...
من أجل التغيير
Maison d'édition
دار الفكر المعاصر بيروت-لبنان / دار الفكر دمشق
Numéro d'édition
الإعادة الرابعة
Année de publication
١٤٢٦هـ = ٢٠٠٥ م / ط ١
Lieu d'édition
سورية
Genres
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
من أجل التغيير
دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان
دار الفكر دمشق - سورية
_________
[ملاحظة: جاء في الفصل الثاني (نداء قسطنطة ص:٥١) «واسم المدينة الجزائرية: قسنطينة»]
1 / 1
الإعادة الرابعة
١٤٢٦هـ = ٢٠٠٥ م
ط ١: ١٩٩٥ م
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
من أجل التغيير
1 / 3
من أجل التغيير/ مالك بنا نبي.-
1 / 4
المقدمة
هذا الكتاب
مقالات كان مفكرنا الكبير مالك بن نبي قد أودعها مجريات الأحداث في الستينات من هذا القرن. في زمن كانت فيه الجزائر تبني حضورها الدولي، وتلج عصرها الوطني بعد زوال الاحتلال الفرنسي.
وهي مقالات تأتي تماما لمقالات أخرى، أودعها بن نبي كتابا صدر منذ سنوات تحت عنوان (بين الرشاد والتيه)، حين ترجمها من الفرنسية إلى اللغة العربية، وقد اختارها وبوبها، بعدما كانت متفرقات أعداد الصحيفة التي تصدر باللغة الفرنسية باسم (La Révolution Africaine).
لقد صدر كتاب (بين الرشاد والتيه) بعد وفاة مفكرنا بثماني سنوات، عن دار الفكر بدمشق، بعدما أعدت النظر في صياغته العربية.
واليوم أراني- وقد أتممت ما في يدي من تراث مالك بن نبي- مدعوا في ختام مهمتي إلى أن أستكمل حصاد مقالاته الستينية، بنشر ما تفرق منها. لذلك عهدت إلى صديقنا الدكتور بسام بركة، أستاذ الأدب الفرنسي والعلوم اللغوية (اللسانيات) في الجامعة اللبنانية، بترجمتها إلى العربية سوى مقالات ثلاثة أشير إليها في هذا الكتاب بإشارة (ع. م). كنت قد اعتنيت بترجمتها.
لم يبق لدي من وصية مالك بن نبي ﵀ سوى أن أراقب حقوق النشر والترجمة. وإذ وجدت في ابنته (رحمة) اهتماما بتراث والدها، رأيت أن أرد الأمانة إلى أهلها، فتنازلت لها عن الحقوق التي عهد إلي مالك بن نبي بها في وصيته، والتي أنشر صورتها في نهاية هذا الكتاب بخط يده.
1 / 5
قد تكون الأحداث التي انعكست في هذه المقالات كما في المقالات المنشورة في كتابه (بين الرشاد والتيه) قد تجاوزها الزمنا، وقلب التاريخ صفحتها.
فالأنباء عن مسيرة الجزائر دخلت منعطفا جديدا، لكن منهج بن نبي في صياغتها لا يزال الأوفى بالرؤية المستقبلية.
لقد جمعت سائر المقالات بالفرنسية تحت عنوان (من أجل تغيير الجزائر)، بعناية أديب جزائري، هو الأستاذ نور الدين بوقروح، الذي يترامى إلينا من نشاطه السياسي ما أحسبه متلبسا بروح فكر بن نبي، وإذا كان لي أن أستخلص من هذا العنوان تقويما لأهية مقالات بن نبي الستينية، يأتي في التسعينات، فهو إدراك الجيل الجزائري الحاضر، بل والعربي معا لمرامي فكر جار سابقا لمسيرة الأفكار الجارية في عالمنا الإسلامي، بنصف قرن من الزمن أو يزيد.
وهذا يعني أن مجتمعنا الإسلامي أضاع مسيرة قرن بكامله، حائرا في طوفان العصر الحديث، دون أن يستخرج لمسيرته طريقا فاعلا ومثمرا.
بن نبي ومنذ الثلاثينات، وقد استفاق وعيه على أزمة العالم الإسلامي في قبضة الاستعمار، استطاع أن يستخرج القواعد الأساسية للنهضة، وأن يصيح في هدأة السكون الفكري وافتقاد الرؤية، داعيا إلى منهج، يطوي الشعارات التي أرخت لضلال العقود العشرة من القرن العشرين، وعلى سائر المستويات.
