ولم تدر ماذا تقول؟! فتعوذت بالصمت، وجرت كلماته متناغمة في أذنيها، فأخذتها نشوة الطرب، وودت ألا يسكت أبدا. وكانت حرارة العاطفة قد أذهلته عن وعيه فراح يقول: هذا هو الحب، هو كل ما لنا، فيه الكفاية وفوق الكفاية .. هو في القرب السرور، وفي البعد العزاء، وفي الحياة حياة فوق الحياة.
وسكت لحظة متنهدا، ثم استطرد: أسافر باسمه، وبفضله أعود وقد ربحت كثيرا ...
فتمتمت وهي لا تدري: كثيرا إن شاء الله. - بإذن الله، وببركة الحسين، وسوف يحسدك جميع أولئك الفتيات.
فابتسمت في سرور قائلة: آه .. ما أمتع هذا!
وانطوى الطريق وهما لا يشعران، فضحكا معا في فرح، ثم دارا على عقبيهما. وأحس في العودة أن اللقاء يقترب من نهايته، فعاودته أفكار الوداع والفراق، وخبت كثيرا نشوته، واعتوره الشجن، وعند انتصاف الطريق سألها بلهفة: أين أودعك؟
وأدركت ما يعنيه، وقلقت شفتاها، فقالت متسائلة: هنا؟!
ولكنه اعترض قائلا: لا أستطيع أن أخطف الوداع خطفا. - أين تريد إذا؟ - اسبقيني على البيت وانتظريني على السلم.
وحثت خطاها، وسار هو متمهلا فبلغ الزقاق وقد أغلقت دكاكينه، واتجه نحو بيت الست سنية عفيفي لا يلوي على شيء. وارتقى السلم محاذرا في ظلمة دامسة، كاتما أنفاسه، يدا على الدرابزين، ويدا تتحسس الظلام. وعند «البسطة» الثانية لمست أنامله طرف الملاءة، فخفق قلبه باعثا الشوق الحبيس في أطرافه، وقبض على ذراعها، واقترب منها في رفق، وأحاطها بذراعيه، ثم ضمها إلى صدره بقوة عنيفة تنطلق من صدر حنون مشوق، وهوى إليها بفمه، فوقع على أنفها، ثم هبط على شفتيها، وكانتا منفرجتين لاستقباله، وأخذته سنة من ذهول الحب لم يستيقظ منها حتى تخلصت من ذراعيه بلطف، ومضت مصعدة وهو يهمس وراءها «مع السلامة.» لم يبلغ بها الانفعال يوما ما بلغه هذا المساء على السلم؛ حيث في دقيقة قصيرة حياة طويلة مفعمة بالإحساس والعاطفة والحرارة، وحسبت أن حياتها قد ارتبطت به إلى الأبد. •••
وزار عباس الحلو أم حميدة تلك الليلة، مودعا .. ثم مضى إلى القهوة ومعه صديقه حسين كرشة ليمضي آخر سهرة فيها قبل سفره. وكان حسين يبدو مسرورا ظافرا لانتصار رأيه، وجعل يقول لصاحبه بصوته الذي ينم عن التحدي لسبب ولغير ما سبب: ودع هذه الحياة القذرة واستمتع بالحياة الحقيقية.
فابتسم الحلو صامتا، وقد أخفى عن صاحبه الكآبة القابضة على قلبه لفراق الزقاق الذي يحبه، والفتاة التي يهيم بها. وجلس بين رفاقه يعاني أشواقه المكتومة، ويتلقى كلمات التوديع وما تحمل من جميل الدعاء. وقد باركه السيد رضوان الحسيني ودعا له طويلا، وقال له ناصحا: اقتصد ما يفيض عن حاجتك من مرتبك، واحذر الإسراف والخمر ولحم الخنزير، ولا تنس أنك من المدق، وأنك إلى المدق راجع.
صفحه نامشخص