحصول على الكفاف، ولكنه تجلد واحتمل وبدأ يتعلم اللغة الفرنسوية حتى نال منها نصيبا يمكنه من المخاطبة والتفاهم ثم الكتابة وتحرير الصحف.
وزرته في جنيف سنة 1921، فإذا السنوات العشر قد غيرت ذاك الشيخ الهزيل صاحب الجبة الطويلة الأردان، ورأيت شابا ممتلئا صحة وعافية مبرنطا أنيق الثياب.
الشيخ علي الغاياتي المصحح في العلم أصبح «مسيو جاياتي» المحرر في صحيفة «تريبون ده جنيف» يلخص أقوال صحف الشرق، ويحرر مقالات في المسائل الشرقية السياسية، ويعرف رجال حكومة جنيف ورجال جمعية الأمم، وله عندهم مكانة سامية.
وأخذني إلى بيته وقدمني إلى السيدة زوجته وهي شابة سويسرية، وكان له وقتذاك على ما أذكر ثلاثة أطفال.
وسمعت ممن صادفتهم حينذاك من الطلبة ثناء جما على ما يبذله الشيخ الغاياتي لهم ولغيرهم من المصريين الغرباء من خدمات أدبية ومادية.
وحاول الشيخ أن يراسل إحدى الصحف العربية في مصر أو سوريا أو غيرهما فلم يفلح، إذ كان يكتب لهذه وتلك فلا ينال منها غير مواعيد عرقوب، حتى إن السيدة زوجته لم تكن تراه يكتب رسالة بالعربية حتى تخطف القلم من يده وتمنعه من تسطير رسائل لا فائدة منها إلا إضاعة الوقت.
ومنذ اثنتي عشرة سنة أنشأ جريدة «منبر الشرق» بالعربية والفرنسوية، ولكنه أبطل القسم العربي، ولا يزال يصدرها نصف شهرية بانتظام باللغة الفرنسوية.
وقد عانى كثيرا من التعب في سبيل تثبيتها ونشرها فنال بعض ما تمنى، وهي وإن كانت غير معروفة في مصر فهي معروفة في جنيف، وفي كثير من الأوساط السياسية التي تهتم بشئون الشرق.
وأتى الشيخ الغاياتي إلى مصر بعد الهدنة فألقي القبض عليه وحجز في تخشيبة المحافظة ثم أعيد إلى سويسرا.
ثم سمح بدخوله إلى مصر فأتى بعد ذلك، فكان موضوع رعاية إخوانه وتكريمهم وعطفهم عليه.
هذا هو الشيخ الغاياتي الأزهري الوطني الذي قاسى كثيرا في سبيل الوطنية.
والمصري الذي كافح وجاهد فكان خير مثال لإخوانه المصريين الراغبين في الحياة الحرة؛ غير معتمد على مساعدة فرد أو جماعة.
وفي السنوات العشرين التي قضاها شيخنا في غربته، وأخصها أيام الحرب العظمى، أخبار وحكايات وأسرار نشر الأستاذ بعضها، وأخصها طريقة تهريبه من مصر.
أعانه الله على وقته، ويسر له العودة إلى بلاده التي لا يزال يهجس بها في صحوه ونومه.
الفصل الثامن والعشرون
عدلي يكن باشا
مساء الأحد 22 أكتوبر سنة 1933.
الحزن يشمل الأندية العامة التي اتصل بها نعي عدلي يكن باشا قبل أن تذيعه الصحف.
لفظ عدلي أنفاسه الأخيرة في مدينة النور التي عرفها صغيرا وأحبها كبيرا، بعد أن تلقى وهو حدث كتب راسين وكورني في مدرسة «مارسيل» معهد أبناء الذوات في القاهرة، كما تعلم التركية في بيت والده بمصر وإستانبول.
وأغرم بالأدب الفرنسوي وهو كاتب صغير في نظارة الداخلية فسهر الليالي في الدرس، ولم ينقطع ليلة عن المطالعة وقراءة المطولات في علوم السياسة والإدارة والقانون وتعلم اللغة الإنكليزية.
فلما كان مديرا للشرقية كان يفر من المجالس والسهرات ويعمد إلى تصفح الجرائد الحاوية نصوص المرافعات في قضية دريفوس واسترهازي ومرافعات لابوري الحرفية.
فإذا كان في باريس فهو الزبون الدائم لكشك بائعة الجرائد القريب من «الكافيه ده لا بيه»، يأتي إليه بنفسه وينتقي بيده أهم الصحف اليومية والجرائد الأسبوعية وكل ما هناك من دوريات وغير دوريات يعرف كتابها وأبحاثهم.
وعدلي الكاتب الصغير في الداخلية هو عدلي وكيل المديرية، وعدلي المدير، وعدلي المحافظ، وعدلي الوزير، وعدلي رئيس الوزارة، وعدلي المفاوض، وعدلي رئيس مجلس الشيوخ. الإنسان الصحيح، مثال الرقة والذوق والأدب والكياسة و«الجنتلة» بأقصى معانيها.
بعد اسم «سعد زغلول» تبرز في صفحة النهضة الوطنية ثلاثة أسماء كبيرة: رشدي، وعدلي، وثروت.
الوزراء الوطنيون الثلاثة الذين حرسوا الأمانة في أيام الحماية، وكانوا طليعة المؤيدين للدعوة إلى الاستقلال.
في 10 أكتوبر سنة 1917 أصدر عظمة السلطان فؤاد (صاحب الجلالة الملك فؤاد) أمره إلى المرحوم رشدي باشا بتأليف الوزارة، فثبت وزارته التي كانت قائمة منذ 19 ديسمبر سنة 1914.
وفي الوزارة الجديدة كان عدلي باشا كما كان في الوزارة السابقة وزيرا للمعارف.
وقدمت الوزارة استقالتها في أول مارس سنة 1919، إذ رفض المعتمد البريطاني الإذن للوفد المصري بالسفر إلى لندن لرفع مطالب مصر.
وبقيت البلاد بلا وزارة حتى سمح للوفد المصري بالسفر إلى لندن، فألف رشدي باشا وزارته الرابعة في 19 أبريل سنة 1919، واختير عدلي باشا وزيرا للداخلية.
وفي عهد هذه الوزارة وصل رجال الوفد المصري إلى باريس، وطرقوا باب مؤتمر فرساي ورفعوا صوت مصر وقدموا مطالبها. واعتصب موظفو الحكومة، وعبثا حاول المرحوم حسين رشدي باشا إرجاعهم إلى أعمالهم فرفع استقالته في 21 أبريل سنة 1919.
وبقي «مثلث رشدي عدلي ثروت» بعيدا عن الحكم في الوزارات الإدارية الثلاث التي ألفت بالتوالي، برياسة محمد سعيد باشا فيوسف وهبة باشا فمحمد توفيق نسيم باشا.
ثم عاد المثلث إلى الوزارة التي ألفت في 16 مارس سنة 1921 برياسة عدلي باشا، وعين فيها صدقي باشا نائبا للرياسة، وثروت باشا وزيرا للداخلية.
وسافر الوفد الرسمي برياسة عدلي باشا إلى لندن في أول يوليو سنة 1921، وفاوض اللورد كرزون، وأسفرت المفاوضة عن المشروع الذي رفضه الوفد فرفع عدلي باشا استقالته في 8 ديسمبر سنة 1921 وقبلت في 24 من الشهر المذكور.
وبقيت الحكومة بلا وزارة حتى أول مارس سنة 1922، ثم توالت وزارات ثروت باشا، ونسيم باشا، ويحيى إبراهيم باشا، فوضعت الدستور وأجرت الانتخابات.
وألف سعد باشا الوزارة الدستورية الأولى، ثم سقطت على أثر مقتل السردار، وعقبتها وزارة زيور باشا.
وشكل عدلي باشا وزارته الثانية في 7 يونيو سنة 1926، وهي الوزارة الدستورية الائتلافية التي استعفى عدلي باشا من رياستها في منتصف شهر أبريل سنة 1927.
وعاد فشكل وزارته الثالثة في 4 أكتوبر سنة 1929 على أثر إسقاط وزارة محمد محمود باشا، فاستصدر مراسيم ملكية بإلغاء القوانين الاستثنائية التي سنتها وزارة محمد محمود باشا، وأجرى الانتخابات لمجلس النواب.
وقال دولته حينذاك في حديث له مع مكاتب جريدة «شيكاغو تريبيون»: «إني أتمنى من صميم فؤادي أن يقبل البرلمان الجديد المعاهدة، فإنا لم نتقدم تقدما يذكر في السنوات العشر الماضية في شئوننا الداخلية بسبب التغييرات الوزارية والقلاقل السياسية، وها قد سنحت لنا الفرصة الآن للخروج من حالة لا تطاق.»
لم يشهد مجلس الشيوخ عهدا منظما مطمئنا مثل الفترة التي جلس فيها عدلي يكن على كرسي رياسة هذا المجلس، وعرف كيف يضبط الجلسة ويدير المناقشة ويفض المشاكل الكلامية دون أن يغضب عضوا أو يغري عضوا بعضو.
ناحية أخرى من حياة عدلي باشا القومية، هي رياسته لأكبر جمعية خيرية في مصر، هي الجمعية الخيرية الإسلامية.
أبعدها عن السياسة وعن الحزبيات، وقبض على دفة ماليتها، فكبرت ونمت وتشعبت فروعها وعلت صروح مبانيها ومعاهدها.
كان عدلي في الوزارة ومناصب الحكم مثله وهو خارج الحكم الرجل النبيل المفكر.
كانت الأمة في انتظاره لينقذ الموقف ويقود البلاد في حركتها القادمة.
ولكن هذه البلاد تعسة فقيرة في رجالها.
وليس فينا من يمكنه أن يردد قول الشاعر: إذا مات منا سيد قام سيد.
الفصل التاسع والعشرون
محمد مسعود
أحيل الأستاذ محمد مسعود، مدير قسم النشر والترجمة في مصلحة التجارة والصناعة، إلى المعاش لبلوغه السن القانونية.
