لكن عدد الحضور كان خمسة عشر طالبا وليس أربعة عشر. جاءت متأخرة دقيقتين وجلست بهدوء على مقعد في آخر الصف. حينها كان يرى رأسها كما يراها الآن في ضوء الشموع وخلفها الخشب المنقوش. بعد أن انخفضت أعداد الطلبة الجدد الملتحقين بالجامعة، فتحت أبواب فصول الجامعة الموقرة للطلاب الراشدين غير المتفرغين، وانعقدت تلك الدورة في غرفة محاضرات محببة ذات حوائط مكسوة بألواح خشبية في كلية كوينز كولدج. كان يبدو أنها تستمع إلى كلمته التقديمية عن هنري جايمز بتركيز، ولكنها لم تشارك في بادئ الأمر في المناقشة العامة حتى بدأت امرأة ضخمة تجلس في الصف الأول تبالغ في مدح أخلاق إيزابيل آرشر وترثي بانفعال مصيرها الذي لم تستحقه.
قالت الفتاة فجأة: «لا أفهم لماذا تشفقين إلى هذا الحد على امرأة أعطيت فرصا كثيرة فلم تحسن استغلالها. كان بإمكانها أن تتزوج من اللورد واربرتون وتساعد مستأجري أراضيه كثيرا، تساعد الفقراء. حسنا، هي لم تحبه، وهذا عذر مقبول، كما كان لديها طموحات أكبر من الزواج من اللورد واربرتون. لكن ماذا كانت تلك الطموحات؟ هي لم تمتلك أي موهبة إبداعية ولا وظيفة ولم تتلق أي تعليم مهني. وعندما جعلها ابن خالتها غنية ماذا فعلت؟ ذهبت تهيم على وجهها حول العالم مع السيدة ميرل دون غيرها. ثم تزوجت ذلك المنافق المغرور وصارت تذهب إلى حفلات الاستقبال يوم الخميس مرتدية أبهى الثياب. أين ذهبت تلك المثالية التي كانت تدعيها؟ أنا أتعاطف أكثر مع هنريتا ستاكبول.»
اعترضت السيدة قائلة: «أوه، لكنها فظة للغاية!» «هذا ما تراه السيدة توشيه، ويراه المؤلف. لكنها على الأقل تمتلك موهبة، عكس إيزابيل، وتستغلها في كسب عيشها، وتساعد أختها الأرملة.» ثم أضافت قائلة: «ترفض كل من إيزابيل آرشر ودوروثيا خطابا مناسبين ثم تتزوجان من أحمقين معتدين بنفسيهما، لكني أتعاطف أكثر مع دوروثيا. ربما لأن جورج إليوت تحترم بطلة روايتها، بينما يمقت هنري جيمز، في قرارة نفسه، بطلة روايته.»
اعتقد ثيو أنها ربما تكون قد تعمدت إثارة ذلك الجدل بدافع كسر الملل. لكن أيا كان دافعها، كانت المناقشة التي فتحتها صاخبة وحيوية، وانقضت الثلاثون دقيقة الباقية بسرعة وبطريقة ممتعة. شعر بالأسف والقليل من الحزن عندما انتظر قدومها يوم الخميس التالي فلم تأت.
بعد أن تذكرها وأرضى فضوله، استطاع أن يسترخي في سلام ويستمع إلى الترنيمة الثانية. كان من المعتاد في كنيسة مجدالين في السنوات العشر الأخيرة تشغيل ترنيمة مسجلة أثناء الصلاة المسائية. عرف ثيو من ورقة القداس المطبوعة أن تلك الأمسية ستكون هي الأولى في سلسلة أمسيات سيستمعون فيها إلى ترانيم إنجليزية تعود للقرن الخامس عشر، تبدأ بترنيمتين كتبهما وليام بيارد: «علمني يا ربي»، و«ابتهج يا إلهي». مرت فترة قصيرة من الصمت المترقب بينما انحنى قائد الجوقة لتشغيل الشريط. تدفق صوت الصبيان العذب النقي الذي لا يثير الغرائز، والذي افتقدوه منذ أن وصل آخر صبي جوقة إلى سن البلوغ وتغير صوته، وعم أرجاء الكنيسة. نظر أمامه إلى الفتاة، فوجدها جالسة لا تحرك ساكنا وقد رفعت رأسها لأعلى وثبتت عينيها على السقف ذي العقود فلم ير سوى انحناءة رقبتها تحت ضوء الشموع. لكنه رأى في آخر صف الجالسين أمامه شخصا ميزه فجأة: مارتنديل العجوز الذي كان عضوا على أعتاب التقاعد في هيئة التدريس بقسم اللغة الإنجليزية أثناء سنته الأولى. كان يجلس حينئذ في سكون تام ورأسه العجوز مرفوع، وتلمع في ضوء الشموع دموعه التي كانت تنسال بغزارة على وجنتيه، فبدت كأنها لآلئ تزين تجاعيد وجهه العميقة. أحب مارتي العجوز، الذي ظل أعزب ولم يتزوج، جمال الصبية. تساءل ثيو لماذا يأتي هو ومن هم على شاكلته كل أسبوع كي يتلذذوا بتعذيب ذواتهم بتلك الطريقة؟ بإمكانهم أن يستمعوا لأصوات الأطفال المسجلة في بيوتهم، فلماذا يأتون كي يستمعوا إليها هنا في ذلك المكان الذي ينصهر فيه الماضي والحاضر وسط الجمال وضوء الشموع فيتعزز الشعور بالحسرة؟ لماذا يأتي هو نفسه إلى هنا؟ لكنه كان يعرف إجابة ذلك السؤال. كي يشعر، هذا ما كان يقوله لنفسه، كي يشعر، كي يشعر، كي يشعر. حتى وإن كان ما سيشعر به هو الألم، لكنه كان يدع المشاعر تجتاحه.
