اليوم هو عيد ميلاد ابنتي، أو كان سيكون عيد ميلاد ابنتي لو أنني لم أدهسها بالسيارة وأقتلها. حدث ذلك عام 1994، عندما كان عمرها خمسة عشر شهرا. حينئذ كنا نسكن أنا وهيلينا في منزل إدواردي شبه منفصل في شارع لاثبري، وكانت مساحته أكبر من حاجتنا وسعره يفوق قدرتنا المادية، لكن هيلينا، بمجرد أن علمت بحملها، أصرت على أن نبتاع منزلا بحديقة وغرفة أطفال تطل على الجانب الجنوبي. لا يمكنني الآن تذكر ملابسات الحادث بالتفصيل، وهل كان من المفترض أن أراقب أنا ناتالي أم أني ظننت أنها كانت مع والدتها. لا بد أن كل تلك التفاصيل كشفت أثناء التحقيق القضائي؛ لكن التحقيق القضائي، ذلك التوزيع الرسمي للمسئولية، قد انمحى من ذاكرتي. أذكر أنني كنت أغادر المنزل في طريقي إلى الكلية وكنت أرجع للخلف بالسيارة التي ركنتها هيلينا بإهمال قبلها بيوم، كي أستطيع الخروج بها بسهولة من بوابة الحديقة الضيقة. لم يكن لدينا مرأب في منزلنا بشارع لاثبري، لكن كان لدينا مساحة مخصصة لركن سيارتين أمام المنزل. لا بد أني تركت الباب الأمامي مفتوحا وأن ناتالي التي كانت قد بدأت تمشي منذ أن بلغت ثلاثة عشر شهرا، قد تبعتني حبوا. وحتما ذكر ذلك التقصير البسيط في التحقيق أيضا. لكن بوسعي أن أذكر بعض التفاصيل؛ النتوء اللين الذي مرت فوقه العجلة اليسرى مثل مطب لكنه أنعم وألين، وأكثر غضاضة من أي مطب، وإدراكي على الفور الذي جاء أكيدا ومطلقا ومرعبا لماهيته، والصمت التام الذي ساد لخمس ثوان قبل أن يبدأ الصراخ. كنت أعلم أنه صراخ هيلينا، ومع ذلك، أبى جزء من عقلي أن يصدق أن ما تسمعه أذناي كان صوتا بشريا. وأذكر شعور الخزي. أبى جسدي أن يتحرك، لم أستطع أن أخرج من السيارة ولا حتى أن أمد يدي إلى مقبض الباب. وأذكر بعد ذلك جورج هوكينز، جارنا، وهو يضرب بيديه على الزجاج ويصرخ: «اخرج أيها الوغد، اخرج!» وبوسعي أن أذكر الفكرة التي لا علاقة لها بالأمر التي راودتني وأنا أرى على الزجاج وجهه القبيح الذي شوه الغضب ملامحه: «لم يحبني قط.» ليس بوسعي التظاهر بأن ذلك لم يحدث. ليس بوسعي التظاهر بأنني دهست شخصا آخر. ليس بإمكاني التظاهر بأني معفى من المسئولية.
طغى الهلع والشعور بالذنب على الحزن. ربما لو كانت هيلينا قد وجدت في نفسها القدرة على أن تقول: «الأمر أصعب عليك، يا عزيزي.» أو «الأمر صعب على كلينا، يا عزيزي.» لاستطعنا إنقاذ شيء ما من حطام سفينة زواجنا التي لم تكن صالحة للإبحار منذ البداية. لكنها بطبيعة الحال لم تستطع ذلك؛ فلم يكن ذلك ما اعتقدته. اعتقدت أنني لم أهتم بالقدر الكافي، وقد كانت محقة. اعتقدت أنني لم أهتم بالقدر الكافي لأني لم أحب بالقدر الكافي، وكانت محقة في ذلك أيضا. كنت سعيدا بكوني أبا. عندما أخبرتني هيلينا أنها حبلى، شعرت بمشاعر أظنها معتادة وغير منطقية من فخر وحنو ودهشة. كنت أشعر بالمحبة تجاه طفلتي، وربما كانت تلك المحبة لتزداد إن كانت أجمل - فقد كانت صورة كاريكاتورية مصغرة من والد هيلينا - وأكثر حنوا، وأكثر تجاوبا، وأقل ميلا للنواح. أنا مسرور لأن أحدا غيري لن يقرأ تلك الكلمات؛ فقد ماتت طفلتي منذ سبع وعشرين سنة وما زلت أشعر بالامتعاض عندما أفكر بها. لكن هيلينا كانت مهووسة بها، وكانت هائمة بها حبا ومتيمة بها تماما، وأعرف أن ما كدر علاقتي بناتالي هو الغيرة. كنت سأتغلب عليها بمرور الوقت، أو على الأقل كنت سأتصالح معها. لكن الوقت لم يتح لي. لا أظن أن هيلينا اعتقدت يوما أني دهست ناتالي عمدا، على الأقل قبل أن تفقد صوابها؛ فحتى في أوج حزنها كانت تمنع نفسها من نطق تلك الكلمات التي لا تغتفر، ربما من باب الإيمان بالخرافات أو لاحتفاظها بشيء من الشفقة تجاهي، فامرأة ابتليت بزوج مريض وصعب العشرة مثلي كانت ستقول تلك الكلمات اللاذعة: «ليتك مت.» لكن لو كان بيدها الخيار، لاختارت أن أموت أنا بدلا من ناتالي. ولا ألومها على ذلك؛ فقد بدا لي ذلك حينها، ولا يزال يبدو لي الآن، منطقيا تماما.