الدكتور فارس نمر والأستاذان خليل زينيه ومحمد مسعود هم اليوم أقدم كتاب الصحف المصرية المعاصرين، ولكل منهم تاريخه وعمله وآثاره المجيدة في خدمة القمرة القمورة «صاحبة الجلالة».
بدأ الأستاذ مسعود حياته العملية فتى، فاشتغل مدرسا في مدرسة رأس التين، وكان من تلاميذها في ذاك الحين من تزيد سنه على المسيو مسعود.
ويقول «الشهرستاني» إنه في سنة 1889 أعلن عن وظيفة مغير في الكتبخانة الخديوية، فتقدم إليها الشاب (النونو) محمد مسعود، ولكنه لم يدخل الميري.
وانصرف إلى الدرس والمطالعة ومراجعة أجزاء الإنسكلوبيدية الفرنسوية (الكبرى) التي اشتراها حينذاك من «شبرقته».
وفي ذاك الحين أنشأ المرحومان الشيخان أحمد ماضي وعلي يوسف جريدة المؤيد، فتطوع الشاب محمد مسعود لمعاونتهما محررا في المؤيد ومترجما وكاتبا للسياسة الخارجية.
كان ذلك لأربعين سنة خلت بالكمال والتمام.
ومنذ انضم مسعود إلى الصحافة وهو بدرها اللامع ومترجمها البارع وأستاذها المحنك، صديق الجميع وأنس المجالس بالرغم من كل ما جرى من مخاصمات وحروب قلمية بين صاحب المؤيد وأصحاب المقطم، ثم بينه وبين صاحب اللواء، وأخيرا بينه وبين أحمد لطفي السيد، وحزب الأمة أصحاب «الجريدة».
وأنت إذا رجعت إلى الخمسة عشر مجلدا الأولى للمؤيد، فتأكد أن كل ما فيها من تلغرافات وفصول سياسية أجنبية من صنع الأستاذ مسعود، تتجلى فيها كلها الرقة والدقة والأمانة في النقل.
ولم يكتف مسعود بالكتابة في المؤيد، فأنشأ مجلة الآداب العربية وجريدة ممفيس الفرنسوية. واشترك (برضه منذ سبع وثلاثين سنة) كل من كامل إبراهيم بك (وزير الزراعة الحاضر) والمرحومين صالح نور الدين وعلي أبو الفتوح باشا (وكيل المعارف سابقا)، وكان الثلاثة قد قدموا حديثا من أوروبا بعد أن أحرزوا ليسانس الحقوق في جامعة مونبليه، فأنشئوا جمعية للتعريب وترجموا وطبعوا كتاب «أصول الاقتصاد السياسي» لجيوفنس، وأعلنوا عن ترجمة كتاب «التربية» لسبنسر ولكنهم لم يظهروه.
وتولى تحرير «المؤيد» الفرنسوي.
وترجم رواية «وردة» لإيبرس.
ونشر «تقويم المؤيد» الذي دعاه بعدئذ «تقويم مسعود»، وعطله في أول الحرب الدولية لارتفاع أسعار الورق.
واشترك مع زميله الأستاذ حافظ عوض بك في إصدار «المنبر»، ثم اختلفا فأنشأ الأستاذ مسعود جريدة «النظام».
ودخل في خدمة الحكومة ولكنه لم يترك الكتابة والأدب، فاستعان به سمو الأمير يوسف كمال الدين على ترجمة بعض أسفار تاريخية، ثم جذبته الصحافة فاشتغل موظفا فمديرا لإدارة المطبوعات فمديرا للنشر والترجمة بمصلحة التجارة، وهنا جدد شبابه وأعلن فضله بإحياء مجلة المصلحة وإصدارها شهرية منتظمة ضخمة حاوية أحسن ما يكتب.
وعهد إليه أخيرا في تحرير مجلة «الرابطة الشرقية»، فألبسها حلة جديدة من الترتيب والتنسيق.
واليوم يجدد الأستاذ شبابه، فليستعد القراء لقراءة الفصول الشائقة والكتب الممتعة بقلم مسعود ، أطال الله حياته ومتعه بالصحة والعافية!
الفصل الثلاثون
الكتبي يوسف إليان سركيس
قبل أن يشق الشارع الجديد الموصل بين الأزهر الشريف والدراسة فالمشهد الحسيني، كان هناك شارع الحلوجي، أعمر شوارع مصر بالكتبية وأحفلها بالوراقين وتجار الكتب القديمة والتغايير والنواقص والمخاريم.
ولولا ما كان يتخلله من دكاكين قليلة للقصابين والفطاطرية، فإنك إذ كنت تمر به تظن نفسك في دار علم لوفرة العاكفين على تصفح الكتب وتقليبها ومساومة تجارها في دفع ثمنها نقدا أو عينا ومبادلة.
ومن الأسف أن يزول هذا الشارع صاحب الفضل العميم على علمائنا وأدبائنا دون أن يفكر واحد منهم في تاريخه ووصف ذكرياته فيه وملاطشاته للشطار من تجاره.
وعبثا حاول شارع الفجالة أن يبز شارع الحلوجي وينافسه في تجارة الكتب، ولكن شارع الفجالة امتاز باتساع مكاتبه، وجمال فتريناتها، واختلاف درجاتها، فهو اليوم ولا نزاع شارع الكتبية والكتب، يقصده طالب العلم في المدارس ومحب الاطلاع على المطبوعات الحديثة والروايات الأخيرة والكتب «النص عمر»، كما يقصده نظار المدارس الأهلية للتوصية على الطلبات بالجملة وتجار الكتب في الأرياف.
فلا غرابة إذا أصبح لكل واحد من أصحاب مكاتب الفجالة اختصاص وزبائن معينون، وامتاز كل واحد منهم بدرجة معينة من العلم بفن الكتب وتجارتها.
فمنهم الجاهل الذي تضحك عليه، ومنهم الحريص الذي يكفيه نظرة واحدة إليك ليتبين درجة حاجتك إلى كتاب تقلبه بين يديك، ومنهم الخبير بالكتب النادرة والمطبوعات القديمة في مصر والشام والهند.
وكان شيخ هؤلاء التجار العلماء وأكبرهم سنا وأحذقهم وأدراهم المرحوم يوسف إليان سركيس الدمشقي، الذي توفي تاركا فراغا يعسر ملؤه ولو طال الزمن وكثر عدد المتوثبين على تجارة الكتب والنظر فيها.
ولد المرحوم سركيس في دمشق سنة 1856، واستوطن وأهله مدينة بيروت بعد حوادث سنة 1860.
وقضى 35 سنة في خدمة البنك السلطاني العثماني كاتبا ومديرا في بيروت ودمشق وقبرص وأنقرة والآستانة. ثم جاء إلى مصر سنة 1912، واشتغل بتجارة الكتب القديمة والتوصية على ما يطلبه تجار الجملة وغيرهم من مكاتب سوريا وتركيا.
وبدأ عمله بمصر في شقة بأحد منازل شارع الفجالة، ثم أنشأ المكتبة المعروفة باسمه وأولاده أمام قهوة الشانزليزيه.
ولكنك قل أن كنت تجده في مكتبته؛ لأنه لم يكن يفتر عن السعي و«الجري والرمح» وتحت إبطيه رزمة من الكتب القديمة، فإما «لقطة» ابتاعها بالثمن البخس أو «بيعة» لدار الكتب وغيرها من الهواة.
ولم تمنعه مشاغل الوظيفة في البنك العثماني وتجارة الكتب القديمة والحديثة عن العمل لخير الإنسانية، فتولى رياسة جمعيات خيرية عدة في بيروت ومصر، وأنشأ ملجأ في بيروت لإيواء أبناء الفقراء وتعليمهم، فتخرج فيه المئات مزودين بالعلم والأدب والصناعات اليدوية المختلفة.
ووضع في أيام شبابه وكهولته عدة كتب تأليفا وترجمة، منها: «أنفس الآثار في أشهر الأمصار» (وهي رحلته من الآستانة إلى روما في سنة 1903)، و«الرحلة الجوية في المركبة الهوائية» مترجمة عن جول فيرن، و«عاص وشجعان»، و«مائة حكاية وحكاية» بالفرنسوية والعربية، و«مختصر التاريخ المقدس» باللغتين. ووقف على طبع كتاب «الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب» لابن الشحنة، وكتاب «جامع الحجج الراهنة» للمطران يوسف داود مع تذييله بنقد علمي تاريخي.
على أن أهم ما كان يمتاز به الخواجا سركيس منذ حداثته النظر العميق في الآثار وجمع النقود القديمة والعناية بالكتب القديمة والمخطوطات ودراستها.
وكتب مقالات باللغة الفرنسوية عن الآثار في تركيا، كافأته عليها الحكومة الروسية القيصرية بتعيينه عضو شرف في معهد الآثار الروسي.
وقام بخدمات جليلة لمكتبة الفاتيكان فأنعم عليه قداسة بابا روما بوسام القديس جريجوار من رتبة شفاليه.
وقد تجلى علمه بفن الكتب في كتابه «معجم المطبوعات العربية والمعربة في الأقطار الشرقية والغربية مع ذكر أسماء مؤلفيها ولمع من تراجمهم من عهد ظهور الطباعة إلى نهاية سنة 1919»، وقد صرف في تأليفه وترتيبه عشرين سنة ونيفا، وتفرغ في آخر حياته للعناية بطبعه.
ومع كل ما يعتور هذا الكتاب من نقص وما وقع فيه من نقص ومن أخطاء، فلا جدال في أنه كتاب قيم يدل على سعة الاطلاع والمراجعة والترتيب والتنسيق.
وكان في نية المؤلف أن يضع للمعجم ملحقات سنوية يضمنها أسماء كل ما تخرجه المطابع العربية من المطبوعات المختلفة ، وطبع من هذه الملحقات أجزاء والظاهر أنها لم تلق ما كان يرجو لها من إقبال فلم يصدرها بالتوالي.
هذا هو الرجل الذي فقده شارع الفجالة وخسره عالم الكتب. رحمه الله، وعوضنا خيرا في زملائه من كتبية الفجالة وطباعيها وناشريها!