فمن كتابه (شروط النهضة) الذي صدر بالفرنسية في الأربعينات، إلى كتابه (وجهة العالم الإسلامي) في بداية الخمسينات، وإلى كتابه (الظاهرة القرآنية) ثم (الفكرة الإفريقية الآسيوية) في الفترة نفسها، ثم الكتب التي تلت، تؤصل المنهج، وتحدد أصول ميلاد المجتمع، وتشير إلى مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، وتبني قواعد البناء الثقافي في كتابه (مشكلة الثقافة)، وتحدد موقع المسلم من عالم الاقتصاد الحديث .. نرى بن نبي الكلمة الهادية إلى المرتقى الصعب في بناء الحضور الإسلامي،
1 / 6
والذي أشاحت عنه مسيرة القرن، حينما استسهلت الحلول، وأفرغت مخزون عنفوان الجيل في صيغ، بادرت الحماس وتلقفته، ليضيع في فضاء العبث، وسراب الرؤية، وهدر الطاقات والثروات في مسارب الاقتصاد العالمي؛ يستهلك الرفاهية كالماشية حتفها في سمنها.
في مقالات هذا الكتاب والذي سبقه (بين الرشاد والتيه)، نقرأ عن بن نبي المؤسس لمنهج يدعو الشباب إلى مزيد فيه، وتعديل في تقاصيله، وتصويب لما كان قد اتكأ عليه فكره من أمثال طرحتها المرحلة التي كتبت فيها تلك المقالات، ثم جاء الزمن يكشف زيفها.
فالذي يبقى من هذا الفكر الرائد هو (المنهج) الذي نقيس به الخطى، ونرسم علامات الطريق.
فنحن اليوم نرقب دراسات لـ (بن نبي) وفكره في كل موطن وفي كل مكان من عالمنا الإسلامي، ونشهد تحليلا يجهد له الشباب الناشئ، فيأوي إلى دفء روحه الإسلامي ونور إرشاده في سبل الفعالية وذلك حتى لا نتيه- ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين- في متاهات قرن مضى، أحاط بفكرنا ومقدراتنا، وجعلنا رهائن عالم صناعي، زجنا جميعا في قفص اقتصاده الاستهلاكي؛ بعض نا يستكين له، فينضو عن كاهله ثوب القضية ورسالتها، وبعض نا يعالج قضبان ذلك القفص بصراخ الاحتجاج وتذكر الماضي.
في هذا الكتاب، الذي هو خاتمة إشرافي على كتب مالك بن نبي، أستودع الجيل أمانة منهج بن نبي، ليضيف إليه عمقا في الرؤية، وطريقا يستشرف المستقبل ويحزم الفكر بحزم الأصالة؛ أصالة تجلس على طاولة العمر، في حضور يمتلك ناصية المسيرة، وكلمة تحاور الأمم وتجاور الثقافات.
بيروت في١٤/ ١٢/ ١٩٩٣
عمر مسقاوي
1 / 7
الفصل الأول
في البناء الاجتماعي
1 / 9
الأفكر والبناء الاجتماعي (*)
الندوة التي عقدت في (نادي الصنوبر)، ستترك بدون شك نتائج إيجايية. إنما ينبغي القول بأن بعض المناقشات تتطلب الإيضاح، وبالخصوص تلك الخطب التي أطلقت عبر المناقشات من أجل الإثبات أو الإشارة إلى السمة العالية للفكر الماركسي؛ فأفقدت القيمة الموضوعية لها بإطلاقها ذلك الادعاء.
فاشتراكي ذو تكوين عالمي، لا يذهب إلى هذا الحد، ولا يدعي أبدا أنه يمكن عرض الاشتراكية، كما يعرض العلم الموضوعي، كالكيمياء مثلا (١).
فماركس نفسه أوضح من ناحية أخرى خصائص طريقته تقريبا في هذه العبارات "الفلاسفة حتى الآن فسروا العالم، أما نحن فنريد تحويله".
فالاشتراكية لا يمكن النظر إليها كعلم إلا في هذا الإطار، أعني بقدر ما تقتضيه التقنية الاجتماعية لتحقيق فكرة جديدة.
