ولما ضاقت بالوفود داره جعل لقاء الناس في قاعة من قاعات مقر الحكم في المدينة، لا يرد عن مجلسه أحدا ولا يأخذ الحيطة من أحد، فإذا سأله شخص عن أمر في السياسة ناقشه في هدوء أو أعطاه نسخة من مجموعة خطبه، وهو يذهب بنفسه إلى مكتب البريد فيحضر رسائله المتعددة التي تأتيه من كل فج، فيفضها ويقرؤها ويرد على ما يتطلب الرد، إما بيده أو بيد كاتب اتخذه له منذ قريب.
وظل أياما طويلة يلقى أنماطا من الناس؛ فمن معجبين بشخصه محبين له، إلى مستطلعين يحبون أن يروا أبراهام لنكولن ذلك الذي اختاره الجمهوريون وآثروه على سيوارد، إلى صحفيين يريدون أن يوافوا صحفهم بكل ما يستطيعون من نبأ عن ذلك الرجل الذي يشغل الحديث عنه أذهان الناس، ويملأ مجالسهم في طول البلاد وعرضها. وكم كان يبتسم ابن الغابة ابتسامة السخرية من غرور الحياة إذ تقع عيناه في صحيفة على مثل قول أحد الصحفيين: إنه لا يعيش كما يظن بعض الناس عيشة الأوساط أو أقل منهم؛ فإن له بيتا جميلا، وإنه يرتدي ملابس جيدة التفصيل، وإن امرأته تتكلم الفرنسية في طلاقة، وإن له ابنا في جامعة هارفارد.
ولبث في سبرنجفيلد لا يأبه لما يتقول عليه أعداؤه، ويرتاح لما يثني به عليه أولياؤه. وقد وقع في نفسه أحسن وقع ما كتبه سيوارد عنه؛ فقد طلبت إليه إحدى صحف نيويورك أن يكتب كلمة عن أبراهام ليعرفه لمن يجهله من الناس؛ فإن كثيرا من الولايات الشرقية لا يعلمون عنه إلا اليسير، وضرب سيوارد مثلا طيبا، فكتب يثني على أبراهام ويصف خلاله، ويهنئ البلاد باختيار حزبه إياه ويتمنى له الفوز في المعركة الأخيرة.
ووقع في نفسه كذلك موقعا طيبا ما سمعه عن دوجلاس خصمه العنيد؛ فقد قال دوجلاس عندما علم باختيار حزبه إياه إن الحزب قد اختار في الحق رجلا قويا جد قوي أمينا حق أمين، وقال يصفه لأحد أصدقائه: «إنه من أقدر الرجال في الأمة كلها.»
وما فتئت الكتب تلقى إليه من أنحاء البلاد تحمل إليه التأييد والإعجاب، وإن كان بينها عدد كريه جاءه من خصومه ينطق بكراهتهم إياه ويسمعه تهديدهم ونذرهم.
ومن أجمل ما جاءه من الكتب وأعجبها كتاب جاءه من بنت صغيرة تستفهمه فيه عن أسرته وتطلب إليه أن يطلق لحيته، ولقد رد عليها أبراهام بكتاب قال فيه:
أي فتاتي الصغيرة العزيزة، تلقيت كتابك الجدير جدا بالقبول، المؤرخ في 15 أكتوبر سنة 1860، وإني لآسف أن أراني مضطرا إلى إخبارك أنه ليس لي ابنة، إن لي ثلاثة بنين؛ عمر الأول سبعة عشر عاما، والثاني تسعة، والثالث سبعة، ومن هؤلاء وأمهم معهم تتألف أسرتي كلها. أما عن إطلاق لحيتي أفلا ترين، ولم تكن لي من قبل لحية، أني إذا أطلقتها الآن إنما آتي بذلك ما يعد ضربا من التكلف السخيف؟ ... هذا وإني لك الصديق الوفي المخلص.
أ. لنكولن
وسخط الناس في الجنوب على اختيار رجال حزبه إياه، وأصابهم من ذلك كرب شديد وضيق، وراحت صحفهم تناله بفاحش الهجاء؛ فهو تارة الجمهوري الأسود، وآونة فالق الأخشاب الجاهل الذي هو بسبيل أن يفلق الاتحاد، وأحيانا الرجل الذي لا يحسن إلا النكات الخشنة المسفة، وطورا الشبيه بالغورلا، وهو يقابل ذلك كله بالصبر الجميل مترفعا ترفع الكرام عن جهل اللئام.
ولم يحدث منذ نشأة الولايات المتحدة أن قامت العداوة والبغضاء بين أهل الجنوب وأهل الشمال كما قامت بينهما عقب اختيار الجمهوريين أبراهام لنكولن.
Page inconnue