الفصل الحادي والثلاثون
توفيق مكرم
نعت الأهرام المرحوم «توفيق مكرم».
والرجل كهل في العشرة السادسة من سني حياته. تلقى من العلم القدر الذي كان يتلقاه أبناء الطبقة الوسطى من أهل زمنه، ودخل فتى في خدمة سكة الحديد، وقضى أيام شبابه في وظائف «الحركة» بالمحطات، ثم عين رئيسا لأحد أقلام قسم الهندسة، وأحيل إلى المعاش بحسب التشريع الوقتي، وأصيب منذ سنتين بمرض ألزمه الفراش حتى دعاه ربه فاستجاب الدعوة.
ليس هذا توفيق مكرم الذي أريد الكتابة عنه، فهذه الشخصية عديد أمثالها، وألوف يخدمون الإدارة والهندسة والحركة، ويأكلون ويشربون ويتزوجون وينسلون ويموتون.
ولكن «توفيق مكرم» كان شخصية أخرى، كان رجلا لا يعرف غير ديوانه وبيته، وقضى في بيته ثلاثين سنة جادا مجدا في اختراع أو ابتكار ما سماه «الطوب المعشق» أو «البناء دون مونة»، وهو نوع من الحجر الصناعي يمكن أي شخص أن يبني به بيته بيده، فلا يحتاج إلى مهندس أو بناء أو صانع سلالم أو مبلط؛ لأن «طوب مكرم» مصنوع بطريقة تنفع لتشييد الحيطان والسلالم والسقوف معا بأقل من نفقة البناء العادي كثيرا.
لم يكن توفيق مكرم مهندسا ولا شبه مهندس، ولكنه بدأ بتجاربه من باب التسلية وقطع الوقت. وفي بيته معرض بديع لهذه التجارب وأنواع ونماذج الطوب، مصنوع بعضها من الخشب والبعض من الجبس، تبين لك تطور الابتكار وكيف كان معتدا حتى أصبح الآن طوبة واحدة تنفع للزوايا والشبابيك والأبواب.
فاتح بعض أقاربه وأصدقائه في الموضوع فرموه بالعته والجنون والخيبة وإضاعة المال وحرمان أولاده القوت، فلم يبال بهم وسار في عمله. وانضم إليه نجار وبناء ساعداه زمنا طويلا دون أجر، ولمح مالي بوارق النجاح فمده بنحو خمسمائة جنيه ذهبت كلها في التجارب والمحاولات والرسومات.
وعبثا حاول أن يجد مساعدة من كتاب الصحف ومحرريها، فالبعض تكرم عليه بسطور، والبعض تمحل العذر بدعوى أن الموضوع فني لا يحتمل مسئولية الكتابة فيه، وقال له آخرون: إذا كنت تنتظر ربح الألوف من الجنيهات فنحن لا نكتب لك مقالة إلا بعشرات الجنيهات.
وسعى لدى كبار المقاولين فصرفوه بالتي هي أحسن لتأكد الكثيرين منهم أنه «يبوظ عليهم الصنعة».
وتردد على وزارة الأشغال، ودعا هذا وذاك من المهندسين وسألهم أن يبدوا له رأيهم كتابة بصلاح الابتكار أو فساده فأصروا على الإباء.
وعرض المشروع على أعضاء الرابطة الشرقية بخطبة مسهبة مفصلة بنماذج من الحجر، وخرجوا من الجلسة كما دخلوها.
وشيد دارا صغيرة في المعرض الزراعي الصناعي سنة 1925 زارها مئات الألوف وسأل بعضهم عن كيانها، والله يحب المحسنين!
وسمحت له مصلحة التجارة والصناعة بإقامة «كشك» في فناء المصلحة يمر به الزائرون مرور الكرام.
ولكن ذلك كله لم يقعد المبتكر عن تجاربه ومحاولاته، فأنفق عليها جزءا من «بدل المعاش»، ولم يغفل وهو على فراش الموت عن العمل ليلا ونهارا، وذهبت الروح إلى بارئها والرجل يتألم لأنه لم ير ثمرة جهده، لسبب واحد هو أنه مصري، وليس في مصر واحد أو جماعة تقدر اكتشافا أو اختراعا!
الفصل الثاني والثلاثون
مرقس حنا باشا
نعي صباح يوم 28 يونيو سنة 1934 المرحوم مرقس حنا باشا.
من المصادفات الغريبة أنه بينما كان في النزع نشرت جريدة «البلاغ» فصلا من كتاب اللورد لويد عن الوزراء ورؤساء الوزراء الدستوريين، قال فيه عن مرقس حنا باشا:
كان أقدر الوفديين في وزارة عدلي باشا. وهو ابن قسيس قبطي، تعلم في مصر ثم رحل إلى باريس حيث أتم دراسته. وكان قد نجح في المحاماة وحصل منها أعلى مركز مالي حسن. أما في السياسة فإنه كان من أول الأعضاء الذين انضموا إلى الحزب الوطني لتأييد مصطفى كامل مؤسسه الحقيقي، وبعد الحرب انضم إلى سعد. وفي سنة 1922 اصطدم بالسلطة العسكرية البريطانية، وبعد مدة حكم عليه بالإعدام لقيامه بأعمال ثورية، ثم خففت الحكم إلى خمس سنوات في الأشغال الشاقة، وأخيرا فرج عنه في مايو سنة 1923. وهو رجل زكي رضي الأخلاق مهذب الإشارة، وله مقام كبير بين طائفته. ولكن التسامح أو سعة الأفق في الرأي ليسا من صفاته، ولم يكن لهما أثر الرقابة على أعماله العامة.
لولا هذا «الاستدراك» الأخير في كلام المندوب المحافظ، لكانت كلماته خير وصف مجمل لمرقس حنا.
ولكن اللورد المستعمر لا يقصد التاريخ، بل لا بد له من التصوير والتلوين السياسي باللون الذي يراه من وراء نظارته الاستعمارية.
كان القسيس والد مرقس حنا من الفئة المختارة، التي تلقت العلم في مدرسة الأقباط في نشأتها الأولى. وذكره صاحب كتاب «تاريخ الأنبا كيرلس الرابع» بقوله:
المرحوم القمص يوحنا والد الأصولي مرقس أفندي حنا، وكان يدعى أولا نقولا أفندي وصفي، ابن المعلم مرقس أسعد دميان من المنصورة. رسم قسيسا لطنطا بعد أن كان ناظرا لمحطة تلا يوم 11 هاتور سنة 1591، وتوفي يوم 10 برمهات سنة 1596 ودفن بطنطا.
أدخل مرقس حنا صغيرا إلى مدرسة النورمال التوفيقية في عهد المرحوم بلتيه بك.
وكان من زملائه فيها المرحوم ويصا واصف والمرحوم ثروت باشا والأستاذ مرقس فهمي وحسن حافظ باشا.
ثم أرسل إلى أوروبا فتلقى الحقوق على نفقة أهله.
وعاد إلى مصر لأربعين سنة ونيف.
وشارك الشبان المصريين الذين تحمسوا للخديو عباس، فهاجموا عربته وحلوا خيولها وجروها إعلانا لفرحهم بتوليه عرش مصر، وتأييدا لسياسته الوطنية المضادة للإنكليز.
واشتغل زمنا وكيلا للنيابة في دمنهور، ووضع كتابا شرح فيه القانون الإداري المصري، كان الأول من نوعه.
ثم استقال من النيابة، واندمج في سلك المحاماة بأسيوط.
وانتقل من أسيوط إلى مصر، فاشترك مع المرحومين ويصا واصف وأنطون يزبك في مكتب بأول شارع الفجالة.
وساهم مرقس حنا في جميع الحركات الطائفية والسياسية والاجتماعية والأدبية التي جرت بمصر في الخمس والعشرين سنة الماضية.
كان عضوا عاملا بارزا في المجلس الملي القبطي العام، وله مع البطريرك السابق الأنبا كيرلس الخامس وقفات معروفة.
واشترك مستترا في الحملة التي أقامها الشبان الأقباط على الدير المحرق، وتولى الدفاع عن المتهمين فيها فبرئت ساحتهم كلهم ما عدا «الصحافي العجوز» وكان قائد الحملة وموقد نيرانها، فحكم عليه بالحبس شهرا مع إيقاف التنفيذ.
ولم ين عن الدعوة إلى تعليم البنات وتثقيف ألبابهن.
فكان القبطي الوحيد من الأعيان وأهل الرأي الذي وافق على دعوة الدكتور مرقس صادق لإعطاء البنت حق الولد في الميراث.
وله مرافعة بديعة ومذكرة أنيقة في قضية الآنسة أسما منصور، وقد تطوع للدفاع عنها في مطالبتها بدخول البنات في امتحان الكفاءة.
ثم قام بالدعوة إلى إنشاء كلية البنات القبطية في خطبة ألقاها في احتفال توزيع الدبلومات بكلية البنات الأمريكية، وألفت لجنة لإنشاء الكلية فاشترك فيها وبذل كل جهد في مساعدتها بماله ونفوذه ولسانه.
وكان عضوا عاملا في لجنة المؤتمر القبطي الذي عقد في أسيوط، وأبدى فيه آراء قيمة للتوفيق بين العنصرين.
وكان عضوا عاملا كذلك في جمعية الكشافة الأهلية تحت رياسة النبيل إسماعيل داود.
وكان في طليعة الذين لبوا الدعوة إلى إنشاء الجامعة المصرية سنة 1908، واكتتب لها بمبلغ 100 جنيه، وانتخب عضوا عاملا في أول مجلس إدارة لها.
وعرف إخوانه وزملاؤه المحامون الوطنيون فضله فانتخبوه غير مرة نقيبا لهم، فكان خير عامل لترقية الصناعة وإعانة الزملاء الذين أعجزتهم السن والمرض عن مزاولة الصناعة.