فتفسيره للعالم عبر مسلمتيه: المادية الجدلية والمادية التاريخية، يتضمن منذ البداية منهجا ميتافيزيكيا، أفضى في جوانب أخرى لعناء كبير، كذلك العناء الذي ألم بالعالم حينما أراد أن يجدد ضمن التفسير الماركسي بعض ظواهر نظريته، في علم الفلك الفيزيائي، في كتابه (العالم - الحياة- العقل).
لكن الندوة احتفظت من ناحية أخرى باتصال ولود.
وأخص خطاب الرئيس بومدين، الذي طرح للتأمل أكثر من مصطلح. وإذا كانت هنالك أسباب جعلتني في مقالي الأخير أتحدث عن المظاهر الاقتصادية للندوة،
_________
* «١٩٦٧ Les Idées et l'édification sociale»، Révolution africiane، no ٢٢٥، Semaine du ٥ au ١١ juin
(١) هذا التعبيرقيل فعلأ خلال المناقشات.
1 / 11
فإنني أرى من المفيد أن أتحدث في هذه المقالة عن مشكلة الأفكار، التي أثارتها هذه الندوة.
ولنقرأ أولا هذا المقطع من الخطاب:
"إن مجتمعنا هو كبقية المجتمعات الاشتراكية الأخرى يشكو من الانفصال بين الفكر والسياسة، وهذا يمنح الحوار المثمر والإصلاح عبر المناقشات الحية.
من هنا جاء ذلك الخوف التقليدي المتبادل، بين المفكر ورجل السياسة".
عبر صراحة تشرف قائلها، فمن الواضح أن الرئيس بومدين قد أراد أن يبرز نقصا باديا، وبالخصوص في الجانب السياسي. ولكن ينبغي أن نعترف أن الدكتور خالدي في كالمته الموجزة، قد وضع في الكفة الأخرى من الميزان الوزن المناسب، حينما تحدث عن (حركي القلم).
هكذا تكون القضية، قد استقامت لنا في خطورة أبعادها. وينبغي أن نعطيها ما تستحق من أهمية من وجهة نظر اجتماعية.
إن الماركسية التي ادعت بأنها قد تبعت خطى المنهج الهيجلي، قد ورثت من هذا المنهج آلية الجدلية الرائعة. وبالخصوص ذلك المبدأ الذي من حقه أن يفاخر به إذ يقول: هناك مستقبل فلسفي للعالم ومستقبل لعالم الفلسفة.
فهذا المبدأ إذن، قد وضع بين الأفكار المنظمة منهجا فلسفيا، وبين الأحداث الاجتماعية رابطا محددا ومتبادلا.
وهذا يعني أن الترابط المستمر، والتلاحم المؤثر بين المعنيين الفلسفة (الأفكار)، والعالم (بقدر ما يمثل الواقع الاجتماعي) هو أمر ضروري في كل لحظة، وهذا التزاوج هو نفسه مقياس مستوى حضارة ما.
1 / 12
وينتج عن هذا أن كل ما يؤدي إلى الاختزال، أو المزيد من التعتيم بين الأفكار والأحداث، لابد من مراقبته بكثير من اليقظة والحذر. وهذه الاعتبارات هي التي تملي علينا دائما، وتحدد موقفنا من مؤسسة " ... " التي ليس من شأنها إلا أن تلقى مزيدا من التعتيم، على تلك الصلة التي نتحدث عنها هنا.
من ناحية أخرى، فإنه من غير المفيد أن نبني هنا مناقشة حول أولوية مستقبل فلسفة العالم، أو مستفبل عالم الفلسفة، والذي هو الخلاف الرئيسي بين ماركس وهيجل.
لندع هذه المشكلة جانبا، آخذين بعين الاعتبار الأمور من مجرد وجهة نظر اجتماعية، لنرى بأن كل اطراد تاريخي، إنما هو اختصار لذلك الخطر المزدوج المحدد بالمبدأ الذي نعمد إلى تحليله.
الماركسية مثلا: إنها منهج أفكار رأى النور في الواقع الاجتماعي لأوروبا في بداية القرن التاسع عشر. إنها ساعة مستقبل فلسفي لعالم ما.
لكننا إذا نظرنا إلى الحاضر، يبدو لنا الوجه الآخر: مستقبل عالم الفلسفة، الذي ظهر لأعيننا عبر القرن العشرين؛ وفي الواقع الاجتماعي ل بعض البلاد الاشتراكية في مرحلة تطورها الحالي.
ليس هذا إلا مثلا بينما الحدث عام. ونحن نراه بارزا في تطور المجتمع الغربي انطلاقا من أصوله المسيحية.
