وبديهي أن مثل هذا الدور العصيب من أدوار رواية الجهاد الوطني جدير أن يحرك بعظيم أحداثه من نفوس الكتاب ما لا تحركه العصور الخاوية الفارغة، وأن يثير من خواطرهم بما يبديه من مآثر الرجال، ومفاخر الأبطال ما ليس تثيره الأوقات الساكنة الوسنى بأشخاصها الصغار العاديين. أجل، إن عصر النهضة خليق بفضل حوادثه وأبطاله أن يهز جدران النفوس من أرسخ أساسها، ويثير لجج الأرواح من أعمق أعماقها حتى تفعم الأذهان من مزدحم الأفكار والعواطف بما يأبى إلا التدفق على أسلات الألسن والأقلام؛ لعجز أربابه عن حبس طوفانه في أوعية صدورهم، ودفن نيرانه في حنايا ضلوعهم.
وكذلك الكلمة الحارة هي كالدمعة الحارة إن نفثت أراحت وفرجت، وإن كتمت أمضت وأرمضت، فهي مدفونة في الجنان أخبث داء، ومنطلقة من اللسان أنجع دواء، ورب كلمة خزنت في الضمير فكانت منية صاحبها وآخرين، وكلمة لفظت فكانت حياة صاحبها ومنجاة ملايين.
فبديهي بعد ما تقدم أن أصبح - كغيري ممن تصدوا للكتابة عن عصور النهضات - يأبى ضميري إلا نفث ما يجول به ويزدحم من سوانح الفكر والخواطر عما يبدو لي من حوادث هذا العصر ومآثر رجاله وأبطاله.
وسأتوخى في كتابتي - إن شاء الله - وصف الواقع لا أقل ولا أكثر، ونعت الحقيقة جهد طاقتي، محاولا أن أكون في ذلك كالمرآة المنبسطة تعكس صورة الأشياء كما هي دون أدنى تحوير أو تبديل - ليس كالمرآة المحدبة أو المقعرة التي تعكس شبح الشيء مفرغا في قالبها المشوه - وأن أجعل من مخيلتي مجازا ومعبرا للحقائق ليس إلا، تدخل من أحد طرفيه وتخرج من الآخر ثابتة على حالها لم يخالطها مزاج ولم تشبها شائبة، متحاشيا أن أجعل من مفكرتي وعاء طيب وغالية تمر به الحقائق فتخرج مضمخة بذكي نشره وعاطر أريجه. ولكني سأجعل من يراعتي معزفا ترتل عليه الطبيعة ألحان الحقائق خالصة حرة صريحة، لم يتعرض لها ملحن الأنانية فيطبعها بألحان الأغراض ويوقعها على نبرات الحب والبغضاء والسخط والرضى.
والله أسأل أن يجيء هذا السفر غير خال من النفع والفائدة، وأن يجعله وسيلة هداية وإرشاد في ظل صاحب العرش الكريم المحفوف بالعناية والتأييد، جلالة ملك مصر والسودان فؤاد الأول، أدام الله ملكه وسلطانه، وأغدق على رعاياه المخلصين بره وإحسانه، وأرتعهم من جنانه الفسيح في أخصب واد وأطيب منتجع ومستراد، وأحلهم من ركنه الوطيد في أسمى ذروة وقمة، وأمنع ملاذ وعصمة، ما هبت نسمة ولاحت نجمة، والله سميع الدعاء.
محمد السباعي
الفصل الأول
مشروع كرزن والمذكرة الإيضاحية
ليست حياة الأمة الناهضة الساعية إلى استقلالها بالحياة السهلة الهينة، ولا مسيرها إلى غايتها المجيدة بالنزهة الجميلة بين الحدائق والبساتين في سنا رونق الساعات الذهبية، وعلى شجا ترتيل النغمات الشهية، ولكنها حرب طاحنة ضروس، وجهاد شاق في أوعر المسالك وأضيق المآزق، ولا تزال مثل هذه الأمة تتنقل في تاريخ نهضتها من طور إلى طور، وتتحول عن دور إلى دور، وكل أدوارها وأطوارها صعب شديد وإن تفاوتت في درجة الشدة والصعوبة تبعا لتغير الظروف والأحوال، على أنها لا تلبث أن تصل يوما ما إلى ذلك الدور الذي يصح لنا بحق أن نسميه عقدة العقد، وعقبة العقبات، والباب الموصد، والغل المحكم حيث يخيل للمرء أنه ليس ثمة من منفذ ولا مخلص ولا مستروح ولا متنفس، وأن متن الرجاء قد انبتر ، وظهر السعي قد انبت وانحسر، وأن ملائكة العون والمدد قد رنقت أجنحتها وطارت، وأن القلم الأعلى قد سجل حكم الشقاء على الأمة في صحيفة الأبد.
مثل هذه الأزمة العصيبة والساعة السوداء لم تكد تخلو منها سير الأمم الناهضة أثناء حركاتها الثورية، وقد أصيبت بها الحركة المصرية الحالية في أول ديسمبر سنة 1921 وذلك حينما رمتنا السياسة الإنكليزية بمشروع كرزن، ومذكرة اللورد النبي الإيضاحية التي شفع بها ذلك المشروع.
Page inconnue