وساعد اللجنة التي ألفها مجتمع الإصلاح القبطي لإقامة معرض للصور سنة 1918 واشتركت فيه السيدة زوجته وبناته، فكان وجودهن فيه باعثا للفتيات المصريات على إظهار مواهبهن الفنية في الجفر والتصوير والرسم والنقش والزخرفة.
واشترك في الحركة الوطنية منذ نشأتها، فكان عضوا في الوفد، وكان خطيبا في الأزهر الشريف، وكان داعية للاعتصاب والاضطرابات، وكان النائب الوفدي في البرلمان والوزير في الوزارات الوفدية.
كان يشتغل في شئون طائفته ومصالح وطنه بعقله وأعصابه لا يبالي بوقت يضيعه ولا بمال يقذف به هنا وهناك في سبيل الخدمة العامة.
ولم يكن يعرف حق صحته عليه فأنهكه العمل ولزم فراشه منذ سنوات، وقد فقد كل شيء إلا الذكر العاطر والسمعة الطيبة رددها كل من عرف الرجل صغيرا وكبيرا، محاميا ووزيرا.
الفصل الثالث والثلاثون
السيد محمد الساسي المغربي
وكذلك توفي (في يوليو سنة 1934) الحاج محمد الساسي ، التاجر المغربي المعروف في شارع الفحامين.
وشارع الفحامين كان لسنوات مضت مركز كبار التجار المغاربة، تجار الجملة والقطاعي في الأحرمة والبطاطين الجربي، والزيت المغربي، والشاي الأخضر، والبلغ الفاسي، والنشوق، والطرابيش المغربي، والمحافظ الجلد، وغيرها من حاصلات ومصنوعات المغرب الأقصى والأدنى، من بنغازي شرقا إلى فاس غربا.
ورحم الله أيام كانت تلك السوق عامرة بكبار التجار، ومنهم الحاج أحمد بنونة، وسعيد بن فايد، وابن شداخ، وقاسم الحلو، وإسماعيل بن دياب، وابن شعبان، وابن سحلية، وابن شقرون، والشيخي وغيرهم.
وكان الحاج محمد الساسي في طليعة القوم ومن رجالهم المعدودين، وقد اشتهر من بينهم بطبع كتب الدين والعلم والأدب، ونافس كبار الكتبية والطباعين في الحي الحسيني والنبليطة والحلوجي، ومنهم الخشاب والطوبي وعبد اللطيف والبابي الحلبي ومصطفى فهمي وسعيد الرافعي.
والحاج محمد الساسي المغربي سليل عائلة كريمة في تونس، نشأ نشأة طيبة.
ولما بلغ الثامنة عشرة تاقت نفسه إلى زيارة بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج، فتم له ما أراد. ولما عاد من الحج إلى مصر اتخذها وطنا ثانيا له، واشتغل بتجارة الحرير في المحلة الكبرى.
وعاد إلى الحج غير مرة، وزار بيت المقدس.
ثم رأى أن يكون مجاهدا في سبيل الله، فزج بنفسه في الجيش التركي في حرب تركيا وروسيا سنة 1876، وعين إماما لإحدى فرق الجيش، وحضر عدة مواقع أحرز فيها ثناء رؤساء الجيش ومحبتهم له، لما طبع عليه من دماثة الخلق وقوة الإيمان وعلو النفس.
ثم عاد إلى مصر، وصاهر إحدى العائلات الكريمة في المحلة الكبرى. ونزح إلى مدينة القاهرة، واشتغل في أول أمره بالتجارة في الحاصلات والمصنوعات المغربية، فاتسعت دائرة عمله وامتدت معاملاته إلى الشام وتركيا والهند وجاوه.
وسافر إلى أوروبا غير مرة، وزار المكتبات الكبرى، وخالط كبار المستشرقين.
ثم تاقت نفسه إلى طبع الكتب الدينية والعلمية.
وبدأ عمله بطبع مدونة الإمام مالك، فسافر إلى المغرب الأقصى، وبذل المال بسخاء ثمنا لنسخة من المدونة مكتوبة على رق غزال، وعاد بها إلى مصر، وعني بطبعها وتسهيل اقتنائها.
وكان طبع المدونة سببا لقضية مدنية كبرى قامت بينه وبين زميله الخشاب، طال النظر فيها أمام المحاكم وانتهت بفوزه على خصمه.
ولم يكتف السيد الساسي بجلب المدونة وطبعها، بل أحضر من المغرب الأقصى بعض كتب أخرى خطية واقتنى مطبعة كبرى لطبعها.
ومن عيون المؤلفات التي طبعها كتاب المبسوط في مذهب أبي حنيفة.
وعني كذلك بطبع الأغاني، وكانت قد عزت النسخ التي طبعت في المطبعة الأميرية وندرت. وعهد إلى الأستاذ محمد مسعود بتحقيق الفهرست والوقوف على طبعه.
وعني كذلك بطبع «الحيوان» للجاحظ، و«المواقف» في علم الكلام، و«مقدمات ابن رشد»، و«البخلاء» للجاحظ، و«رسائل الجاحظ»، وغيرها من كتب الدين والتاريخ والأدب.
ورأى أن البلاد العربية في حاجة إلى خرائط جغرافية ملونة ومحررة بالعربية، فشمر عن ساعد الجد واضطلع بهذه المهمة، ووفقه الله إلى ما قصد. ولا تزال هذه الخرائط دليلا على عزيمة الرجل وجهاده لخدمة العلم.
وأردف الخرائط بمصورات عربية لعلم الأشياء والتاريخ الطبيعي، مدونة كذلك باللغة العربية.
وأعجبت وزارة المعارف بالخرائط والمصورات فقررت إدخالها في المدارس الأميرية.
ولم تلبث قليلا حتى انتشرت في البلاد العربية كلها.
وكان الرجل مع كثرة مشاغله واتساع رزقه ووفرة ماله لا يتأخر عن طلب العلم والاستزادة منه، فلما أنشئت الجامعة المصرية لخمس وعشرين سنة كان أول من أسرع إليها لسماع المحاضرات التي تلقى بها في التاريخ والأدب.
ورأى أن مخازنه بعيدة عن داخل المدينة، ففتح مكتبة في عمارة الأوقاف بميدان العتبة الخضراء، وكتب على مدخلها أسماء مطبوعاته المشهورة.
ولكنها لم تلاق الإقبال الذي كان ينتظره فقفلها، وحل محله فيها يونانيان يبيعان اللبن والحلوى فأزالا أسماء الكتب، وكتبا: اكميك قطايف. مهلبية. غريبة. فطاير. كنافة. بودنج. أرز بلبن.
ونالا ما لم يكن يحلم به السيد الساسي من هجوم الزبائن، ولم تمض عليهما سنوات حتى أثريا، وبنيا الدور والقصور. ثم وسعا دائرة العمل وأنشأا إلى جانب محل الفطائر والألبان قهوة تغص بالزبائن من الفجر إلى ما بعد منتصف الليل.
هذا هو الرجل الذي نعته الصحف كما تنعي عامة الناس الذين لم يخلفوا أثرا ولا ذكرا.
الفصل الرابع والثلاثون
فرنسوي كوتي
نعي من فرساي المسيو فرنسوي كوتي المالك السابق لجريدة الفيغارو، ومنشئ جريدة «صديق الشعب»، وصاحب مصانع العطور المعروفة باسمه، ومنشئ حركة التضامن الفرنسوي.
لم يكن كوتي من الشخصيات البارزة في باريس أو في فرنسا فحسب، بل كان من الأعلام البارزين في أنحاء العالم كله.
سل أية سيدة أو صبية من أهل الأناقة والشياكة عن كوتي، فتسمي لك نوعا أو أنواعا مختلفة من عطور كوتي التي تفضل أحدها على الأخرى، أو تخلط منها عطرا بعطر بمقدار معلوم لتخرج منها مزيجا طيبا لا يتمتع به ولا يعرفه غيرها من زبائن ذاك «الماوردي» الباريسي معبود نساء العالم.
ماركة «كوتي» تنافس هنا وهناك بقية الماركات المعروفة فرنسوية وإنكليزية أو ألمانية من العطور الغالية الثمن.
اشتهرت عطور كوتي فبذل المال لكبار الكيماويين والمقطرين، فاستخرجوا له الأنواع المختلفة، وعهد إلى هذا وذاك من الفنيين فسموا كل عطر باسم ساحر.
وكان للإعلان دوره في ترويج البضاعة الطيبة ذات الأسماء الرائعة.
اغتنى كوتي وأثرى، وامتلأت خزائنه بالذهب أولا والبنكنوت ثانيا، ففكر في عمل آخر يستثمر فيه ماله فلم يجد غير الصحافة.
فوضع يده على أكبر صحيفة سياسية أدبية في العالم.
وأي قارئ من قراء اللغة الفرنسوية لا يعرف «الفيغارو»؟
والذين لا يعرفون هذه اللغة يعرفون «الفيغارو» اسما.
والذين يجيدون اللغة ويتقنونها لا يقرءون إلا «الفيغارو»، ولا تلذ لهم مطالعة جريدة غيرها، لما امتازت به من أناقة الأسلوب حتى في الأخبار العادية.
والواقفون على حركة الأدب الفرنسوي الحاضر عامة والأدب الصحافي خاصة يعرفون أن الأقلام التي تحرر «الفيغارو» من أشهر الأقلام سواء في السياسة أو الأدب.
ومرت الحرب العالمية بأهوالها وتضاءلت أكثر الصحف الفرنسوية وغير كثير منها ورقه وشكل طباعته، أما «الفيغارو» فما زالت محافظة على ورقها الأبيض الصقيل الناصع وحرفها الجلي الواضح.
وتمتاز «الفيغارو» على غيرها بالصفحة الأدبية الفنية العلمية اليومية، ثم بصفحة الأدب الأسبوعية الممتازة.
وهناك ملحق فني ل «الفيغارو» فيه خبر ما يقرأ عن حركة الفنون، ومنذ سنوات أصدرت ملحقا مصورا بديعا.
ثم أنشأت مجلة خاصة للأطفال والأحداث.