وقد أوجزه لنا بالخصوص في اطراد الثورات حين قال "من الإنجيل إلى العقد الاجتماعي فالكتب (الأفكار) تصنع الثورات".
فهناك في الواقع علاقة جدلية بين الأفكار والأحداث الاجتماعية والسياسية في كافة مراحل التاريخ.
1 / 13
وما يهمنا اعتباره هنا هو تأثير الانقطاع بين الأفكار والأحداث الاجتماعية على تطور مجتمع ما، وأسباب هذا الانقطاع. هذه هي المشكلة التي طرحها الرئيس بومدين.
ينبغي أن نركز اهتمامنا على انفصال كهذا في الجزائر. وأن نوظف في حسابه العمل السياسي، وقد أضحى حقلا ل بعض المسؤولين الذين يمارسون السياسة كمهنة، بدلا من أن يعيشوها كنضال.
لكننا نبادر إلى القول بأن الخشية من الأفكار لم تنشأ في بلادنا. فسقراط قد لاحظها في المجتمع الأثيني عند حديثه عن أولئك الذين يدعون (الفصحاء) في خطاب المائدة.
فقد وضع فرقا بين (الجدليين) الذين يبحثون عن فكرة صحيحة (العصر لم يكن يتطلب البحث عن الفكرة الفعالة) وأولئك الذين يعمدون إلى المحسنات اللفظية، أو يحترفون النوادر التي لا يحتاج فيها الراوي إلى فكرة، أو إلى حقيقة تتضمنها، أو إلى وسيلة عمل.
لكن سقراط كان يجهل الاستعمار، بينما عصرنا الذي يعرفه قد وضع فرقا هو الآخر، بين الكاتب الذي يكتب فقط لإرضاء ذاته أو الآخرين، والكاتب الذي سماه الدكتور خالدي (الحركي بالقلم).
ينبغي أن نترك الأول لعدالة محكة الأدب. ويبدو لنا أن كاتبا مغربيا هو الأستاذ عبد الله العروي قد خص الموضوع بدراسة هامة، حيث أعلنت عن قرب صدورها مجلة في منشورات ماسبيرو.
(فحركي القلم) هو على العكس من ذلك، يهمنا لأن حالته تهم عالم الاجتماع.
1 / 14
في الواقع فإن أفكارنا لا يصنعها فقط (الفصحاء) الذين يتحدثون باحتقار (وأحيانا بانفعال) ولكن أيضا يصنعها (الحركيون).
الأولون يدخلون إلى دورة الأفكار قاطعا منهجيا. أما الحركيون، فيدسون الأفكار الخاطئة، التي لا علاقة لها بالحياة، وبالمشاعر وبمتاعب الشعب الجزائري.
والفرقتان تعملان معا لاختزال كل تواصل ضروري بين (المستقبل الفلسفي لعالم ما)، و(مستقبل عالم الفلسفة).
إنهم ستائر تحول بين الأفكار والأحداث الاجتماعية، خصوصا في الإطار السياسي. وأحيانا دون أن يعلموا، يشكلون فواصل، جهزت بأيد خبيرة، لتقص كل اتصال من شأنه أن يعزل الأفكار، ويجعل من غير الممكن الحوار بين رجل السياسة ورجل الفكر، وفق تعبير الرئيس بومدين.
ولعله من غير الممكن أن نتحدث هنا عن سائر الإجراءات المستعملة، وعن سائر القواطع التي جهزت، لتجعل مثلا هذا الحوار مستحيلا.
يكفي أن نقول فقط، بأننا إذا كنا نعرف شيئا عن الصراع الفكري العنيد، الذي يجمع بيده القوى الكبرى والتي تدعي السيطرة العالمية، فإننا لا نعرف شيئا عن الخاصية القوية للصراع الفكري، الذي يطلقه الاستعمار في البلاد التي خرج منها، بعد أن استعمرها.
وشعوب العالم الثالث تدخل في هذا، سواء علمت به أو لم تعلمه. فنحن نعرف على سبيل المثال، بأية طريقة ينتقص الاستعمار من طاقتنا الاقتصادية، حين يخضع موادنا الأولية للكساد. إذ ينافسها بما يطرح في السوق بديلا عنها مصنوعات (السانتاتيك).
ونعلم أيضا بأنه يفعل ذلك لهدف محدد، يعرقل بناءنا الاجتماعي.
