14
بدأت المرحلة الثالثة من العناية بالزرع قبل ظهور السنابل وهي «الجلب». أخذ زربة يجر المحراث على ظهره، بينما كانت زوجته صفية تمسك بعصا المحراث. راءهما الوطواط فأقبل إليهما وتحدى زربة بجر المحراث إذا حرث هو عليه. قبل زربة التحدي وأخذ الوطواط يغرس المحراث بقوة في التربة فزاد زربة من سرعته بالتقدم للأمام وهو يقول: أقدر أجرك أنت والمحراث. وقف الوطواط فوق المحراث وصفية تمسك بعصا المحراث. حضر عبده راجح وكان الوطواط يقف على المحراث وزربة يجره بسهولة. ضحك وقال لصفية: والله، يا صفية معك ثور، ما شاء الله. مثل الحراثات التي رأيتها في الحبشة.
كان عبده راجح جنديا مع إيطاليا، في الحبشة لمدة عشرين عاما، حارب معها في الحرب العالمية الثانية، تقول أمه بهجة إن ليلة القدر ظهرت لها، ودعت حينها أن يعود ابنها من غربته، ولكنها لم تنس أن تقرأ مولدا للولي أحمد بن علوان. فقد استنجدت به مرارا أن يعيد ابنها كالأهالي الذين يطلبون قضاء مطالبهم من الأولياء، ويقدمون لأضرحتهم النذور: سمنا وبيضا وموالد أحيانا.
أقبل عيد الأضحى وكانت الفرحة فرحتين فرحتهم بجمع غلال حصادهم وفرحة العيد. دعا العاقل أهل القرية لحضور عرس ابنه عادل من زعفران ابنة خاله على محمد التي كانت تكبره بسنتين. أحضر العاقل الأخدام (المهمشين) من قرية الهجر، كان الرجال يقومون بضرب الطبول والنساء بالدفوف. أحضرت العروس وجلست بجوار عريسها في الديوان بين الحاضرين من أهالي القرية رجالا ونساء يمضغون القات ويدخنون المداعة. بدأت خادمتان بضرب دفيهما فقام والد زربة يرقص برفقة زوجة سعيد عبده، رقصة تسمى «زبيرية». رقصا معا حتى قام ناجي المقشش يرقص مع علوم زوجة عبد القوي. ظل كل رجل وامرأة يرقصان معا، حتى ذهب العريس مع عروسه إلى خلوتهما ليلا. مثل هذه العادات لم يعد لها وجود بسبب الفكر المتطرف الذي يمنع الاختلاط. حين حضرت والدة العروسة اليوم الثالث إلى بيت العريس للضيافة، عرفت أن ابنتها فاطمة ما زالت عذراء لأن عادل كان مجبرا على الزواج بابنة خاله، فلم ينم بجانبها حتى يوم الضيافة ثم أجبر بعد ذلك.
ذات يوم كان زربة عائدا إلى البيت من قرية نجاد وهو يحمل القات، واثنين كيلو حلاوة اشتراها من دكان مقبل الذي فتحه أخيرا بجوار الطاحون الذي اشتراه من عدن. نقل الطاحون من عدن على سيارة عبر الوادي إلى منطقة قريبة من الجبل حيث تقع قرية نجاد على قمته. ثم حمله عشرة رجال صاعدين به الجبل في طريق وعر. كان زربة خلال الطريق يلتهم الحلاوة، ولما وصل إلى باب داره لم يتبق منها إلا قطعة صغيرة لا تكفي لأولاده فأكلها. كانت زوجته تخفي الحلاوة أحيانا في مكان خفي، وحين تذهب لتأخذ منها لأولادها لا تجد منها شيئا والنمل يحوم حول المكان، فيضحك معها ويزعم بأن النمل أكلها، ويندب حظه كيف أن الحشرات أكلت أربعة كيلو حلاوة خلال أسبوع، لكن زوجته عرفت أنه كان يقوم ليلا ليأكلها.
15
عاد زربة إلى صنعاء وقد حملت صفية بطفل جديد، أسماه منير وهو في بطن أمه، وتراكمت الديون عليه للجزار مقبل وابنه حسن قيمة اللحم والقات والحلاوة. في يوم اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، كان في حي القاع مع الوطواط، في دكان ثابت ناجي وكان حاضرا معهم محمد مدهش وسعيد النجار. بمجرد أن سمع الوطواط بمقتل الحمدي، سافر خوفا من وقوع حرب في صنعاء، فيكفيه ما شاهده في أحداث أغسطس (1968م). تلك الأحداث الدامية التي شكلت عنده عقدة نفسية.
تحدث زربة مع محمد مدهش عن لقائه صدفة بجمال عمر الحكيمي، أحد الجنود الذين كانوا تحت إمرته، خلال حصار صنعاء. قال محمد بأسف بالغ: أعرفه، لقد دافعنا معا عن الثورة. ثم ذهب الاثنان واشتريا قارورة شراب. أثناء تناولها أخبره محمد مدهش أنه عضو في التنظيم السري للجبهة الوطنية.
بينما كان مدهش يسرد ماضيه، كان زربة يتناول الكئوس واحدا تلو الآخر، فشرب معظم الشراب. هكذا طبع زربة حين يكون أمامه القات أو لحمة أو حلاوة، يذهب إلى الحديث مع الشخص بالضحك والفكاهة، دون أن يتوقف عن التهام ما هو أمامه من متعة، غير مكترث بأي حديث يسمعه وخاصة الصراع على السلطة، الذي ينقل الإنسان إلى حياة الغابة. رجل لا يعرف الكره، حتى جاره عبد الرحمن في القرية كان لا يكرهه، وهو يؤذيه دائما على نصف متر من الأرض تقع بينهما. له فلسفته الخاصة في الحياة، يرى أن على المرء التمتع في كل لحظة هو فيها، وأن الكره طريق يؤدي إلى جهنم ويفسد متعة الحياة. كان يشعر بالأسى على أرامل الشهداء، اللاتي يزددن على الدوام. يفكر أن يتزوج منهن سرا؛ لأنه لا يريد أن يجرح مشاعر زوجته صفية. جلس ذات مساء يمضغ القات وحيدا، وعقله يحلق بعيدا، دخل عليه صديقه ثابت ناجي، ولم يكن يمضغ القات ذلك اليوم. قال زربة وهو يحك رأسه: يا ناجي، القات اليوم خلاني
50
صفحه نامشخص