غادرت السيدة الكنيسة قبله بخفة، وكأنما تحاول أن تنسل خلسة. وتفاجأ عندما خرج إلى الهواء البارد فوجدها واقفة تنتظره كما بدا واضحا.
دنت منه وقالت: «من فضلك، هل يمكنني أن أتحدث إليك بخصوص أمر مهم؟»
في الضوء الساطع الذي كان ينساب من رواق الكنيسة إلى عتمة المساء خارجها، رأى وجهها بوضوح لأول مرة. كان شعرها داكنا غزيرا ذا لون بني زاه وتتخلله خصلات ذهبية، وكان مصففا في جديلة قصيرة سميكة. وسقطت قصة تنساب على جبينها العالي الذي يغطيه النمش. كانت بشرتها فاتحة بالنسبة إلى شخص داكن الشعر؛ كانت امرأة بلون الشهد، رقبتها طويلة، وعظمتا وجنتيها بارزتان، وعيناها، اللتان لم يستطع تحديد لونهما، متباعدتان، يعلوهما حاجبان مستقيمان محددان، وأنفها طويل ونحيف وفيه حدبة طفيفة، وفمها واسع جميل. كان وجها يشبه وجوه نساء اللوحات ما قبل الرفائيلية. كان روسيتي سيحب أن يرسمها. كانت ملابسها تساير الأزياء العصرية التي ترتديها النساء جميعا ما عدا نساء الأوميجيين؛ سترة ضيقة قصيرة تحتها تنورة من الصوف تصل إلى منتصف ربلتيها، يظهر من تحتها زوجان من تلك الجوارب ذات الألوان الزاهية التي كانت صيحة أزياء تلك السنة. كان لونه أصفر فاقع. وكانت تحمل حقيبة كتف جلدية علقتها على كتفها اليسرى. لم تكن ترتدي قفازا فرأى أن يدها اليسرى مشوهة. كانت سبابتها ووسطاها ملتصقتين وتبدوان مثل جدعة بدون أظافر، وكان في ظهر كفها ورم كبير. أمسكتها بيمناها وكأنما تريحها أو تسندها. لكنها لم تبذل أي جهد لإخفائها. بل بدا كأنها تجهر بتشوهها ذلك في عالم لا ينفك يزداد تعصبا يوما بعد يوم ضد العيوب الجسدية. لكن على الأقل، كان لذلك العيب ميزة واحدة تعوضه؛ فأي امرأة تعاني تشوها جسديا، أو مرضا نفسيا أو جسديا من أي نوع لم تكن موجودة على قوائم النساء اللاتي سيولد من أرحامهن الجنس الجديد إن اكتشف رجل غير عقيم؛ لذا، كانت، على الأقل، معفاة من إجراءات إعادة الفحص نصف السنوية المهينة المستنفدة للوقت، التي كانت تخضع لها جميع النساء الصحيحات تحت سن الخامسة والأربعين.
قالت مرة أخرى بصوت أخفت: «لن آخذ من وقتك الكثير. لكن أرجوك يا دكتور فارون، يجب أن أتحدث معك في أمر.» «حسنا، إن كان ذلك ضروريا.» أثارت حب استطلاعه، لكنه لم يستطع إضفاء الحفاوة على صوته. «ربما يمكننا أن نتمشى في تلك الأروقة المسقوفة الجديدة.» اتجها إليها في صمت. ثم قالت: «أنت لا تعرفني.» «لا، ولكني أتذكرك. حضرت المحاضرة الثانية من المحاضرات التي ألقيتها نيابة عن الدكتور سيبروك. وقد أضفت حيوية على النقاش.» «أخشى أن أسلوبي كان حادا للغاية.» ثم أضافت قائلة، وكأنه كان يهمها للغاية أن تفسر لي ذلك: «أنا معجبة كثيرا برواية «صورة سيدة».» «لكن أظن أنك لم ترتبي لتلك المقابلة كي تناقشيني في ذوقك الأدبي.»
ما إن خرجت تلك الكلمات من بين شفتيه، حتى شعر بالندم عليها. احمرت وجنتاها، وشعر بإعراض غريزي من جانبها، وانخفاضا لثقتها في نفسها، وربما فيه. أزعجته ملاحظتها الساذجة، لكن لم يكن ثمة داع لأن يرد ذلك الرد التهكمي الموجع. كان توترها معديا. وكان يأمل ألا تكون تنوي إحراجه ببوحها بأسرار شخصية أو مطالب عاطفية. كان من الصعب أن يوفق في ذهنه بين المحاورة اللبقة الواثقة من نفسها التي رآها من قبل والمراهقة المرتبكة التي يراها الآن. لم يكن ثمة جدوى من محاولة إصلاح ما أفسده، فسارا في صمت لنصف دقيقة.
Page inconnue