وإذا كانت الحال كما ذكرنا، فجدير بالمرء أن يتساءل، ما الذي جر أهل هاتيك المستعمرات إلى الثورة على إنجلترة، وما الذي جمعهم على غرض واحد وكان بينهم من عوامل التفرقة في الداخل ما أشرنا إليه.
لقد كان مرد تلك الثورة في الجملة إلى نزعة من نزعات الحماقة منيت بها السياسة الإنجليزية في فترة من الزمن، فكان في تلك السياسة من الحمق يومذاك بقدر ما يكون فيها من رشد في بعض أوقاتها.
لقد رضي سكان المستعمرات بالكثير لتبقى لهم حماية إنجلترة؛ رضوا بقوانين الملاحة والتجارة التي فرضتها عليهم إنجلترة، فلا تنقل متاجرهم إلا سفن إنجليزية، ولا تصل إليهم من سلع غير إنجليزية إلا عن طريق إنجلترة؛ ليظل لإنجلترة أجر النقل وربح التجارة.
وخرجت إنجلترة منتصرة من حرب السنين السبع (1756-1763)، وكانت ميادينها في أوروبا وآسيا وأمريكا، وظفرت من هذه الحرب بتوطيد نفوذها في الهند وطرد الفرنسيين من كندا، ولكنها وجدت نفسها وقد أثقلت الديون كاهلها.
ورأت أن جانبا من هذه الديون قد أنفق على الدفاع عن سكان تلك المستعمرات الأمريكية، ورأى أهل المستعمرات أن إنجلترة أنفقت ما أنفقت من أجل مصلحتها هي فحسب، وأبت إنجلترة إلا أن تحمل أهل المستعمرات جانبا من ديون الحرب؛ فعمدت إلى فرض ضريبة «الدمغة» على كل المكاتبات الرسمية، فكانت هذه الخطوة أولى حماقاتها تجاه المستعمرات.
وشددت إنجلترة في تنفيذ قانون الملاحة والتجارة، وكان الأمريكيون أثناء حرب السنين السبع قد لجئوا إلى تهريب بعض المتاجر، وأخذت إنجلترة أهل المستعمرات بالشدة في وقت زال فيه خطر الفرنسيين من كندا، وقلت الحاجة تبعا لذلك إلى حمايتها، فكانت فعلتها هذه في تلك الظروف ثانية الحماقات.
وباتت الأنباء تنذر بعاصفة من عواصف السياسة، فأهل المستعمرات يرفضون الإذعان لضريبة الدمغة، فلا يجوز لبرلمان لا يمثلون فيه أن يفرض عليهم ضريبة، وجرت على ألسنتهم كلمة قصيرة حاسمة «لا ضرائب بغير تمثيل»، ولكن الإنجليز من ناحية أخرى يتمسكون بأن الدفاع الإمبراطوري عن سلالة البريطانيين أينما وجدوا جعلهم يدافعون عن بعض تلك السلالة في أمريكا، فعلى هؤلاء قسط من نفقات هذا الدفاع.
وانتقلت المسألة بهذا من مظهرها الاقتصادي إلى مظهر سياسي خطير، وأصر كل من الجانبين على أنه صاحب حق.
وألغى البرلمان قانون الدمغة، ولكنه شفع هذا العلاج بطعنة ليته لم يقدم عليها وقتئذ؛ وذلك أنه أعلن حقه في فرض أية ضريبة تقتضيها المصلحة في المستقبل ليحتفظ بحقه تجاه المستعمرات.
ولكن المسألة باتت عند الأمريكيين مسألة مبدأ سياسي لا مسألة نقود تدفع؛ ولذلك نراهم يلجئون إلى العصيان والمقاومة، عندما لجأ الإنجليز بعد إبطال قانون الدمغة إلى فرض ضرائب على بعض المتاجر الخارجية.
Page inconnue