سنرى رجلا مطويا على غريزة الاهتداء إلى سر الحقيقة وجوهرها أينما كان، رجلا قد ثبت قدمه على أساس الحقيقة الوطيد الراسخ، رجلا يستطيع أن يتبين بصادق نظره ونافذ بصره، من خلال التعاقيد والارتباكات، لباب الشيء وجوهره، فيعمد نحو ذلك، ويسدد إليه خطواته. لقد روي عن نابليون الأول أنه لما كان أمين قصره يعرض عليه يوما ما استجده في القصر من فرش وأثاث - وقد جعل هذا الأمين يطري هذه الأمتعة والأدوات، ويثني على صناعها، ويقول إنها قد جمعت إلى جودة الصنف ونفاسته رخص القيمة وقلة النفقة - لبث نابليون أثناء تلك الأقوال المسهبة والخطب المستفيضة صامتا لا ينبس بحرف واحد، ولكنه بعد نهاية هذا الكلام المطول أمر أمين القصر أن يجيئه بمقص، ثم عمد إلى هدابة ذهبية من هداب إحدى الستائر فقصها وطواها في جيبه وانصرف، وبعد مضي أيام قلائل أبرز الهدابة من جيبه في الفرصة المناسبة فعرضها على منجد القصر الذي كان صنعها، فارتاع ذلك الصانع التعس وأرعدت فرائصه: لقد كانت تلك الهدابة مغشوشة؛ لم تكن ذهبا كما زعم ولكن صفيحا! هذه النادرة على تفاهتها تبين ماهية طبيعة الرجل وعنصر خلقه، تبين أنه رجل عمل لا كلام، وأن غريزة نفسه الصادقة تدفع به إلى كبد الحقيقة مباشرة ضاربا صفحا عما يحيط بها ويحجبها من الأقاويل والأراجيف ومن الشكوك والشبهات، كذلك كان نابليون الأول، وكذلك كان غيره من رجال الحقيقة والجد والعمل، وكذلك نرى عبد الخالق ثروت.
هذا الرجل العظيم - ثروت باشا - يعرف بغريزته الصادقة كنه ما يحيط به من الظروف والأحوال، وماهية الأسباب والوسائل التي يستخدمها، ويتذرع بها إلى بلوغ غرضه، ويعرف كذلك درجة قوته ومبلغ قدرته، وأين تقعان من غايته وبغيته، يعرف النسبة بين كفاءته وبين ما يكتنفه من الظروف وما يستعمله من الوسائل، وهذا لا يتأتى بالنظر السطحي ولا باللمحات المتقطعة، ولكن بطوفان من نور البصيرة يغمر الأمر المبهم من جميع جوانبه وأركانه - بفضل العين الثاقبة والذهن المتوقد - وكذلك على مقدار فهم الرجل لحقيقة الموقف يكون حسن كفايته وبلاءه. فهل هو يستطيع أن يجمع الشتات ويؤلف الشوارد وينفث في الخليط المشوش روح النظام والتنسيق؟ هل يستطيع الرجل أن يقول في غياهب الشك وظلمات الشبهة: «فليكن نور» فيكون النور؟ هل يستطيع أن يخلق من عالم السديم والفوضى دنيا منظمة منسقة؟ ستكون قدرته على ذلك بحسب ما يحتويه قلبه من النور والضياء، وسنرى قريبا مبلغ نصيب الوزير الجليل من هذه الميزة العظمى، ميزة الملائكة وهبة الآلهة.
ذلك النور والضياء في فؤاد ذلك الرجل الألمعي - عبد الخالق ثروت باشا - هو مصدر ما يمتاز به من خلال النبل والكرم والهمة والمروءة والوطنية الملتهبة وخصال الصبر والجلد والحلم والرفق والتسامح.
ألا فقدس الله نور القلب وضياءه! أليس ذلك هو الذي يجلو لك ما يستكن في ضمائر الأشياء من روح النظام والائتلاف؟ أليس ذلك هو الذي يوضح لك مغازي الطبيعة ومقاصدها وما قد تخفيه تحت قشورها الخشنة ومظاهرها الكريهة من المعاني الموسيقية؟ (فإنه ليس من شيء كائن في هذا الوجود إلا يستكن في أعماق جوفه معنى موسيقي؛ أي روح نظامية تكون قوامه ومساكه وعماده وملاكه وبغيرها لا يتماسك ولا يكون). فنور القلب أو العين الثاقبة في عظماء الرجال عامة وفي ثروت باشا خاصة هي التي تهديه في زوبعة السياسة الثائرة - بآفاتها ومكارهها - إلى مواطن الخير والمنفعة والصالح، فيستخلص من المنكر معروفا، ومن المر حلوا، ومن السم درياقا كما سنرى قريبا.
لقد تقدمت أيها الوزير النبيل لعملك الجليل وسط أطلال صرح الاستقلال المتهدم وأنقاضه المبعثرة، وأمامك الخصم العنيد يحاول مقاومتك ومناهضتك بهدم ما تشيد وتقويض ما تبني، وحولك البناءون من بني وطنك: منهم المسعف المسعد الحاضر المدد والمعونة، ومنهم المتباطئ والمتلكئ والواني والمتهاون. فمصاعبك جمة ومتاعبك شاقة - أحجار وجلامد صلبة صماء تتأبى وتتعسر، ورجال تتأفف وتتضجر، وأمور متناقضة، وشئون متضاربة، وظروف عاتية متمردة - فلتقهرن هذه جمعاء ولتتغلبن عليها إن قدرت، وإنك على أمثالها لقادر.
إن المصاعب والآفات والمتاعب والعثرات قريبة ظاهرة مجابهة تتلقاك لدى كل خطوة - وإن عون الطبيعة ومددها وإسعافها (وإن كان في النهاية مؤكدا مضمونا) لمستتر مختبئ، فاستثره من مكامنه ونقب على خفاياه بالصبر الجميل وبالجلد والعزم والإخلاص - بقوة رجولتك ومضاء همتك، تغلب على كل عقبة وصعوبة، وحاول بكل ما أوتيت من حول وطول أن تشيد من هذه الأنقاض المبعثرة المشوشة صرح الاستقلال التام لبلادك؛ راسخ القواعد، موطد الأركان، منيع الجوانب، شامخ الذرى.
لبث الوزير الجليل عبد الخالق ثروت باشا ثلاثة أشهر طويلة يدافع عن حمى بلاده، ويذود عن حياضها، ويكافح عن حقوقها، ويناضل إزاء ألد الخصوم وأعتاها وأشدها استبدادا وجبروتا، ويطالب بتحقيق مطالب الوطن العزيز وأمانيه الكبيرة. ثلاثة أشهر جاهد فيها جهاد مشمر معتزم مستبسل في سبيل الحق، مقدما أصدق مثال على روح الوطنية العالية والتضحية الشريفة. فكيف كانت نتيجة مساعيه وثمرة مجهوداته؟
في نهاية هذه الأشهر الثلاثة أذعنت لشروطه وأجابت مطالبه أقوى دول العالم، فأعلنت في 28 فبراير سنة 1922 إلغاء الحماية عن القطر المصري، وأعلنت استقلاله التام، وأن يكون للبلاد دستور وحكومة مسئولة.
جزاك الله أيها الرجل العظيم عن البلاد وأهلها أكرم الجزاء، وقدرها على القيام بواجب الشكر نحوك.
الفصل الثاني
Page inconnue