1 / 15
لكن ينبغي أن نضيف بأن مناورات الاستعمار للانتقاص من أفكارنا، أعني افتقادها فعاليتها في البناء الاجتماعي هي الأكثر خداعا، وأن نعترف في الوقت نفسه بأنه لا يوجد في بلادنا أية وقاية تمنع هذه المناورات من النجاح؛ بل العكس هو الصحيح.
ترجمة ع. م
مالك بن نبي
1 / 16
المذهب الاقتصادي الاجتماعي المنتظر (*)
فلنركز على نقاط ضعفنا كي نحضر أسس ثورتنا بشكل أفضل.
لقد كانت الصحف التي صدرت في الأول من نوفبر الماضي محقة، حين أشارت إلى أن عيد الاستقلال هذا كان مختلفا عن سائر الأعياد التي سبقته.
في الحقيقة، وقف شعبنا هذه المرة أيضا خاشعا لذكرى شهدائه، وشيع- في موكب مهيب- رفات أبنائه الذين استشهدوا خارج أرض الوطن، إلى مثواهم الأخير.
لكن المناسبة ترتبط فوق ذلك بحدث دولي ووطني ذي طابع خاص جدا.
ونحن إذ نترك لمحررينا في السياسة الخارجية الاهتمام بالتعليق على الأمر الدولي، فإننا- على الصعيد الوطني- نستطيع أن نقول دون مبالغة منا: إن عيدنا الوطني الأخير هذا يتطابق مع انعطافة حاسمة في سياستنا الإنمائية.
وربما سيأتي من يقول في المستقبل: إن الأسبوع أو الأيام العشرة من خطوة (إلى الأمام) هي على وجه الدقة أسبوع أو أيام هذا العيد.
لقد دخلت البلاد في مرحلة جديدة مع الخطابات الأربعة الأخيرة التي ألقاها رئيس الدولة في نادي الصنوبر.
كان الخطاب الأول، كما نتذكره، بمناسبة اجتماع كادراتنا الإدارية عشية الأعياد.
وكان الثاني في الغداة موجها لكادرات العمال. أما الثالث والرابع فقد توجه فيهما الرئيس غداة هذه الأعياد إلى كادرات القضاء والكادرات الاقتصادية- الاجتماعية.
_________
(*) «Un corps de doctrine économico-sociale attende»، Révolution africaine،.
1 / 17
بذلك أصبحت الخطب الأربع هذه بمجملها وبالإضافة إلى خطاب السيد شريف بلقاسم، وزير الدولة للشؤون المالية والتخطيط، تشكل الهيكل الأساسي والضروري لصياغة وتدقيق وجمع الأفكار الرئيسة في قطاعات أساسية من سياستنا الداخلية.
وحتى لو كانت هذه الأفكار موجودة من قبل، فإنها لم تكن تستطيع في حال التشتت والضياع الذي توجد فيه، أن تؤثر ديناميكيا وتصحيحيا على أسلوب الإنماء في بلدنا. إنها اليوم متحدة في قالب متكامل لابد وأن يعمل على تكوين نظام سياستنا الداخلية.
وإذا وضعنا جانبا القيمة الخاصة لهذه الأفكار على الصعيد التقني، يتوجب علينا بادئ ذي بدء أن نشير إلى أنها تحمل على الصعيد الأخلاقي صدمة نفسية من شأنها أن تزيد التزام الشعب الجزائري بثورته.
والواقع أن اللهجة المؤثرة التي عبر بها الرئيس بومدين عن هذه الأفكار، منحتها قيمة ثورية أورثت اندفاعا أيديولوجيا جديدا يهب على البلاد.
فعلى المستوى العقائدي، هناك مفاهيم أساسية، لا يمكن لأي تقدم اقتصادي واجتماعي أن يتحقق بدونها، قد أعيد تقويمها أمام أبصارنا بل أمام أبصار كل مواطن جزائري.
فقد كان ولا شك من الضروري أن يعاد تقويم مفاهيم المسؤولية، والعدالة، والاقتصاد، والنظام، في معانيها المألوفة والأخلاقية الأقرب للحس الفطري عند الشعب. ذلك أن هذه المفاهيم- كما أشار الرئيس إلى ذلك- فعلا قد قلل من شأنها التضخم والمزايدات الفوضوية.