وهذه المطبوعات كلها لها مكانتها في الأوساط الأدبية والفنية، ويتباهى أنصار الصحافة الراقية والطباعة العصرية باقتنائها والاحتفاظ بها مجلدة تجليدا فاخرا.
وسراي «الفيغارو» وسط الشانزليزيه من السرايات المشهورة في ذاك الحي العالمي، لا مثيل لها في دور الصحف الباريسية كلها.
نعم أنشئت في المدينة عمارات على الطراز الجديد مثل عمارة الطان وعمارة الانترانسيجان، ولكن سراي «الفيغارو» معروفة عند الجميع بالقاعات الكبرى ذات الأثاث الفخم، حيث يستقبل الملوك والأمراء والعظماء من زوار باريس.
على أن «الفيغارو» وكتاب «الفيغارو» وملاحق «الفيغارو» وسراي «الفيغارو»، لا تعد شيئا يذكر بجانب حكاية «صديق الشعب» التي أحرز فيها المسيو كوتي أعظم شهادة بأنه الصحافي الفراري الذي لا يبارى.
كانت «الفيغارو» ولا تزال صحيفة أهل الطبقة العليا.
فأراد المسيو كوتي أن تكون له إلى جانبها صحيفة شعبية تجمع كل مزايا الصحف اليومية من أخبار وصور ومقالات وتباع بنصف أو ثلث ثمن هذه الصحف، أي إنها تباع بسعر 10 سنتيمات (ورقا) في باريس وضواحيها و15 سنتيما في الأقاليم، في حين أن الصحف الأخرى تباع بثلاثين سنتيما و25 سنتيما.
أعلن المسيو كوتي خبر «المشروع»، فهاج الزملاء والشركاء، وهم جماعة أهل حول وطول وراءهم الشركات المالية الكبرى وعشرات الألوف من الباعة السريحة وأصحاب «الأكشاك» والمتعهدون الأصليون والفرعيون.
فوقف الجميع في وجه المسيو كوتي، وهددوه برفع دعوى أمام المحاكم طالبين منه الامتناع عن إصدار الجريدة وإنزالها إلى السوق بهذا السعر المخفض، ثم بالعطل والضرار والمصاريف و...
بنوا هذه الدعوى على أن المسيو كوتي متضامن معهم في ألا يبيع أحدهم صحيفته بأقل من 25 سنتيما.
فرد عليهم المسيو كوتي بأنه كان متعاقدا بصفته صاحب «الفيغارو»، أما الآن فهو يصدر «صديق الشعب» بصفته «المسيو كوتي» شخصيا.
وفي أثناء نظر هذه القضية، التي حكم فيها لصالحه، وضع الخصوم العراقيل، وأقاموا الحوائل في وجه «صديق الشعب».
تضامنوا مع أصحاب المطابع الكبرى في أن لا يطبع أحدهم هذه الجريدة.
وأمروا الباعة وأصحاب الأكشاك في أنحاء فرنسا ألا يحملوا الجريدة ولا يضعوها في أكشاكهم.
واتفقوا مع شركات الإعلانات على ألا تنشر إعلاناتها في جريدة كوتي.
ولكن كوتي كان أقوى من الجميع، فلم يبال بتلك الحوائل والعراقيل. وأتى بعشرات الألوف من الصبيان والبنات وسرحهم في باريس والضواحي والأقاليم بأعداد «صديق الشعب»، ولم تلبث حتى فازت في السوق على الماتين والبتي بارزيان والبتي جرنال؛ لأن الجميع وجدوا فيها خير ما يقرأ من مقالات تحررها أقلام كبار كتاب «الفيغارو» وغيرهم وأخبار جديدة، ونتف أظرف أهل الأدب.
وتم النصر لكوتي، وأقر له خصومه.
ومات كوتي، وأنزل إلى قبره مستريحا لأنه خدم بنات حواء وأبناء آدم بتعطير أجسامهم، وخدم الصحافة في «الفيغارو» التي تنازل عن ملكيتها منذ بضعة أسابيع، وفي «صديق الشعب» وهي اليوم أشهر صحيفة فرنسوية شعبية، وفي جمعية التضامن.
والعمر الطويل بعده لمولانا «أبو هنيدي» وإخوانه تجار التربيعة!
الفصل الخامس والثلاثون
الصحافي نجيب هاشم
مات نجيب هاشم، أقدم مخبر من مراسلي الصحف العربية المصرية.
مات وهو يؤدي عمله، إذ كان واقفا في محطة مصر يراقب حركة الذاهبين والآيبين ويحصي الكبار منهم، ويأخذ من هذا خبرا ويتلقى عن ذاك نبأ.
بدأ عمله صغيرا في جريدة الأهرام سنة 1889.
أرسل إلى الأقاليم وكيلا يحصل الاشتراكات ويستطلع الشئون الداخلية بمحادثة المديرين والمأمورين وكبار الموظفين.
وخرج من خدمة الأهرام إلى العمل في المؤيد مخبرا.
وكان يزاحمه في ذاك الحين المرحوم سامي قصيري في المقطم والمرحوم كامل دياب مراسل المؤيد في الإسكندرية.
وكان نجيب هاشم المجلى في الميدان، اشتهر بالسبق في جلب الأخبار والتفنن في استلالها.
وتناقل الزملاء عنه روايات وقصصا تدل على الذكاء والفطنة.
فقد كان يجمع القصاصات من سلال المهملات.
وكان يقرأ في المرايا ما يكون موضوعا على مناضد الموظفين.
وكان يأخذ عن السعاة والفراشين.
وكان يستنتج ويستخرج المجهول من المعلوم.
وبدأت شهرته وهو في المؤيد بقضية التلغرافات المشهورة، ثم كان له في كل حادثة يد.
وتنقل في جميع الصحف اليومية العربية بالقاهرة، وكاتب الصحف العربية التي كانت تصدر في الإسكندرية.
فاشتغل في المقطم، وفي جريدة مصر زمنا طويلا، وفي الوطن في أول عهد المرحوم جندي إبراهيم بك، وفي جريدة الإكسبرس، وفي جريدة الراوي لصاحبها يوسف طلعت باشا، وفي الجريدة عند أول صدورها، ومع الشيخ يوسف الخازن في جريدة الأخبار سنة 1907، وفي الأهرام، ثم المقطم ثانيا، وفي البلاغ.
ومن أهم ما يعرف عنه روايته خبر الاتفاق الإنكليزي الفرنسوي سنة 1904 قبل أن تشير إليه صحيفة أوروبية أو مصرية أو شركة تلغرافية.
وأنشأ لثلاثين سنة ونيف جريدة «الخزان» أسبوعية، ولكنها لم تعمر طويلا.
وكان يمتاز على الأغلبية الساحقة من المشتغلين بالأخبار بمعرفة جميع موظفي الحكومة الكبار من مصريين وأجانب، والمفوضين السياسيين، والقناصل الجنرالية، وكبار التجار والأعيان. فإذا كان هناك حفل أو اجتماع أملى عليك أسماء الجميع ووظائفهم دون أي خطأ في اسم أو وظيفة أو عمل.
وكان أنيق العبارة دقيقا في اللغة قد يمزق عشرات من الأوراق قبل أن يكتب لك خبرا في عشرين سطرا، ولكنه يخرج من تحت يده مشرقا مصقولا.
وكان يعرف ما لا يعرفه سواه من نظام الحكومة وسير الأعمال فيها. وتنقل الأوراق من مصلحة إلى أخرى ومن قلم إلى آخر، فيلاحقها حتى يظفر منها بورقة فيأخذ منها ما لا يستطيع أن يدركه سواه.
وكان وهو مقيم في العاصمة صيفا يدون لك أخبار بولكلي وكل ما يجري في هذا المصيف كأنه مقيم في الإسكندرية.
ولكن دائرة أخباره كانت محدودة لا تتجاوز ميدان لاظ أوغلي ومصلحة سكة الحديد، ولا يريد أن يعترف بما جرى في دائرة الأخبار من تغيير وامتداد، فلم تكن تعنيه حركة الأحزاب السياسية ولا الدوائر المالية ولا ما في السفارات والمفوضيات السياسية ولا البرلمان.
وكان من المستحيل أن يعتقد أن أخبار هذه الدوائر تهم القراء كما يهمها أخبار تعديل في نولون أصناف من البضائع أو حركة تنقلات في المحاكم.
عرفته في جريدة مصر سنة 1898، وكان يعمل معه فيها المرحوم إسكندر شاهين والأستاذ عوض واصف.
ولم يكن عمله مقصورا على الأخبار فقط، بل كان يكتب تعليقات على الأحوال الحاضرة بعبارته الأنيقة السلسة مفعمة بالنكتة الحلوة والتذكارات التاريخية.
لقد لعب نجيب هاشم دوره في الصحافة العربية، وقام بواجبه خير قيام.
ولكن شطرا آخر لم يجد من يعاونه على إظهاره.
فقد كان صدره يحوي ما لا يعرفه غيره من أخبار طبقات الموظفين، وأسرار الدولة، وعلاقات الموظفين بالحكومة، والمشتغلين في الصحف، لأربعين سنة مضت.
سأله غير واحد من أصحاب الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية أن يدون لهم هذه الذكريات فتكاسل وسوف ووعد واشتط في طلب الأجر.
ومات وماتت معه تلك الأخبار وما فيها من نوادر وظرف. رحمه الله، وأحسن عزاء ذويه وزملائه!
الفصل السادس والثلاثون
اللورد جورج لويد
في تلغراف خاص من لندن أن الديلي إكسبرس عقدت فصلا قالت فيه إن بعضا من المعجبين باللورد لويد يرون أنه قد يكون ديكتاتورا في المستقبل، فقد قبض على غاندي وقوض سلطة سعد زغلول.
قالت: «واللورد لويد وطني، شديد التعصب والمغالاة إذا قيس بغيره، وأصدقاؤه الذين يعاملهم معاملة الند للند قليلون. وكان يدع كبراء المصريين ينتظرون على بابه، وقد حكم هناك بيد من حديد.»
