ورآه بعض السود وكانوا يكنسون الشوارع، فعرفه أحدهم؛ إذ كان يرى صورته في إحدى الصحف، فأشار إليه وإلى الصورة وأطلع زملاءه على الصورة قائلا هذا هو الرئيس! وضحك الرئيس فأقبلوا عليه ومنهم من يضحك ومنهم من يبكي، فمد إليهم يده مصافحا في تواضع ورفق وهم يلثمون يديه وأطراف ثوبه، ويمسحون بأكفهم حلته كما لو كان أحد القسيسين.
وما إن شاع النبأ حتى هرع الناس من كل مكان يشهدون الرجل الذي دوت باسمه البلاد، وتزاحموا حوله وهو بينهم رابط الجأش يبدو للأعين قوامه الطويل، وأسرع بعض الشرطة والجند فحفوا به.
وتلفت الرئيس فإذا جموع السود تتقاطر من كل صوب وهم يملئون الجو بهتافاهم باسم مخلصهم ومحطم أغلالهم أبراهام لنكولن، وكانوا من حوله يرقصون ويثبون في الهواء لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عما في نفوسهم نحو هذا المحرر الأعظم، ثم تقدموا متزاحمين فتلاقوا على الأرض أمامه يقبلون قدميه، وهو يرفعهم بيديه ويمسح بها على جباههم وأكتافهم والدموع تتساقط كبيرة ساخنة من عينيه الواسعتين، فتجري على محياه الكريم وتقطر بها لحيته.
وحار الرئيس لحظة فلم يدر ماذا يقول، وهو الذي ما عرف قبل عيا ولا حصرا، ثم ناداهم قائلا: «أي أصدقائي المساكين، أنتم أحرار ... أحرار كهذا الهواء ... وإنكم لتستطيعون أن تطرحوا اسم العبودية وتطئوه بأقدامكم، فإنكم لن تسمعوه بعد اليوم ... إن الحرية حقكم الذي منحكم إياه ربكم كما منح غيركم.» وتألم الرئيس من أن يخروا سجدا على قدميه، فقال: «لا تسجدوا لي، هذا ليس بصواب؛ إنما أنا رجل مثلكم ولا فرق بيني وبينكم إلا هذا المنصب، وعما قريب أعود فأكون واحدا منكم، يجب أن تسجدوا لله وحده وأن تشكروه على الحرية التي سوف تتمتعون بها منذ اليوم.»
وعاد الرئيس إلى وشنطون وفي وجهه مثل ما يكون في وجوه الأبرار الصالحين، والناس حول ركابه جموع خلف، وهم يهتفون باسم الأب أبراهام بطل الحرية ومحطم الأصفاد، ومعيد الوحدة إلى البلاد وحامي دستورها ورسول حاضرها إلى غدها.
وفي اليوم التاسع من هذا الشهر المشهود وضعت الحرب الأهلية أوزارها؛ فقد سلم لي سيفه للقائد جرانت علامة الهزيمة، ولكم كان جرانت عظيما إذ أبى أن يتسلم السيف من خصمه قائلا: أبقه في يمينك أو في منطقتك فهذا أجدر موضع به.
وتلقت العاصمة النبأ وتلقاه الرئيس، وأحس الناس أول الأمر كأنما أفاقوا من حلم مخيف لا تزال في نفوسهم مخاوفه.
وتنفس أبراهام الصعداء، وتنفس معه الناس، وأحس ابن الأحراج بعد هذا الكفاح الطويل الشاق أن قد آن له أن يستريح بضعة أيام. وتزاحم الناس حول البيت الأبيض وهم من فرط سرورهم يبدون كأنما طاف بهم طائف من الجنون، وأطل عليهم الرئيس وهم يتصايحون ويتواثبون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، وعظمت حماسة هذا البحر الزاخر من الخلق زمنا طويلا، وهم تحت شرفة الرئيس يموج بعضهم في بعض.
الرئيس وابنه تاد.
لم يدر الرئيس ماذا يقول وهو الخطيب الذي لم يعرف تاريخ بلاده ندا له، وما زاد على أن مسح بيده الدموع المنحدرة من عينيه، ثم طلب إلى الناس أن يهتفوا ثلاثا بحياة القائد جرانت وجنوده وحياة القواد البحريين ورجالهم، وأحنى للجموع رأسه الأشم ثم عاد إلى حجرته.
Page inconnue