لقد كان هذا التوضيح ضروريا، على الأخص، فيما يتعلق بنظامنا القضائي. فالعدالة أصبحت- كما يعول بحق الرئيس- بضاعة يتعذر على الشعب الوصول إليها:
1 / 18
إنها بضاعة باهظة الثمن، وفي الوقت ذاته متقلبة في منحاها. فقد غدت قاعات المحاكم عندنا مسرحا للمناظرات الخطابية بين المرافعين الذين باتوا يصدرون الأحكام، ويمنعون القضاة من إعطاء الحكم بأنفسهم.
كذلك، كان من الضروري توضيح ما يتعلق بالتنظيم النقابي. فالمسؤول عن الحزب قايد أحمد قد أدخل البهجة على صدورنا حين قدم توضيحات تضع هذا التنظيم في اتجاه وديناميكية جديدين.
لقد تم بذلك تحقيق عمل ضخم على الصعيدين الأخلاقي والعقائدي. فنحن الآن بتنا نملك العقيدة الكاملة لتطورنا.
وفي الواقع يجب علينا في الوقت الحاضر أن نجسد هذا التوضيح العقائدي على المستوى التقني، ونتطرق هنا إلى المرحلة الأصعب من عملية إعادة تنظيم هذه القطاعات: جهازنا الإداري والقضائي، وبنياتنا الاقتصادية والاجتماعية والضريبية.
يجب وضع حد ل بعض العادات السيئة، وعلى الأخص فيما يتعلق بالعادات البيروقراطية التي تضع أعباء إضافية لا فائدة منها في مناهج التفكير (التخطيط) والتنفيذ عندنا، أو في إدارتنا للقطاع العام.
وعلينا أن نفهم هنا أن كل ثغرة من ثغراتنا تحدث في جهازنا وفي مجتمعنا فراغا لابد أن يملأه شيء ما. والشعب يسد حتما هذا الفراغ، إما على حساب ضميره، أو على حساب ماله. ولكي نفهم ذلك، يجب اللجوء إلى الأمثلة الدامغة التي استخدمها الرئيس نفسه.
فعلا صعيد الضرائب، تأتي صورة (المواطن الذي يلاحقه الشرطي) فتعطي مثالا ليس على حدث مادي فحسب، بل على حدث أخلاقي كذلك. فالمواطن الملاحق ليس مصابا في جيبه فقط، بل هو مصاب في وعيه لمواطنيته كذلك.
1 / 19
وعلى صعيد آخر، سعت البلاد أنها ورثت ٢٠٥٠٥،٠٠٠ هكتار من الأراضي التي كانت تكون أملاك المستعمرين الأغنياء. ما الربح الذي يمكنا أن تجنيه منها؟
لقد أعطى الرئيس التقديرات الدنيا. لو كانت هذه المساحة التي تكون اليوم أملاكا مسيرة ذاتيا قد أجرت بقنطارين فقط للهكتار الواحد، لدخل كل سنة إلى صندوق الدولة مبلغ ٢٥ مليار فرنك قديم. ولكانت الأعباء الضريبية المخصصة لبرنامج التنمية قد خففت بما يعادل هذا المبلغ.
ولقد استخلص الرئيس النتيجة المعبرة التالية: "إذا لم تعلل فكرة ما وجودها على الصعيد الوطني بالربح الذي تجنيه، فإنها لا يمكن أن تكون معصومة وكأنها آية قرآنية منزلة". هذا الكلام يجب أن يفهم كإشارة إلى الإدارة الذاتية. وهنا ندرك مدى أهمية مثل هذا التوضيح في أفكارنا الرئيسة.
ولكن، إذا كان هناك من ميدان يجب أن تطبق فيه هذه المتطلبات بحزم، فإنه ولا شك ميدان المؤسسة الوطنية ذات الطابع الصناعي، أو نوعا ما التجاري.
لقد أشرنا في حينه إلى أن تزايد الرموز يعكس في الواقع ظاهرة تشتت في وسائلنا- على صعيد الفكرة (التخطيط) كما على صعيد التنفيذ. وقلنا كذلك إن تكاثر الخطط الصغيرة لا يكون إطلاقا خطة وطنية. هذا على صعيد الفكرة (التخطيط).
أما على صعيد التنفيذ، فإن تكثر الخطط يعني على الأقل التبذير والاستعمال المزدوج لعاملين تقنيين، هم بشكل عام أجانب، يقبضون رواتبهم بالعملة الصعبة.