وأنت تقرأ هذه الفقرة فلا تدري أمدحا تقصد هذه الصحيفة أم ذما، والوجه الأول أقرب. ولكن الحقيقة على العكس، فإن الديلي إكسبرس من أكبر صحف الإمبريالزم وغلاة المحافظين المستعمرين الذين يريدون أن تذل الشعوب ويروا أمم الأرض كلها وعلى رأسها «طرح سود»! فالديلي إكسبرس محافظة تمدح محافظا.
كان المؤرخون في العصور القديمة يتجافون أن يذكروا عن ملوكهم وأقيالهم ما يشير إلى فوزهم على ضعيف أو عبثهم بذليل، ولكنا عشنا ورأينا وسمعنا هؤلاء الإنكليز يفخرون بما يفخر به الأطفال والبهال.
وهل نسيت حديثهم عن كتشنر؟
كان يلقبونه بالأسد الهصور و«سبع البرمبة» وقاهر السند والهند! فإذا أنت بحثت عن أسباب هذه «الهيصة» لم تجد سببا يدعو إلى مفخرة.
نعم كان صاحبنا بطلا صنديدا، ولكن أتعرف أين تجلت بطولته؟
كان على رأس جيوش قوية مسلحة بأقوى الأسلحة المدمرة، فهزم جماعة الدراويش حملة البنادق المهشمة والقسي والنبال والمرازيق المحطمة!
وكان على مثل هذه القوات الساحقة الماحقة في محاربة البوير من سكان بلاد الكاب وما حواليها!
وكان مسلحا بالمتراليوزات في قمع ثورات الأفريد أو العفاريت من الهنود المساكين الذين سحقهم الجوع والفقر وأنواع المخدرات!
والله أعلم أين كان يضعه القوم لو انتصر في مثل المواقع التي فاز فيها نابليون وفوش.
وجاء القوم اليوم يمجدون اللورد لويد، ويدعون أنه قبض على غاندي وقوض سلطة سعد زغلول.
وليس غاندي الصائم ممن يقبض عليه، وليس سعد زغلول الوطني ممن تقوض سلطتهم؟
إن جنديا واحدا يمكنه أن يمسك بتلابيب غاندي ويسوقه إلى السجن، ولكن الذي قبض عليه هو جسم غاندي، أما روحه التي تملأ فضاء الهند فليس في متناول يد لويد ومن هو أقوى من لويد.
وأربعة أو خمسة من الضباط المصريين ساقهم الإنجليز فأخرجوا سعدا وصحبه من دورهم وأبعدوهم إلى سيشل، ثم أخذوا سعدا إلى جبل طارق. ولكن روح سعد كانت في حياته، ولا تزال بعد موته، تملأ جوانح المصريين كلهم.
فانتصار لويد على غاندي وعلى سعد أكذوبة من أكاذيب القوم، ولو صدقت من الوجهة العملية فإنها لا تشرف مسلحا يقهر مجردا عن السلاح.
وليست الكبرياء من الصفات الطيبة، وليس مما يعلي قدر لويد في العيون أنه قل من كان يعاملهم معاملة الند للند، وأن المصريين كانوا ينتظرون على بابه.
ولو أن هذا اللويد خالط المصريين وتأدب بآدابهم وسمع كلام ربهم لاتعظ بقوله تعالى:
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها .
ليس هذا عصر المفاخرة بإذلال أشخاص أو جماعات ولا بديكتاتوريات، فالظلم مرتعه وخيم.
وفي أكسفرد حيث درس جورج لويد وأمثاله يقرءون التاريخ وفلسفة التاريخ، ويعرفون كيف كانت آخرة الظالمين
فلبئس مثوى المتكبرين .
عرف سعد الإنكليز بأنهم الأشراف المعقولون.
وليس من هؤلاء المعقولين مثل لويد بشهادة جريدة الديلي إكسبرس.
الفصل السابع والثلاثون
مصطفى فهمي باشا
لعشرين سنة خلت توفي المرحوم مصطفى فهمي باشا.
كان ذلك يوم 14 سبتمبر سنة 1914، ومدافع الحرب العظمى تدوي في فرنسا وبلجيكا وبروسيا الشرقية والبوسنة وسواحل الأدرياتيك.
توفي في الإسكندرية، ونقلت جثته إلى العاصمة، واحتفل بالجنازة في المدينتين احتفالين عظيمين.
كان مصطفى فهمي باشا كريدي الأصل جزائري المولد.
أتى إلى مصر صغيرا، وكفله خاله زكي باشا، وأدخله مدرسة القلعة فتخرج منها بعد ثلاث سنوات.
ثم دخل المدرسة الحربية.
ولما أتم دروسه فيها عين ياورا للخديو إسماعيل.
وتقلب في وظائف الخاصة الخديوية حتى صار ناظرا لها.
ثم كان محافظا للقاهرة، فمديرا للمنوفية، فمديرا لإنشاء سكة حديد السودان، فمحافظا للإسكندرية.
ودخل الوزارة ناظرا للأشغال سنة 1880، ثم ناظرا للحربية والمالية، فرئيسا للنظار في سنة 1890.
وفي 15 يناير سنة 1893 طلب منه سمو الخديو أن يستقيل فاستقال، وألف الخديو وزارة فخري باشا دون استشارة الإنكليز.
وكانت الأزمة السياسية التي انتهت بتأليف وزارة نوبار باشا في 15 أبريل سنة 1893، وعين فيها مصطفى باشا ناظرا للمالية.
ثم تولى رياسة الوزارة في 11 نوفمبر سنة 1895.
ومع أن الخديو السابق والعلماء كانوا مخالفين رأي قاسم أمين، فإن مصطفى فهمي باشا كتب إليه مؤيدا مبادئه في تعليم المرأة وسفورها.
وفي عهده أوقف العمل بقانون المطبوعات، فأصبحت الصحافة حرة، وأصبح لكل امرئ الحق في إصدار جريدة أو مجلة دون رخصة، ولم يعد هذا القانون إلا في عهد بطرس غالي باشا.
ولما احتفل بوداع اللورد كرومر يوم السبت 4 مايو سنة 1907 وألقى خطبته المشهورة، أشار فيها إلى مصطفى فهمي باشا بقوله:
وماذا أقول عن صديقي العزيز علي السامي المقام في عيني، عطوفة مصطفى فهمي باشا (تصفيق طويل وطويل جدا)؟ فقد قضينا السنين الطوال كلانا على أعظم صداقة شخصية.
فأولا:
أقول إنه من أعظم الذين التقيت بهم في حياتي لطفا وأكرمهم أخلاقا وأحسنهم مناقب (هتاف شديد، وتصفيق حاد)، امتاز بتمام الإخلاص والاستقامة والحرية والصدق في كل عمل من أعمال حياته (تصفيق).
وثانيا:
أقول إنه خدم أهل بلاده أجل الخدم، ولكن بطريقته المعهودة من السكينة والهدوء والابتعاد عن التعرض لغيره والدخول فيما لا يعنيه.
وأنا أعلم أن هذه الأقوال القليلة لا توفي صفاته الجليلة بعض حقها (تصفيق)، ولكنه لا يزال لدي قول كثير والوقت يقضي علي أن أقتصر فيما أقول.
وعلق الشيخ علي يوسف في «المؤيد» على هذه العبارة بقوله:
ذكر اللورد كرومر بعد رياض مصطفى فهمي باشا، صديق اللورد العزيز الذي كان ينتظر الناس أن يقول عنه ما قال وأضعافه ذلك الصديق العزيز الذي حلف له يوم عاد إلى رياسة النظار في سنة 1895 أن يبقى فيها ما دام حيا وما بقي اللورد في مصر. وقد بر بيمينه كما بر في يمينه عن رياض.
ولكن الناس لا يحكمون لمصطفى باشا حكم اللورد له في كل ما قال عنه.
بل يقولون عنه إنه أنكر نفسه وعرف اللورد، فاستحق أن يكون سامي المقام في عينيه لا في عيني الأمة المصرية.
وقال السير ألدون غورست في تقريره عن مصر والسودان سنة 1908:
وفي نوفمبر من السنة الماضية (1907) استقال مصفى فهمي باشا من منصب رياسة مجلس النظار، بسبب اعتلال صحته منذ زمن طويل.
وقد أفاد عطوفته في الثلاث عشرة سنة التي تولى الوزارة فيها بلاده وبريطانيا العظمى فائدة دائمة لا تزول، بحسن مساعيه الدائمة الصادرة عن نية خالصة في التوفيق بين العنصرين الإنكليزي والمصري وتعاونهما واتحادهما على خدمة الحكومة.
فإن معظم الفضل في التقدم الذي تم في عهد وزارته ينسب إلى زوال الخلاف والاحتكاك بين هذين العنصرين.
ولم يسع أحد قدر سعي عطوفته في توطيد أركان الاتفاق بينهما.
وقد رأت مصر في عهد وزارته من التقدم والنجاح المادي والأدبي، ما لم تره في سالف تاريخها كله.
فيحق لمصطفى فهمي باشا وزملائه بأن يهنئوا بالراحة التي نالوها بعد الجد والاجتهاد، شاعرين بأنهم أحسنوا صنعا في بلادهم وأهل بلادهم.
ولما استقال مصطفى فهمي باشا، أنعم عليه جلالة ملك الإنكليز بنيشان الحمام من الدرجة الأولى، اعترافا بخدماته الجليلة.
ولما نعي إلى سمو الخديو السابق، وكان حينذاك في إستامبول، أصدر أمرا تلغرافيا بأن يكون تشييع الجنازة رسميا.
وأرسل إلى كل من المرحومين محمود صدقي باشا وسعد زغلول باشا صهري الفقيد تلغرافي تعزية.
فقال في تلغرافه إلى المرحوم صدقي باشا:
فتفضل بإبلاغ تعزيتي إلى أسرته كلها، وبإبلاغهم اشتراكي معهم في الأسف على الخسارة التي لا تعوض في فقد رجل كنت أقدر إخلاصه الصادق وتعلقه المتين بي حق قدره.
وقال في تلغرافه إلى المرحوم سعد زغلول باشا:
سعادة زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية
لقد ساءني جدا وفاة رئيس وزارتي السابق مصطفى فهمي باشا.
