زوج
أقام لنكولن أول الأمر وعروسه الطموح في حجرتين في نزل كانا يدفعان أجرا لسكناهما فيهما أربعة دولارات كل أسبوع، وعظم ذلك على ماري، فشكت إلى زوجها ولم يمض على زواجهما غير قليل، وألقى إليها المعاذير مشيرا إلى ضيق رزقه وإلى ما لا يزال يقتضيه الوفاء من ديونه. ثم بسط الله له الرزق بعض البسط، فانتقل الزوجان إلى بيت صغير استطاعا أن يؤديا في غير عسر أجر إقامتهما فيه.
وأخذت ماري تدير شئون بيتها الجديد وترعى أمره، وقد اتخذت لنفسها سلطة ربة الدار فيما هان أو عظم من الأمور، وكانت تأخذ زوجها بألوان من الشدة والعنف إذ تدعوه إلى كيت وتصرفه عن كيت، ورائدها في ذلك النظام أدق ما يكون النظام.
وكان يصل بها الغضب أحيانا إلى هياج شديد، وذلك حين كانت ترى من بعلها أنه يأبى إلا أن يرسل نفسه على سجيتها؛ فكثيرا ما لا يعبأ بما تصالحت عليه أذواق الناس من أوضاع وتقاليد يلزمونها وهم جلوس إلى مائدة الطعام أو وهم سامرون في المثوى، وهل كان يستطيع ابن الغابة أن يتكلف ما لم يجر في طبعه؟
ولكن امرأته لا تفتأ تلفته إلى أخطائه وتوجهه إلى العناية بهندمة ملابسه وتحثه على النظام، وتكرر له أن ذلك خليق به وله اليوم بين الناس مكانته، وهي تريده على أن يحمل الأمر على الجد، وهو يجاريها ليخفف من حدتها، ثم لا يستطيع بعد ذلك أن يغير شيئا من طبعه. وكان إذا اشتد بها الغضب يلاطفها ويضاحكها ليصرف عنها غيظها، فإن عجز عن ذلك غادر المنزل فمشي ساعة أو بعض ساعة.
وحق لزوجه أحيانا أن تغضب منه؛ فهو سخي اليد وإن كان فقيرا، وهي لا تريد أن تبسط يدها إلا بقدر ما تستطيع، وهو يسلك في بيته سلوكا يدل على عدم المبالاة بأوضاع المجتمع؛ يلقى الناس في هيئة تنم على عدم الاكتراث؛ فثيابه متهدلة وشعره أشعث وعبارته ساذجة، وكلما دق الباب أحد جرى إليه ليفتح ولم يترك ذلك للخدم! وهو يستلقي على ظهره أحيانا، ويتمدد على البساط وفي يده وصلته بأبراهام وماري، وذلك أن أبراهام - وهو الذي ملأ النفوس إعجابا بدماثته ورقة حاشيته - قد قبل غير متردد مبارزة رجل من الديمقراطيين على أعين الناس، وكان لهذه المبارزة سبب يحمل المرء على التعجب؛ إذ كان مصدره شخص مثل لنكولن، وبيان ذلك أن أبراهام نشر على لسان أرملة ثلاثة كتب في صحيفة صديقه الذي أصلح بينه وبين خطيبته، وكلها نقد لاذع لذلك الديمقراطي المدل بنفسه الكثير الذهاب بمقدرته المالية، وكان الناس يومئذ يشكون من سوء سياسة الديمقراطيين فيما هو متصل بالمال، وجاءت كتب أبراهام التي نحلها امرأة من خياله لاذعة قاطعة، فأثارت فضول الناس وضحكهم وإعجابهم، ووردت على الصحيفة ردود كثيرة بغير توقيع قوامها المجانة والمعابثة. وكان لماري في هذه المسألة نصيب؛ فقد كتبت للصحيفة تقترح زواج ذلك الديمقراطي من تلك الأرملة، ونظمت قصيدة فكهة ساخرة أرفقتها باقتراحها لتكون قصيدة الزفاف!
وثارت ثائرة ذلك الديمقراطي، وراح في المدينة يرغي ويزبد ويتهدد ويتوعد، وأتى صاحب الصحفية فعنفه وتهدده بالانتقام إلا أن يعلمه بأصحاب هذه المجانة، وبخاصة الاقتراح والقصيدة، وعرض صاحب الصحيفة الأمر على لنكولن، وذكر له أن ذلك الديمقراطي قد جعل بينه وبينه أجلا، فإن أبى ذكر الأسماء ومضى الأجل فهو مبارزه، فقال له أبراهام في غير وناء إني آخذ الأمر على عاتقي، وأنت في حل أن تذكر أن أبراهام لنكولن هو صاحب الكتب والاقتراح والقصيدة جميعا، وتم ذلك فدعاه الديمقراطي إلى المبارزة، وشاع نبأ ذلك في الناس فاحتشدوا ليشهدوا ما يكون بينهما.
وكان لأبراهام أن يختار نوع السلاح الذي يبارز به؛ إذ كان هو الذي وقع عليه التحدي، فاختار أن يكون النزال بسيف من السيوف الطويلة العريضة التي يحملها أشداء الفرسان، وكان لأبراهام من طوله وفتوته وقوة ساعديه ما يضمن له الفوز على منازله القصير. قال رجل شهد ذلك الموقف: «كان على وجهه أمارات الجد، وما علمت عنه قبل أنه لبث مدة كهذه المدة لم يرسل نكتة من نكاته ... لقد تناول أحد السيفين واستله من غمده، ولمس بإبهامه شفرته يتبين مبلغ مضائه على نحو ما يفعل الحلاق إذ يقيس مضاء الموسى، ومد قامته إلى غاية ما تمتد، كما مد ذراعيه الطويلتين إلى أعلى ولم يزد والناس يتطلعون على أن ضرب بسيفه غصنا فوق رأسه فألقى به بعيدا، ولم يكن بيننا أحد غيره يستطيع أن يبلغ قريبا مما بلغه بطول ذراعيه، وكاد هزؤ منظر ذلك الرجل الطويل الذراع يفلت مني ضحكة، وهو يتأهب لمحاربة من لو مشى نحوه لمر تحت إبطه، وبعد أن قطع لنكولن الغصن رد سيفه إلى غمده متنهدا وجلس، ولمحت في عينيه ذلك البريق الذي يلتمع فيهما عادة إذا تهيأ لأن يقص حكاية ...»
وتدخل بعض الناس فأصلحوا بينهما، ورجع الخصمان جنبا إلى جنب إلى حيث انطلق كل منهما إلى داره.
وظل قبول لنكولن هذا النزال أمرا يتحاشى أصدقاؤه الإشارة إليه، وكان أبراهام كلما تذكره تندى جبينه وارتسم الخجل على محياه؛ فهو وإن كان نازل آرمسترنج من قبل، فإنه لم يفعل ذلك وهو محام أو عضو في مجلس الولاية، وإنما كان فتى في حانوت، ولم يعتد على آرمسترنج وإنما توقح عليه هذا وعصبته، ولم يصل الأمر بينه وبين آرمسترنج إلى سفك الدماء والقتل كما كان عسيا أن يقع بينه وبين ذلك الديمقراطي، وما نجد علة لفعلته هذه إلا أنفته من الفرار من المسئولية، فمن خلقه أنه لا يتنصل من أمر تقع عليه تبعته مهما كانت عاقبته.
Page inconnue