كنت أرقد بعيدا عنها في سريرنا الكبير بانتظار أن تخلد إلى النوم، وأنا أعرف أن ذلك قد يستغرق ساعات، حاملا هم جدول أعمال اليوم التالي المكتظ على آخره، وكيف سأتأقلم مع الليالي الطويلة الحزينة التي بانتظاري، وأردد في الظلام قائمة تبريراتي الطويلة؛ «بحق المسيح، لقد كان حادثا. لم أقصد أن أفعل ذلك. لست الأب الوحيد الذي دهس طفلته. كان من المفترض أن تعتني هي بناتالي، فالطفلة مسئوليتها هي، وليست مسئوليتي كما أوضحت لي. أبسط ما كان بوسعها فعله أن ترعاها كما ينبغي.» لكن تبرير الذات الحانق كان تافها وغير موضوعي كعذر يقدمه طفل كسر زهرية.
علم كلانا أننا يجب أن نغادر لاثبري رود. قالت هيلينا: «لا يمكننا البقاء هنا. ينبغي أن نبحث عن منزل قريب من وسط المدينة. فهذا ما أردته أنت دائما على كل حال. أنت لم تحب يوما هذا المكان.»
كان الاتهام حاضرا لكنه لم يغادر شفتيها قط: أنت سعيد لأننا سننتقل من المنزل، سعيد لأن موتها جعل ذلك ممكنا.
بعد ستة أشهر من الجنازة انتقلنا إلى منزل جورجي مرتفع بشارع سانت جون، يطل بابه الأمامي على الشارع مباشرة حيث كان يصعب ركن السيارة. كان منزلنا بشارع لاثبري رود منزلا عائليا؛ أما ذلك المنزل فهو لغير المثقلين بالتزامات أو لكثيري التنقل. ناسبني الانتقال لأنني أحببت أن أكون قريبا من وسط المدينة، ولأن العمارة الجورجية، حتى تلك المباني التي بنيت بدافع الاستثمار وكانت تحتاج إلى صيانة مستمرة، لها وجاهة تفوق وجاهة العمارة الإدواردية. لم نتضاجع منذ وفاة ناتالي، لكن هيلينا انتقلت إلى غرفة منفصلة حينها. لم نناقش ذلك مطلقا فيما بيننا، لكني عرفت أن ذلك كان بمثابة تصريح منها لي أنه لن يكون ثمة فرصة ثانية، وأني لم أقتل ابنتها الحبيبة فحسب، بل قتلت كذلك أي أمل في أن نحظى بطفل آخر، بالصبي الذي كانت تشك أني أردت حقا أن أنجبه. لكن ذلك كان في أكتوبر من عام 1994، وبعد أن أصبحنا لا نملك ذلك الخيار. لم نظل متباعدين طوال الوقت بالطبع؛ فالجنس والزواج أعقد من ذلك بكثير. من وقت لآخر، كنت أقطع المسافة القصيرة المغطاة بالسجاد التي تفصل بين غرفتينا. لم تكن ترحب بي ولا تعرض عني. لكن الهوة بيننا صارت أوسع وأعمق، ولم أبذل أنا أي مجهود لسدها.