ولا بد لي في هذه المناسبة أن أظهر لك انعطافي الودي، وأنك محتاج في مثل هذه الأوقات العصيبة أن تحفظ همتك كلها لتخدم بها أميرك وبلادك زمنا آخر طويلا.
لم يرزق مصطفى فهمي باشا ذكورا، بل خلف ثلاث بنات هن قرينات المرحومين الدكتور محمود صدقي باشا (الذي كان مديرا للصحة فمحافظا للقاهرة)، وإسماعيل سرهنك باشا (الذي كان ناظرا للمدرسة الحربية، ومؤلف تاريخ دول البحار)، والسيدة الجليلة صفية هانم أم المصريين حرم المرحوم سعد زغلول باشا.
وفيهن يقول المرحوم شوقي بك راثيا والدهن:
أأبا البنات رزقتهن كرائما
ورزقت في أصهارك الكرماء
لا تذهبن على الذكور بحسرة
فالذكر نعم سلالة العظماء
ولكم تليدي المجد هدم مجدهم
ما خلفوا من طالح وغثاء
إن البنات ذخائر من رحمة
وكنوز ود طاهر ووفاء
الباكياتك حين ينقطع الرجا
والزائراتك بالعراء النائي
الساهرات لعلة أو كبرة
الصابرات لشدة وبلاء
بالأمس عزاهن فيك عقائل واليوم
جاملهن فيك رثائي
عذرا لهن إذا ذهبن مع البكا
وطلبن عند الدمع بعض عزاء
ما كل ذي ولد يسمى والدا
كم من أب كالصخرة الصماء
أطال الله حياة السيدة الجليلة أم المصريين خادمة للبلاد وأهلها.
الفصل الثامن والثلاثون
ريمون بوانكاريه
توفي المسيو ريمون بوانكاريه رئيس الجمهورية الفرنسوية، وأطول رجال السياسة الفرنسوية عمرا وعملا بعد كليمانسو.
وأنت تستعرض حياة الأمة الفرنسوية وحكومتها لخمسين سنة مضت، فتجد اسم بوانكاريه في كل أثر وحادث كبير.
ظهر اسمه في أول شبابه عضوا في مجلس النواب.
ثم دخل الوزارات وزيرا، ورئيسا، ثم رئيسا للجمهورية.
وكان لرأيه المقام الأول في حوادث دريفوس وأغادير وحرب البلقان وسياسة توثيق عرى الاتفاق بين فرنسا وروسيا.
فلما أطلقت رصاصة سراجيفو لعشرين سنة كان الرئيس بوانكاريه في زيارة القيصر نيقولا الثاني في مدينة سان بطرسبورج.
ورأس الجمهورية طيلة أيام الحرب العظمى.
ثم استدعي لرياسة الوزارة فلبى الدعوة لخدمة بلاده.
ومما يذكر عن انتخابه لرياسة الجمهورية أن المسيو كليمانسو كان أكبر مزاحم له، وظهر في الدورة الصباحية للانتخاب أن الأغلبية لبوانكاريه، فاغتاظ كليمانسو، ودعا بوانكاريه إلى المبارزة، واجتمع الشهود في الحال، واتفقوا فيما بينهم على منع هذه المعركة، فتم لهم ما أرادوا.
وفي أيام الحرب دعا الرئيس بوانكاريه خصمه الشريف كليمانسو لرياسة الوزارة.
وسجل بوانكاريه خبر هذه المقابلة في أحد كتبه، فقال ما مؤداه:
أتاني النمر (لقب كليمانسو) هائجا كعادته، وأخذ يكيل لي المساب والمطاعن، التي لم تكن تفارق لسانه وشدقيه، وكنت في مقدمة من يعرفون كليمانسو، ويتقبلون أقواله الخارجة من قلب طيب ونية سليمة، وأخيرا بعد أن قال كل ما يريده لم أجد عناء في سبيل إقناعه برياسة الوزارة.
وكانت للمسيو ريمون بوانكاريه عناية بالأدب والتاريخ والفلسفة.
وبعد أن أتم دراسته العالية في باريس اشتغل بالصحافة، وكتب في الجرائد، وظهر نبوغه في كل ما كتبه.
وقبل أن يتولى رياسة الجمهورية انتهز فرصة خلوه من مناصب الحكم، واشترك مع ابن عمه المسيو هنري بوانكاريه العالم الرياضي، والمسيو إميل فاجيه الأديب الكبير، وأصدروا سلسلة مباحث في عشرين جزءا بعنوان «على عتبة الحياة»، قصدوا بها تبسيط كثير من المبادئ العلمية والأدبية والفلسفية، وتولت طبعها مكتبة هاشيت المعروفة، ونالت إقبالا عظيما، وانتفع بها عشرات الألوف ممن قرءوها واحتفظوا بها.
وللرئيس بوانكاريه مؤلفات كثيرة في الأدب والتربية، أذكر منها مجموعة مقالات في تربية المرأة العصرية وتعليمها.
وعني في آخر أيامه بتدوين مذكرات عن أعماله السياسية وما رأته عيناه وجرى له بنوع أخص في أيام الحرب.
وقدر له علماء فرنسا وأدباؤها فضله وخدمته للأدب والسياسة، فانتخبوه عضوا في الأكاديمي.
هذا هو فقيد فرنسا اليوم.
الرئيس العالم الذي يمثل لنا الحكام السياسيين الذين رفعوا رأس الحكومة والجمهورية لما كان اليونان والرومان في أول مجدهم وسلطانهم.
الفصل التاسع والثلاثون
سنية هانم
البقاء لله ! إسماعيل داود، منصور داود ، سعيد داود، سليمان داود، ينعون بمزيد الأسف ساكنة الجنان والدتهم. وستشيع الجنازة من محطة مصر، الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الثلاثاء 16 أكتوبر سنة 1340، وسيقتصر على تشييع الجنازة عملا بالسنة النبوية.
بمثل هذه العبارة البسيطة الساذجة الأنيقة نعى النبلاء منذ 13 سنة المرحوم والدهم ساكن الجنان محمد داود باشا ابن الأمير إسماعيل بك ابن المرحوم الأمير محمد علي باشا الصغير ابن ساكن الجنان محمد علي باشا الكبير رأس البيت المالك.
وقد توفي المرحوم محمد داود باشا بعد أن امتزج بأهل الحركة الوطنية، فأغضب بعض المقامات السامية.
فلما انتقل إلى رحمة مولاه اتفق أولاده على أن تكون الجنازة بعيدة عن الرسميات.
وكان حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد يومذاك في رحلة له بالوجه القبلي، فلما نعي إليه الفقيد أمر بأن تكون الجنازة رسمية يشترك فيها الجيش والموسيقى الراكبة والمدفعية.
فنقلت جثة الفقيد من داره بين الحلمية الجديدة والزيتون إلى محطة كوبري الليمون، ومن هناك سار الموكب الرسمي إلى المقبرة. وأقيمت ليالي المأتم الثلاث في دار السيدة حرمه بالجيزة.
وفقيدة اليوم السيدة الجليلة المرحومة المبرورة سنية منصور كريمة المرحوم منصور يكن باشا، ابن خال الأسرة المالكة، والوزير الخطير الذي خدم الدولة بعلمه وفضله، وباسمه سمي الشارع المشهور الذي تخترقه سكة حديد حلوان من محطة باب اللوق إلى ما بعد محطة السيدة زينب.
وأمها البرنسيسة توحيدة هانم زينة بنات الخديو إسماعيل وأحبهن إليه.
وكان الاحتفال بزفاف سنية هانم آخر الاحتفالات الكبرى في مصر التي ذكرت الناس بأفراح الأنجال.
بلغت أكلاف العرس ثلاثين ألف جنيه، منها عشرة آلاف جنيه نفقات المهرجان الذي دعي إليه يومذاك ألف نفس من الأمراء والوزراء والقناصل ورجال الجيش والأعيان وغيرهم.
والنبلاء أنجال المرحوم داود باشا خيرة أبناء مصر علما وأدبا وذكاء وكياسة، لهم اليد الطولى في نشأة الكشافة والألعاب الرياضية ومساعدة كل مشروع خيري وأدبي.
أطال الله حياتهم، ونفع البلاد بأدبهم وبرهم.
الفصل الأربعون
سلطان باشا
منذ خمسين سنة، نعت الأهرام يوم 19 أغسطس سنة 1884 المرحوم سلطان باشا بقولها :
ورد قبل ظهر أمس من قليني بك (والمقصود به سعادة قليني فهمي باشا أطال الله بقاءه!) في مدينة غراتس بالنمسا تلغراف إلى سمو الخديو (محمد توفيق باشا)، يعلن له فيه أنه في صبيحة النهار المذكور انتقل إلى رحمته - تعالى - المرحوم سلطان باشا.
فتأثر سموه من هذا الخبر كل التأثر. وأمر - حفظه الله - بإرسال تلغراف إلى قليني بك يأمره فيه باتخاذ الاحتياطات اللازمة لحفظ جثة الفقيد ونقلها إلى مصر حيث يحتفل بدفنها.
ولا ريب أن الجميع يتلقون هذا الخبر بمزيد الحزن، أسفا على فقد رجل له في التاريخ المصري شأن يذكر. وسندون في صحيفتنا زبدة حياة هذا الفقيد، سائلين المولى له التمتع بسعادة الجنان، ولآله التعزية والسلوان.
كان المرحوم محمد سلطان باشا علما من أعلام مصر، ورجال الدولة المعدودين في أيام كل من الخديوين إسماعيل وتوفيق.
مصري صعيدي صميم.
كان والده الحاج سلطان قرويا من أهالي حجازة.
هجر الوالد قريته إلى قرية «زاوية الأموات» شرق النيل تجاه بندر المنيا، وفي هذه القرية رزق بولده محمد سنة 1240 للهجرة.
وعني الوالد بولده فسلمه إلى فقيه علمه القراءة والكتابة وحفظه جزءا من القرآن الشريف.