والأمر أشد سوءا على صعيد أوائلية العمل. في بادئ الأمر وعلى الصعيد الإداري، يفتح تكوين هذه الوحدات المتبعثرة الباب أمام احتكار مراكز الوظيفة والمراكز الاقتصادية. ويخلق هذا الاحتكار جوا يحصل فيه، كما يقول وزير المال، (صعود هائل وسقوط عنيف).
1 / 20
أخيرا، وعلى الصعيد العام، معظم هذه المؤسسات الوطنية التي تغطيها هذه الرموز تنمو لذاتها، وكأنها لا تكون جزءا لا يتجزأ من الجزائر. ويوجد ل بعض ها حتى (مجسات) في الخارج. ونحن نود لو نعرف ماذا تكلف البلاد هذه السفارات الفريدة من نوعها. فهي كلها تنمو مثل أقمار صناعية لا تمت بصلة لأرض الوطن، إلا حين تهبط لتتزود بالوقود.
إننا نعتقد أنه آن الأوان لاستعادة هذه الأقمار إلى الأرض الجزائرية ولاستردادها - إلى وزارة التخطيط ربما- كي تصهر في الخطة الوطنية. وسيكون النفع كبيرا، معنويا وماديا، بالنسبة للشعب الجزائري، إذا وضع حد لهذا التبديد، وهذا التبذير.
وأعتقد أنه ليس من العسف أن نستخلص هذه النتيجة من الخطاب الأخير للرئيس ومن خطاب وزير المال. إن ما نقوله هنا ليس سوى ملاحظات بديهية. وربما يفكر بعض هم أن كل الأمور سيئة في بلد تولد فيه التحولات والاضطرابات حتما نواقص ونقاط ضعف.
إننا نؤكد على نقاط الضعف عندنا كي نحضر أسس ثورتنا بوجه أفضل.
لأن طموحاتنا لبلدنا كبيرة، نحن متشددوت مع أنفسنا.
لأن من طبيعة ثورتنا مشاركة الشعب كذلك، لا يريد الحكام أن يخفوا عنه الحقيقة، مهما كانت مزعجة. وبالنسبة للجميع، ربما كانوا يحتاجون إلى مزيد من التوضيح في التعريفات والتوجيه. وهذا الأمر قد قضي. يجب السير الآن بتناغم مع الإرادة العامة ومع عزم وتصميم السلطة الثورية.
1 / 21
فلنتكلم عن العارضة (*)
يجب أن نغتبط للاهتمام الذي يوليه الرأي العام للمواضيع التي تناقش منذ الاعتداء الإسرائيلي. والدليل على هذا الاهتمام يظهر خاصة في أن المقالات التي تصدر باللغة الفرنسية تترجم غالبا، وتنشر في المجلات التي تصدر باللغة العربية.
هكذا نرى أن مقالي (لحظة التفكير) قد ترجم لأجل قراء العربية، أي لأجل السواد الأعظم من الرأي العام.
لقد قرأت هذه الترجمة، وانتابني شعور حقيقي بالإعجاب للمترجم. ولكن خطأ واحدا صدر عنه، وشوه تماما فكرتي حول نقطة أساسية، واستعجلني لأقول إنني لا أمارس هنا حتى ما بالتدقيق؛ إنما هو واجب بسيط يكتسب أهميته كما الظروف غير الاعتيادية التي نعيشها.
إن موضوع اليقظة الذي تذكرنا به في كل لحظة اليافطات المعلقة فوق شوارعنا، موضوع ذو أهمية عظيمة في هذه الظروف.
وأي خطأ في هذا الميدان إنما هو خطأ فظيع؛ خاصة إذا كان يتعلق بقطاع مهم من رأينا، وخاصة إذا كان يضع أمام أعيننا نوعا من التناقض مع مبدأ النقد الذاتي، وهو مبدأ لا ينفك يفرض نفسه في كل لحظة في البلد الثوري، ويتفوق في كل لحظة على كل المبادئ الأخرى.
وباختصار، أعيد وأترجم المقطع من جريدة الشعب: "ونحن إذ نحيي أصدقاءنا المتعاونين الذين يقدمون مساعدتهم القيمة، تقول (لهم) إن النظام يجب أن يستتب في البيت بادئ الأمر.
_________
(*) «Parlons de la poutre» Révolution africaine، no ٢٣٠، Semaine du ١٠ au ١٦ juillet ١٩٦٧.
1 / 22