تفوق مساحة هذا المنزل الضيق ذي الخمسة الطوابق حاجتي بكثير، لكن بتعدادنا الآخذ في الانحدار، لن ينتقدني أحد على الأرجح لعدم مشاركتي تلك المساحة الزائدة. فلم يعد يوجد طلاب جامعيون يطالبون بغرف جلوس ونوم مشتركة، ولا أسر شابة بلا مأوى توخز الضمير الاجتماعي للطبقات الثرية. أستخدم المنزل كله، أصعد من طابق لآخر خلال روتيني اليومي، كما لو كنت أضع ختم ملكيتي بمنهجية على الأرضية المكسوة بالفينيل، وعلى السجاجيد والأبسطة وعلى الخشب المصقول. تقع غرفة الطعام والمطبخ في القبو، والأخير به قوس عريض من الدرجات الحجرية المؤدية إلى الحديقة. وفي الطابق الذي يعلوه، حولت غرفتي الجلوس الصغيرتين إلى غرفة جلوس واحدة أستخدمها كذلك مكتبة وغرفة تلفاز وموسيقى ومكانا ملائما لاستقبال طلابي. في الطابق الأول، حولت أيضا غرفتين صغيرتين إلى غرفة استقبال كبيرة على شكل ضلعين متعامدين، وتدل مدفأتاها غير المتناسقتين على استخدامها السابق. تطل نافذتها الخلفية على الحديقة الصغيرة المسيجة التي ليس بها إلا شجرة بتولا واحدة فضية اللون. أما في واجهتها، فتوجد نافذتان أنيقتان تمتدان حتى السقف، وبها شرفة في الخلف، وتطل جميعها على شارع جون ستريت.
لن يجد أي شخص يمر تحت النافذتين صعوبة في وصف مالك الغرفة. من الواضح أنه شخص أكاديمي؛ فثلاثة من حوائطها مغطاة بأرفف الكتب بالكامل من الأرض وحتى السقف. وهو عالم تاريخ، فالكتب نفسها تخبرك بذلك. كما أنه رجل مهتم بالأساس بالقرن التاسع عشر؛ وليست الكتب فحسب هي ما يدل على ولعه بتلك الحقبة، بل أيضا الصور والتحف؛ تماثيل ستافوردشاير التذكارية، واللوحات الزيتية الفيكتورية، وورق الحائط من تصميم ويليام موريس. وهي أيضا غرفة رجل يقدر الراحة ويعيش وحيدا. فلا يوجد بها أي صور عائلية، ولا ألعاب لوحية ولا أي فوضى أو غبار أو أغراض نسائية مبعثرة، وبالكاد يوجد ما يدل على أن أحدا يستخدمها. وقد يخمن الزائر أيضا أن لا شيء فيها موروث، فكل شيء فيها مكتسب؛ ليس بها أي تحف مميزة أو فريدة من نوعها، محفوظة كإرث عائلي، ولا أي صور عائلية، ولا لوحات زيتية غير مميزة معلقة للدلالة على الأصل. بل هي غرفة رجل ارتقى في العالم بجهده، وأحاط نفسه برموز لإنجازاته الشخصية وتلك الأشياء البسيطة التي لديه ولع بها. تأتي السيدة كافاناج، زوجة أحد عمال النظافة بالكلية، ثلاث مرات في الأسبوع كي تقوم بأعمال التنظيف، وتقوم بها على أكمل وجه؛ فأنا لا أرغب في توظيف العمال الوافدين الذين يحق لي توظيفهم باعتباري مستشارا سابقا لحاكم إنجلترا.
تقع غرفتي المفضلة في الطابق الأخير من المنزل، وهي غرفة علية بها مدفأة خلابة مصنوعة من الحديد المطاوع والقرميد المزخرف، وأثاثها الوحيد مكتب وكرسي وبها لوازم صنع القهوة. ولها نافذة بلا ستارة تطل على برج الجرس بكنيسة سانت بارناباس وترى المنظر خارجها حتى المنحدر الأخضر لغابة ويثام. هنا أكتب يومياتي، وأعد محاضراتي وندواتي، وأكتب أبحاثي التاريخية. يقع الباب الأمامي للمنزل تحتها بأربعة طوابق، وهو ما يجعل فتح الباب إن رن جرسه أمرا متعبا؛ لكني حرصت على ألا يأتيني زوار غير متوقعين في حياتي التي أكتفي فيها بذاتي.
في فبراير من العام الماضي، تركتني هيلينا من أجل روبرت كلافرينج الذي يصغرها بثلاث عشرة سنة، ويجمع بين مظهر لاعب رجبي شديد الحماسة ورهافة حس فنان، كما يحمل المرء على الاعتقاد. وهو يعمل بتصميم الملصقات وأغلفة الكتب الورقية ويجيد عمله للغاية. أذكر شيئا قالته خلال مناقشاتنا السابقة للطلاق، التي سعيت جاهدا أن أجعلها غير حادة أو انفعالية، وهو أني كنت أضاجعها على فترات حرصت أن تكون منتظمة لأني أردت لعلاقاتي مع طالباتي أن تكون مدفوعة بما هو أكثر من مجرد الحرمان الجسدي. لم تقل ذلك حرفيا بالطبع، لكن كلماتها حملت ذلك المعنى. أعتقد أنها فاجأت كلينا بنفاذ بصيرتها.
Page inconnue