ثم اشتغل كأبيه في الزراعة والفلاحة، وكان كثير النشاط، راغبا في الثروة، فنال منها بعض ما تمنى، وصار شيخا للقرية.
واتصل بالشيخ خالد، وتلقى عليه العهد، وصار من أولاده وأتباع طريقته.
وخلف المرحوم حسن الشريعي باشا في نظارة قسم قلوصنا في عهد عزيز مصر محمد سعيد باشا، ثلاث سنوات.
ثم صار وكيلا لمديرية بني سويف فمديرا لها.
ونقل إبان حكم إسماعيل باشا مديرا للغربية، فمديرا لأسيوط، فوكيلا لتفتيش الوجه القبلي، وناظرا للجفالك الخديوية في الصعيد، فمفتشا لمديريات الوجه القبلي.
ثم وشى به بعضهم للخديو، فغضب عليه وأمر بإبعاده إلى السودان رئيسا لمجلس الخرطوم.
وشفع فيه الخديو توفيق باشا، وكان حينذاك وليا للعهد، فرضي عنه الخديو. وعاد إلى بلدته زاوية الأموات، ثم أذن له بالإقامة في قصره بالعاصمة.
وعين مديرا لبني سويف في آخر عهد الخديو إسماعيل.
وتولى رياسة مجلس شورى النواب في فاتحة ولاية الخديو محمد توفيق باشا.
وكان سلطان باشا في طليعة المقاومين للحركة العرابية وأهلها، ومقدمة الأعيان الموالين للخديو، وقد صحبه إلى الإسكندرية في أيام الثورة.
وقد كافأته تركيا على إخلاصه للخديو بأن منحته رتبة بيلربك، وقلده درويش باشا بيلوردي الرتبة بيده.
ودون المرحوم أحمد تيمور باشا تاريخ سلطان باشا في مذكراته الخطية التي عنوانها «أعيان القرن الرابع»، ونشرتها مجلة «الرسالة»، وقد قال في ترجمة حياة سلطان باشا:
ثم قامت الحرب على ساق وقدم بين الإنكليز والعرابيين، فندبه الخديو لمساعدة الإنكليز وإرشادهم إلى الطرق، فبذل ما في وسعه، وكاتب بعض مشايخ العرب والعمد ومن لهم شأن يمنيهم بالخلع والرتب والأوسمة على أن يبذلوا الطاعة للخديو والإنكليز.
فنجح في مسعاه ووافقه الكثيرون، فانضموا إلى الخديو سرا ... ووقع الفشل في زمرة العرابيين، وانهزمت جموعهم، واستولى الإنكليز على مصر ودخلوا القاهرة يوم الخميس مستهل ذي القعدة سنة 1299، فأرسله الخديو إليها نائبا عنه، وأطلق يده في التصرف في الأعمال، فوصلها في 2 ذي القعدة ليلا عن طريق بورسعيد. واستبد بالأمور أربعة أيام حتى حضر النظار إليها، وباشروا أعمالهم. وقد تاه المترجم وتجبر في هذه الأيام الأربعة، وأمر بالقبض على كثيرين ممن كان له بغية في القبض عليهم وإذلالهم.
وكافأه الخديو بالوسام المجيدي الأول، ومنحته الحكومة المصرية عشرة آلاف جنيه.
وكافأته الحكومة الإنكليزية بنيشان القديسين جورج وميشيل، ووضعه على صدره السير مالت قنصل الإنكليز، بالنيابة عن جلالة الملكة فيكتوريا؛ لأنه من تقاليد منح هذا الوسام أن تقدمه جلالة الملكة بيدها لمن تنعم به عليه.
ثم انتدب للإشراف على شواطئ النيل وجروفه، فقبل المهمة مكرها. واستقل الوسامين ومبلغ العشرة آلاف جنيه، وأطلق لسانه بذم الإنكليز والطعن فيهم.
وعين في أواخر أيامه رئيسا لمجلس شورى القوانين الذي ألف عملا برأي اللورد دوفرين.
هكذا روى تيمور باشا. والعهدة على الراوي.
واشتهر سلطان باشا بسعة اطلاعه على الآداب الغربية، وله قصائد ومقطوعات مشهورة في «الواو».
وبنى ثلاثة مساجد، أولها في زاوية الأموات، والثاني في النزلة، والثالث في بندر المنيا. ومات قبل أن يتم تشييد المسجد الثالث.
وأنشأ مدرسة خيرية في النزلة.
وأوقف على المساجد والمدرسة مساحة واسعة من الأراضي.
وهكذا حبس عقارات واسعة على أقاربه وذويه.
وكان يقدم إليه مخبز حنفي المشهور في المنيا كل يوم مئة أقة من الخبز يوزعها على الفقراء إحسانا.
وحج إلى بيت الله الحرام.
واتسعت دائرة أملاكه بعد الثورة العرابية، فاشترى تفتيش دماريس والبرجاية واطسا وغيرها من الأطيان، وقد خلف ستة آلاف فدان من أجود الأراضي.
رحمه الله! وأطال حياة كريمته السيدة هدى هانم شعراوي زعيمة النهضة النسوية، وسبطه الدكتور فؤاد سلطان الساعد الأقوى لطلعت حرب باشا في خدمة النهضة الاقتصادية.
الفصل الحادي والأربعون
الرقاصة شفيقة القبطية
ماتت شفيقة القبطية، الراقصة الغنية عن الوصف والتعريف.
ماتت في غرفة حقيرة في درب البرقي أحد الدروب الملتوية في شارع كلوت بك.
ماتت فقيرة بائسة بعد أن لعبت بالذهب لعبا.
لم تنع في صحيفة، ولم يشيع جنازتها أحد ممن نعموا برقصها وأدركوا سر فنها وسحره.
من لم ير شفيقة القبطية فقد سمع باسمها.
كان اسمها يملأ القطر المصري من أقصاه إلى أدناه.
بل كان يذكر إلى جانب أعلام الطائفة.
فيقال: الأنبا كيرلس البطريرك، البطريرك القديس.
وبطرس غالي باشا، السياسي المحنك.
والمعلم برسوم المجبر، الآسي النطاسي.
وشفيقة القبطية، الراقصة البارعة.
قال المؤرخ الإنكليزي ويلكنسون:
إن نساء قدماء المصريين كن يرقصن في الفرح والترح على السواء. وتوجد في المقابر المصرية في بني حسن بمديرية المنيا صور عديد تمثل الراقصات وهن يتمايلن طربا وسرورا على نغمات الدفوف والعيدان.
ولا يختلف رقص بعضهن عن رقص البطن المعروف عند المصريين الآن.
أضف إلى ذلك أن لباس الرقص عند بعضهن كان عبارة عن نسيج رفيع من القطن مفصل بشكل الجسم، ومنه يرى النحر والبطن والساقان.
وكان بعضهن يرقص بهيئة قبيحة وفي أيديهن الدفوف والصاجات.
وروى بعض المؤرخين أن المصريين تعلموا رقص البطن من الفرس عندما أتوا إلى مصر فاتحين، فأتقنته نساؤهم، وبرعن في حركاته وسكناته.
ولبثت الراقصات موضعا لاحترام العامة والخاصة حتى فتح المسلمون مصر فدالت دولة الرقص، وانتقل هذا الفن من مصر إلى تونس.
وأتى المرحوم مانولي يوانيدس، صاحب «ألف ليلة»، بفريق من النسوة التونسيات إلى مصر، وفتح قهوة راقصة في أول شارع كلوت بك سنة 1887.
وعن أولئك التونسيات تعلمت الفن وأتقنته غير واحدة من المصريات، ومنهن زهرة العربية، وشوق، وشفيقة القبطية، ومعتوقة المغربية، وأمينة الزياتة، ونفوسة عزام، وزكية الفقية، وعزيزة الجربانة.
وكانت شفيقة من أهل حارة الزويلة في شارع بين الصورين، واسمها الأصلي «فرحة»، وكان زوجها كمساريا في السكة الحديد رجلا ابن حظ، فكان يدعو إخوانه إلى حفلات يقيمها في منزله، ويدعو امرأته لمنادمتهم والرقص أمامهم، فزين لها أحدهم أن ترقص في الحفلات العمومية، وأوصلها إلى أحد أصحاب القهاوي الراقصة، فرقصت وخلبت الألباب.
وبلغ من شهرتها أن أحد معامل كبريت الشمع في السويد رسم صورتها على علب الكبريت التي يصدرها إلى البلاد الأجنبية عامة ومصر خاصة، فكان الإقبال عليها فوق ما يتصوره العقل، حتى إن الذين لا يدخنون كانوا يشترون علب الكبريت للتمتع بصورة «شفيقة القبطية».
رقصت في الألدرادو القديم عند الخواجا أنطون أبو شنب، وفي قهوة النوفرة عند الخواجا إلياس، وفي قهوة نقولا مكرم بالرويعي، وعند محمد فرج في بير حمص، وأخيرا في ألف ليلة عند مانولي.
لم تكن في حاجة إلى البلف أو القنص، بل كان الذهب يلقى بين يديها وتحت رجليها جزافا، يلقيه العمد والأعيان والتجار والشبان الوارثون.
وكانت إذا خرجت للنزهة في الجزيرة تقدم عربتها ويتبعها عشرة من أظرف شبان العصر على خيولهم وأفراسهم.
وكانت بارة بأهلها وذويها، تواسيهم في أحزانهم وتشاركهم في أفراحهم، وهي التي تدفع كل نفقات المآتم والأعراس بسخاء.
ومالت الأيام، وذهبت أيام العز، وظهرت الأجسام النحيفة الهزيلة «الألامود»، وأرادت شفيقة القبطية لعشرين سنة أن تعود إلى الرقص فلم تفلح.
فتنقلت بين شبرا وعابدين وكلوت بك، وقد تنكر لها ذووها وانصرف عنها عشاقها ومحبوها، حتى أتاها هادم اللذات فلبته طائعة.
والبقية الباقية في راقصة المدرسة القديمة السيدة منيرة المهدية، ولعنة الله على الرومبا والكاريوكا.
Page inconnue