فاستدرك زيطة في حماسة وسرور: وهكذا كنت يوما ما مولودا سعيدا، تلقفته الأيدي بالسرور، وحاطته العناية والرحمة، فهل تشكين بعد ذلك أني كنت ملكا؟ - أبدا يا مولانا!
وأسكرته حرارة الحديث ولذة الأمل، فمضى قائلا: وكان مولدي يمنا وبركة أيضا؛ ذلك أن والدي كانا شحاذين محترفين، وكانا يكتريان طفلا تحمله أمي في أثناء تجوالهما، فلما أن رزقهما الله بي أغناهما عن أطفال الناس، وفرحا بي فرحا عظيما.
فلم تملك حسنية أن ضحكت ضحكة مجلجلة، فازداد حماسة وحرارة، وقال مواصلا حديثه: آه من ذكريات طفولتي السعيدة! لا زلت أذكر مستراحي من الطوار؛ كنت أزحف على أربع حتى أبلغ حافة الطوار المطلة على الطريق، وكانت توجد تحت المكان المختار ثغرة في الأرض يركد فيها ماء من مطر أو رش أو دابة، يتكتل الطين في قعرها، وعلى سطحها يغني الذباب، وعلى شطآنها تتجمع نفاضة الطريق .. منظر ساحر يأخذ بالألباب .. ماؤها مطين، وساحلها زبالة متعددة ألوانها .. قشر طماطم، ونفاية مقدونس وتراب وطين، والذباب يحوم حولها ويقع عليها، فكنت أرفع جفني المثقلين بالذباب، وأسرح طرفي في ذاك المصيف الطروب، والدنيا لا تسعني فرحا.
فهتفت المعلمة ساخرة: يا بختك .. يا حظك.
ولذه سرورها وإقبالها على حديثه، فقال متشجعا: هذا سر ولعي بما يسمونه ظلما بالقاذورات، والإنسان خليق بأن يألف أي شيء مهما شذ وغرب، ولذلك أخاف عليك أن تألفي ذاك الحيوان. - أتعود أيضا إلى هذا؟
فقال وقد أعمته الشهوة وأصمته: طبعا .. لا قبل لإنسان بإغفال الحق. - الظاهر أنك زهدت في الدنيا. - لقد ذقت الرحمة مرة كما قلت لك في المهد.
ثم أومأ بيده إلى المزبلة التي تسكنها واستدرك: وقلبي يحدثني بأن لي حظا أن أذوقها مرة أخرى في مأواي هذا.
وأومأ برأسه إلى الداخل كأنه يقول لها: «هلمي» .. فتميزت المرأة غيظا، وأحنقتها جرأته، فصاحت في وجهه: حذار يابن الشيطان.
فقال بصوت متهدج: كيف لابن الشيطان أن يحذر غواية أبيه؟ - إذا هشمت عظمك؟ - من يعلم .. ربما أستلذ ذلك أيضا.
ونهض الرجل بغتة، وتراجع قليلا متقهقرا، كان يظن أنه بلغ مناه، وأن المعلمة أصبحت طوع يمينه، وقد تلبسته حال جنونية جعلته ينتفض انتفاضا، وثبتت عيناه على عيني المرأة في ذهول وبهيمية. ثم مد يديه بغتة إلى طرف جلبابه وخلعه بسرعة فائقة، وتجرد عاريا! وبهتت المعلمة لحظات، ثم امتدت يدها إلى كوز غير بعيد، وقذفته به بسرعة وقوة، فأصاب بطنه، وندت عنه آهة كالخوار، وسقط يتلوى.
صفحه نامشخص