كان من أحب الساعات إليه تلك التي يجتمع فيها بنفر من حزبه في حانوت سبيد، فيديرون الحديث بينهم في السياسة وقضاياها والإصلاح العام وما تتطلبه البلاد منه، ومن الجماعة من سيكون لهم شأن كبير في سياسة بلادهم. ولقد كان ممن يختلفون إلى ذلك المنتدى في الحانوت دوجلاس الديمقراطي، ذلك القصير الماكر الطامح الذي اشتهر بحدة ذكائه ولباقته، والذي عرف بالأثرة والغيرة والطمع في عليا المراتب، وكان ذلك القزم يغار من المارد الذي تجتمع عليه القلوب والأهواء، فهل كان يدرك أنه سوف يكون العقبة الكأداء بينه وبين ما تطمح نفسه إليه؟!
ولم يكن نشاط لنكولن قاصرا على المجلس والمحكمة، بل لقد كان نشاطه خارجهما باعثا على الإعجاب جديرا بالثناء؛ فهو حاث على الإصلاح بما يذيع من أحاديث، داع إلى نشر الثقافة والعلم، وهو ذلك النجار الذي كان يشق الأخشاب في الغابة يشتري بالآلاف من شرائحها سروالا!
وكان أبراهام وزملاؤه يقرءون الصحف في إمعان، ويتتبعون أنباء السياسة في شغف ولذة، فإذا احتدمت المناقشة في الحانوت وتضاربت الآراء، حول أيب مجرى الحديث في لباقة إلى الأمور المحلية، ثم انتقل إلى نوادره وقصصه، فراح يمتعهم بها متدفقا في غير توقف، ثم إنه يتلو عليهم أحيانا بعض أشعاره التي كان يهدهد بنظمها نفسه الحزينة، أو التي كان ينظمها حاثا على الفضيلة، كالذي فعل حين نظم قصيدة طويلة حول إغواء النساء.
وكان المحامون في تلك الأيام ينتقلون من محكمة إلى غيرها على ظهور الخيل، يحملون في أكياس أوراقهم وأضابيرهم ومراجعهم، كما كانوا يستصحبون أصحاب القضايا والشهود، وكان القضاة يرافقونهم أحيانا إلى مقر المحاكم في غدوهم إليها.
وفي مثل هذه الرحلات القصيرة كان يرهف أذنيه المحامي الناشئ أيب لنكولن إلى كل ما يدور من الأحاديث، كما كان يسرح الطرف في مجالي الطبيعة، وفي دنيا الناس لا يفوته شيء يفيد منه علما أو عبرة، أو يستخرج منه نادرة يتفكه بها ويقصها على أصحابه، وهو إنما يتعمق الحياة الإنسانية وإن لم يقصد إلى ذلك أو يشعر به. تخلف عن الركب مرة فسأل عنه زملاؤه، فقال أحدهم: لقد توقف حيث أبصر عصفورين قذفت بهما الريح من عشهما، ولقد تركته وهو يحاول أن يرجع العش إلى نظامه، ويضع العصفورين في مستقرهما. ولما سئل أيب عن ذلك قال: «ما كنت لأستطيع أن أنام لو لم أرد العصفورين إلى أمهما.» وتحدث ذات مرة إلى أصحابه ضاحكا من سذاجة شيخ لقيه في الطريق وهو عائد من المحكمة، وقد أعجب ذلك الشيخ بمهارة لنكولن؛ إذ تعقب بأسئلته المحرجة لصا اتهم بسرقة فراخ جاره، قال الشيخ يستنكر ما فعل ذلك اللص: «في الأيام الماضية وهذه البلاد لم تزل في طفولتها، وأنا يومئذ أقوى مني اليوم، لم أبال أن أسرق الغنمات أحيانا، أما أن أسرق فراخا! ...»
وترك له زميله ستيوارت ذات مرة قضية على شيء من الأهمية أكسبته شهرة في عمله؛ إذ دار حديثها على الألسن أياما؛ وذلك أن أرملة أرادت أن تضع يدها على قطعة من الأرض تركها لها زوجها، فتصدى لها مدع ينازعها الأرض وفاء لدين له على ذلك الزوج، وكان المدعي من ذوي القوة والنفوذ، وهال أيب أن يكشف أنه زور هذا الدين، وغضب المحامي الأمين وتحمس لقضيته، ثم إنه علم أن ذلك المدعي يدفع عن نفسه تهمة التزوير بدعوى أخرى؛ هي أن الورقة المزورة ليست له وإنما دست عليه نكاية فيه، وأنه صاحب حق، فلا حاجة به إلى التزوير. وكتب أبراهام في إحدى الصحف مقالة غفلاء من التوقيع يفسر المسألة ويقضي على كل ما عسى أن تثيره من شبهات، ولكن ما لبث أن عرف أنه كاتب المقال، فغضب ذلك المدعي ورد عليه يعنفه ويأخذ الطريق عليه، فكتب أيب يقول: «وداعا أيها السيد إلى اللقاء في ساحة المحكمة هناك ، حيث نقلب المسألة على وجوهها وننظر هل تأخذ أنت الأرض أم تأخذها تلك الأرملة.» واهتم الناس بهذه القضية، وازدحمت قاعة المحكمة بنفر يشهدون دفاع المحامي الشاب، وما منهم إلا من يعطف على الأرملة المسكينة، وكسب أيب القضية كما كسب يومئذ إعجاب كل من رأوه.
خطيب
ما التمع اسم سياسي ولا طارد ذكره إلا إذا رزق موهبة الخطابة، وبقدر ما يتوافى له منها يكون ذيوع صيته ونباهة شأنه. ذلك ما كان يحدث أبراهام به نفسه في أواخر مدة عضويته الثانية في مجلس الولاية.
وهو منذ حداثته لهج بالخطابة شغوف بالمثول أمام جمهور يستمع، والخطابة بعد عدة المحامي كما هي عدة السياسي، أوليس قوامها الفصاحة والإقناع؟! إنه ليحس أنه قد أخذ يحسن الإفصاح عما في نفسه ويجيد وسائل إقناع سامعيه، وهو لم ينس ما كان من سالف مواقفه حين كان يحدث الناس في الغابة فيظفر من رضائهم بقدر ما يلقى من غضب أبيه. بيد أن الناس هنا ليسوا كأهل الغابة، وليس ما يصلح هناك من الكلام بصالح في مدينة كهذه المدينة، ولكن ألم يحز هنا في المدينة قسطا من رضاء الناس في قاعة المجلس وفي ساحة القضاء؟! إذن فليس الذي يداخله من ثقة في نفسه ضربا من الغرور، وحسبه أن تطمئن اليوم إلى ذلك نفسه.
وسنحت لخطيب الغابة فرصة للخطابة؛ فقد دعي ليلقي في ناد من أندية الشباب في سبرنجفيلد خطبة موضوعها: أنظمتنا السياسية وحفظها.
Page inconnue