104

ولم تخف لذعة السخر والمرارة في كلمة الشيخ الأخيرة على فطنة تلميذه الملحاح، فقال وهو لا يتعمد الإطالة في الحوار: أخال إنسان اليوم على جميع حالاته أطلق من آبائنا الأولين!

فتمتم أبو العلاء هامسا: أكذاك؟

ثم انثنى يقول: لأمر ما كان الأوائل يروضون الحيوان وكنتم في زمانكم هذا تروضون الجماد: كل قريب إلى ما يروض! وما أحسبكم تفلحون في رياضة حيوان واحد بعد الذي راضه آباؤكم المتقدمون، ولكنكم كلما قاربتم الآلات خرجتم من رياضتها في كل يوم بجديد. •••

وتعمد التلميذ المناوأة الخفية فقال: ومع هذا يغبط مولاي الجماد ويسبح الله الذي أعفاه من الطعام والكساء ومن الرحلة والشقاء.

ولم يرفض أبو العلاء هذه المناوأة بل جرى في مجراها فقال متمنيا أو متهكما على حد سواء: لو عوفيتم كما عوفي الجماد!

فأنس التلميذ إلى هذا التهكم الرقيق وراح يسأل: وهل عوفي الأقدمون؟

قال أبو العلاء: كلا. على هذا مضيتم ومضى السلف، إلا أنهم صبروا حيث تضجرون، وطلبوا من الدنيا دون ما تطلبون، فإذا كانوا مثلكم في الشقاء فلقد كانوا أقل منكم في الشكاة، وإذا كان نصيبهم كنصيبكم من الخير فالذي يطلب الألف ويجد المائة محروم، والذي يطلب العشرة ويجد الخمسين مجدود لا تحسبه من أهل الحرمان.

أقصى المغرب

قاتل الله المجاز !

كان هذا أول ما فاه به المعري لتلميذه بعد أن علم سبب الكارثة التي أودت بمئات النفوس من ركاب السفينة؛ إذ كانا يركبانها ويتحدثان فيها ذلك الحديث المروي في الفصل السابق، وكانا قد بلغا شواطئ الأندلس حين وقعت الواقعة. وما هي الواقعة؟ قذيفة أطلقتها على السفينة غواصة من غواصات الثوار فهبطت بها إلى القرار، ثم نجا المعري بعصمة الخلود، ونجا تلميذه ببعض المجهود، وهما الآن على متن سفينة أمريكية تمخر بهما بحر الظلام، إلى بلاد العم «سام».

Page inconnue