لقد أخذت تشتد عليه وطأة الفاقة بعد عام واحد من حلوله بهذه البلد، فإن صاحب الحانوت قد أفلس وباع حانوته لتاجر آخر طالما نافسه، وترك أبراهام أياما بلا عمل، ونفد ماله فلم يبق لديه منه ما يستعين به حتى على القوت، ولولا ما ساقه له القدر من رزق لساءت حاله، ولكنه كان رزقا هينا غير متصل؛ فقد استؤجر ليقود زورقا بخاريا في منطقة عسيرة من مجرى النهر، وكان أجره على ذلك أربعين ريالا.
لبث يفكر في مرتزق؛ أيعود إلى الغابة أم يعمل في النهر قائدا للقوارب البخارية، أم يبقى بائعا في حانوت، أم ينخرط في سلك المتطوعين لمقاومة الهنود الحمر؟ كل أولئك كان يدور بخلده، وكان يقلقه قعوده بلا عمل كلما تناقصت ريالاته الأربعون.
ولكن صاحب خان في المدينة كان قد أنس من فطنة أبراهام وطلاقة لسانه وصدق إخلاصه في كل ما يتناول من عمل، وتطلعه إلى المعرفة؛ ما أيقن معه أن سوف يكون لهذا الفتى شأن غير شأنه يومئذ، ولقد استمع إليه صاحب الخان مرات وهو يحدث الناس أو يخطبهم كلما سنحت فرصة لذلك، فرآه جذاب الحديث بارع السياق بليغ العبارة، يضرب الأمثال الواضحة في غير توقف، ويسوق الأدلة القاطعة في غير عوج، فزين له الرجل أن يتقدم للناس ليختاروه نائبا عنهم في مجلس مقاطعة إلينوى.
وكان يرى أبراهام الخطوة جريئة؛ فاليد خالية والجاه منعدم، فعلام يعول ابن الغابة؟ وإلى من يستند؟ لكن هل تعود أن يعول أو يستند إلا على نفسه؟
إن له أصدقاء كثيرين، ولكنه نشأ نشأة من يعتمد على نفسه قبل كل شيء. وهو الآن في الثالثة والعشرين من عمره قد قرأ من الكتب وخبر من أحوال الناس ومارس من متاعب العيش ما لم يتفق مثله لأحد في مثل سنه، وإنه فضلا عن ذلك واثق من محبة الناس له، لمس هذه المحبة مرات في إقبالهم عليه وهو يقص عليهم القصص، وقد تحلقوا حوله أمام دكان الحداد على ضوء ناره، ولمسها مرات غيرها وهو واقف بينهم خطيبا يحدثهم عما يتمنى تحقيقه للمقاطعة من ضروب الإصلاح، فهل يرى فيهم من يساويه في شهرته ومكانته؟ ثم إنه حمل الكثيرين من الأقوياء على الأذعان لقوته، وهو على قوة بأسه خافض الجناح لين الجانب، ما عمد إلى هذه القوة إلا في وجوه البر والمعونة إذا استثنينا مصارعته آرمسترنج، إنه بهذا كله لخليق أن يرى فذا بين أنداده، ولكنه مع ذلك يتردد لا من جبن ولكن من تواضع.
وأخيرا قهر عزمه تردده، فألقى بنفسه في معترك السياسة، فإلى أي حزب من الأحزاب كان انتماؤه إن كان ثمة له انتماء إلى حزب؟
كان حتى سن العشرين ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، ولكنه الآن في الثالثة والعشرين يتقدم للناخبين منتميا إلى حزب الهوج، على أنه إنما يعتمد على ما يعرف الناس من خلاله رجلا وصديقا.
قام في الناس خطيبا فسحرهم بيانه، وسرت في نفوسهم حماسته، وزادهم محبة له ما رأوه من تواضعه؛ فهو لا يفرض عليهم آراءه ولا يزكي نفسه، وإنما يعدهم الإصلاح إذا قدر له النجاح. أما إصلاحه الذي سوف يعنى بتنفيذه، فسيتناول الطرق ومجاري الماء، والتجارة؛ فهو من أنصار حمايتها برفع نسبة الجمارك حتى تنمو وتزدهر. والناس ينظرون إليه لا تتحول أبصارهم عنه، وقد عطف قلوبهم عليه ما يبدو من علامات فاقته وعوزه؛ فسرواله لا يصل إلا إلى منتصف ساقيه، وردناه لا يكادان يبلغان رسغيه، وفي وجهه وعينيه خلجات توحي بما كابد من شدة وما لاقى من عنت الأيام.
واختتم الخطيب خطبته بقوله: «إن سياستي قصيرة حلوة كرقصة العجوز. إني أحبذ مشروع المصرف الأهلي، وأحبذ الإصلاح الداخلي والحماية الجمركية، هذه هي مبادئي وميولي، فإن اخترتموني فإني لكم شاكر، وإن رأيتم غير هذا فلن يغير ذلك شيئا من نفسي.» وفي نداء أذاعه في الناس يذكر أبراهام رأيه في التعليم فيقول إنه يود لو أتيح لكل فرد قسط منه حسب استعداده، ولسوف يعنى بذلك كل العناية إذا أصبح عضوا في مجلس المقاطعة.
ويختتم الفتى نداءه بقوله: «إذا أخطرت ببالي ما يجب على كل شاب من شديد التواضع، فربما كنت قد تطلعت إلى أكثر مما أستحق، على أنني فيما أشرت إليه ما تكلمت إلا حسبما فكرت، ولقد أكون مخطئا فيه، كله أو بعضه، ولكني وأنا ممن يرون متانة الحكمة القائلة «إن من يصيب أحيانا خير ممن يخطئ دائما» أبادر إلى الرجوع عن آرائي متى تبين لي خطؤها. لقد قيل إن لكل امرئ نوعا خاصا من الطموح، وسواء أكان ذلك صوابا أم خطأ، فإن طموحي الذي لا يساويه عندي طموح هو أن أظفر من قومي بأن يقدروني إذا ثبت لديهم أني جدير منهم بهذا الفضل. لقد ولدت ونشأت في مدارج متواضعة، وإن كثيرين منكم يجهلونني، وليس لدي ثراء ولا لي أهل ذوو جاه أو أصدقاء كبار يقدمونني إليكم، وقضيتي مبسوطة بين أيدي الناخبين الأحرار، فإن فزت فقد أولوني جميلا لن أوفيه لهم مهما بذلت من جهد في خدمتهم، وإن أملت عليهم كلمتهم أن أبقى حيث أنا، فطالما ألفت من مواقف الانخذال ما لست أحس معه لهذا الفشل كبير غم.»
Page inconnue